شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
قهرية المؤسسة الدينية وتلاشي الفلسفة... الإله يحيا أيضاً داخل الملحدين

قهرية المؤسسة الدينية وتلاشي الفلسفة... الإله يحيا أيضاً داخل الملحدين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 15 يوليو 202005:57 م

منذ بداية القرن العشرين، حيث أصبح الطرح النيتشوي حول موت الإله طاغياً، ورسخته الظروف اللاحقة من تجارب حروب وثورات وتغيرات مفهوماتية ومعلوماتية على مستوى العالم، بدأت تصعد نحو السطح نظريات رفض وجود الإله من خلال تساؤلات كثيرة، فلم يعد الإنسان قادراً على الانقياد الأعمى دون محاولة التفكير والبحث عن إجابات.

وبغض النظر حول ما يُطلق على تلك التساؤلات من أسماء: إلحادية، ربوبية أو لا أدرية، كما يرغب معارضو المتسائلين أن يطلقوا على أصحابها، أو الصراعات الجدلية في محاولة إثبات وجود الإله أو عدم وجوده، فهناك حقيقة لا يمكن لأحد التشكيك بها اليوم، أن الإله موجود بالمعنى الاجتماعي، وحتى بالمعنى المؤسساتي الداعم له كسلطات سياسية في العالم أو دينية، إنه أهم عنصر، وما زال المحرك الرئيسي لكل الصراعات حول العالم، حتى وإن لم تكن مؤمناً بوجوده. إنه حقيقة قائمة.

 المؤسسات الدينية بأسرها خاضعة لتلك القهرية السلطوية السياسية، لإنشاء القطيع البشري وقيادتهم دون تفكّر وراء أي فكرة تأتينا من تلك المؤسسة.

لكن نقاش الأمر من هذا المنطلق، سيضع الكثير في مرحلة التجاذب الذي لا يؤدي إلى أي نتيجة فعلية، فما يهم هو فهم أعمق للإله كقيمة بعيداً عن رؤية وجوده من عدمها، أو الحوارات السفسطائية التي لا تقدّم ولا تؤخر شيئاً من حقيقة رسوخ الإله في الوعي، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة: هل المشكلة فعلياً هو الإله أم مجموعة المتفقهين والمؤسسات التي حولته إلى متاجرة سياسية؟

بالنسبة لي شخصياً لا أستطيع إطلاق إجابة قطعية حول ذلك، لكن ما أدركه جيداً، بأني لا أهتم لأي مؤسسة قائمة لأنها دائماً تدور في فلك ترسيخ تفوق اجتماع مختف في جلباب الله على الآخرين. بمعنى أبسط: المؤسسة هي مفهوم فاشي بسلوكية قهرية، لقمع أي حراك أو تفكير مغاير أو تساؤل مشروع متعارض مع الكيان القائم، والمؤسسات الدينية بأسرها خاضعة لتلك القهرية السلطوية السياسية، لإنشاء القطيع البشري وقيادتهم دون تفكّر وراء أي فكرة تأتينا من تلك المؤسسة.

بعض النظر عن التساؤل السابق لأنه موضوع مستقل، ما يهم هي الفكرة حول الإله ووجوده اليوم.

في إحدى الجدليات التساؤلية التي ناقشتها يوماً، تحت اسم معضلة الأربعة، وهي تقوم على سؤال فلسفي مشروع، مثل مئات من الأسئلة الشبيهة والتي تتوالد يومياً في ذهن أي شخص يتأمل، ولو قليلاً، في محاولة فهم هذا العالم، تقول: لو طلبنا من الإله، أننا لا نريد الموت ولا الحياة ولا الخلود ولا العدم، فهل يمتلك الإله خياراً رابعاً لتقديمه؟ هل يستطيع أن يقدّم خياراً خارج الإطار المربع ذاك؟

ضمن منطق أن الإله كلي القدرة والمعرفة، فبالتأكيد يمتلك ملايين من الاحتمالات والخيارات لتقديمها، فمعرفته غير محدودة وقدرته لا نهاية لها، وعليه يستطيع أن يجد بدائل مليارية عن الاحتمالات الأربعة السابقة، فإن لم يستطع إيجاد بديل عنها فمعرفته وقدرته محدودة، وهذا يتعارض مع كينونة وجوده التاريخي والعقلي، لكن فعلياً ما هو الخيار الخامس أو المئوي الذي يمكن أن يقدمه الإله للإنسان غير الموت والحياة والخلود والعدم!

وتم طرح هذه المعضلة على أحد خريجي الأزهر بنقاش طويل، ولم يستطع الأزهري إيجاد أي جواب ممكن، سوى أن الإله قادر دون تحديد أي خيار خارج الاحتمالات الأربعة.

طبعاً لم أجادل أكثر من ذلك في المسألة، لكن هذا الطرح نقلني إلى مستوى آخر من التساؤل والتفكير، وهو ضرورة وجود الإله واستمراره في عالم اليوم.

عندما طرح نيتشه فكرة موت الإله، لم يكن القصد هو عدم وجوده بالمعنى المتعارف عليه، إنما هو انتهاؤه كقيمة، وهنا بتصوري أن رؤيا نيتشه هي تجريد فلسفي أكثر منه رؤية للذهن الواقعي، فالإله حتى اليوم ما زال يمتلك قيمة متداولة في الوعي البشري.

هناك حقيقة مسلّم بها، وهي أنّ وجود الإله قائم على مجموعة القوانين الناظمة للسلوك الإنساني، إن كان الإله متجسداً بتلك القوانين كصورة ديانات سماوية أم أرضية إسقاطية على تعبير وجوده، فجميعها تعبّر عن هيكلية الله الثقافية واستمراره، وعندما نقول هيكلية ثقافية فنحن نقصد الإله كحالة قائمة دون ترويج المؤسسة التابعة له وتشريعاتها الاجتماعية القهرية. فالاعتراف بوجوده أو عدم وجوده لا يغيّر أي حقيقة سلوكية بأن البشر ينتظمون أخلاقياً من ذلك المد الإلهي كثقافة نشوء له.

 هناك سؤال أساسي لقاعدة الشعب المؤمن، أيهما أكثر أهمية، وجود الإله كقيمة سلوكية في الذات، أم وجوده المنفصل عن الذات بصلة وصل مع البشر من خلال المؤسسة القهرية؟

عندما يكون هناك إحصاء في دولة كهولندا أن 60% من الشعب هم ملحدون، ويمتلكون مجموعة قوانين ناظمة لعدم السرقة وعدم الاغتصاب وعدم القتل وعدم التدخل في الحياة الشخصية، وتكون الجريمة في أدنى مستوياتها مقارنة بدول لها طابع ديني شمولي مؤسساتي، فنحن نفهم معنى الامتداد الإلهي في الذات الفردية لتلك الثقافة القائمة: إنها النظم الإلهية التي تحترم خصائص الوجود البشري. فمادة الأخلاق كبديل عن مادة الدين في المنهاج المدرسي هي امتداد لتلك الرؤية، والأمر ذاته يطبق على دولة كالنرويج، نسبة الملحدين بها تجاوز 75%، لكنها الدولة الأكثر أماناً وسلوكاً اجتماعياً ملتزماً. القوانين الاجتماعية المستمدة من روح الإله كمعنى أخلاقي للوجود في الذات وليست كفرض مؤسساتي.

هناك سؤال بديهي: ما الذي يقوله الإله للناس في كل العالم؟ ونعيد تكرار الفكرة، أننا نتحدث عن الإله بتجريده من المؤسسة القهرية التي شكّلته. إنه يقول بالضبط تلك القوانين الناظمة لاحترام الحياة البشرية، دون تدخل بشري مسيطر على الوعي الفردي الذاتي، بمعنى ثان، إنه يتجسد في السلوك الاجتماعي المتداول الموجود في دولة كهولندا، النرويج أو كثير من الدول الأخرى، نسبة الملحدين فيها أكثر من النصف! ألا يعني هذا أن الإله ما زال قائماً كقيمة في الذات البشرية، بغض النظر عن عدم الإيمان به؟

إذن، تلاشي الإله الفلسفي لا يغيّر من وجوده الاجتماعي والثقافي. إننا حتى اليوم نمتلك قيمة الإله الأخلاقية في أنفسنا، إن كنا مؤمنين أو ملحدين، دون وجود مؤسسة قهرية تفرض رؤيتها النفعية على المجتمع.

فمثلاً، الاعتذار سلوك إنساني راقٍ، لكن أليس في جوهره امتداداً لوعي ديني قائم على الاعتراف أمام الرب للمسامحة أو الشعور تجاهه بالندم؟ إنه لا يختلف من حيث الصياغة عن جعل الخاطئ يقدّم للمتأذي اعترافاً بالذنب، ليبرر لنفسه قبول الاعتذار كإله رمزي. إنه سلوك يمكن وصفه بالتمدن، لكنه امتداد لتلك الثقافية الموجودة لدى كل الآلهة وتجسيداتها الدينية، سماوية وأرضية. روح التسامح واحترام الخيارات البشرية طاغيان كلياً.

وهناك ملايين من الأسئلة التي يمكن أن نشاهدها في سلوك البشر اليومي، وغير قابلة للتفسير بالنسبة للأشخاص المنغلقين على وعيهم، والذين ينظرون لقناعاتهم أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة والآخرون خاطئون. ومنها ما يدعو شخصاً غير مؤمن بإله، ملحداً على سبيل المثال، لاحترام أهله أو مساعدتهم أو تقديم يد العون لشخص غريب أو المحافظة على التزاماته الأسرية؟

بإمكان أي أحد أن يرفض الفكرة لمجرد أنه يريد رفضها، نتيجة تشنجه الشخصي باعتباره مالك الحقيقة، أو نتيجة ترويج السلطات الفقهية لأشخاص يعارضونهم لمجرد أنهم يفكرون خارج نطاق تلك المؤسسات ولا يستطيعون السيطرة على آليات تفكيرهم، لذا يصبح تكفيرهم هو الحل الأمثل، لكن بكل تأكيد إننا نصادف يومياً مئات النماذج التي تختلف عن قناعاتنا، ومع ذلك هم أكثر أخلاقية من مؤمن يمارس الخضوع اللاتساؤلي تجاه من يعبده.

ما أريد قوله باختصار، إن الإله قد تم فصله كلياً من قِبل المؤسسات التابعة له، وإن قدّمت نفسها خاضعة له، والتي تقوم على تجييش القطيع البشري الذي لا يريد التفكير خوفاً من إغضاب الإله، وهذا بالضبط ما تريده المؤسسات الفقهية الدينية والتابعة للمؤسسات السياسية في أغلب دول العالم؛ والإله أيضاً بطريقة أخرى، يحيا في داخل البشري كمعنى ثقافي وأخلاقي ممارس حتى لدى أعتى الملاحدة في العالم.

الإله كقيمة في النفس الفردية ما زال حياً، والمؤسسات في المجتمعات الشمولية دينياً، تحاول قتل تلك القيمة الفردية وإرساء القيمة الجمعيّة الناتجة عنها، لإجبار الناس على الرضوخ لما تقوله المؤسسة الدينية وتسيّر البشر على هواها.

الإله كامتداد ثقافي موجود لدى الجميع، مؤمنين وغير مؤمنين، ملاحدة وربوبيين، وما عملية ترويج الصراعات التي تقوم بها المؤسسات الفقهية في تجييش البشر التابعين لها، إلا لترسيخ قوتهم الجاهلة التي يختلقون من ورائها سيطرة، اقتصادية، سياسية أو مكتسبات اجتماعية تقليدية، لفرض الطابع البطريركي كمنهج لا يجب تجاوزه.

في النهاية، ما يجعل البعض متفوقاً أخلاقياً ومعرفياً، ليس مقدار تبعيته الإيمانية العمياء، لأن هناك كثير من اللامؤمنين الأكثر أخلاقية من المؤمنين، بل هو إنهاؤهم للمؤسسة في وعيهم، واحتفاظهم بالإله كقيمة في الذات فقط

بالنتيجة، هناك سؤال أساسي لقاعدة الشعب المؤمن، أيهما أكثر أهمية، وجود الإله كقيمة سلوكية في الذات، أم وجوده المنفصل عن الذات بصلة وصل مع البشر من خلال المؤسسة القهرية؟

بالطبع سيكون جواب الديني العقلاني أن يكون الاثنان معاً، لكن هنا يظهر السؤال الأهم فعلياً، كيف يمكن أن تقتنع المؤسسة الدينية الفاشية (كمعنى فرض طاعة دون نقاش) والقهرية التي تستغل كل القطيع البشري، في جعل الإله يتشكل كقيمة في الذات، دون تدخل المؤسسة في تحريكه وفرضه ترهيباً وتخويفاً؟

هذه العملية تعني قطعاً إنهاء أي تفوق لسلطة المؤسسة الدينية التي تتحكم برقاب وعقول البشر، وتجذير الإله كقيمة أخلاقية فقط في الذات الفردية، التي تحافظ على الإنسان من مشاريع الزلل العنفي الذي تضخمه تلك المؤسسات لزيادة هيمنتها وثرائها ووجودها على حساب الجميع.

في النهاية، ما يجعل البعض متفوقاً أخلاقياً ومعرفياً، ليس مقدار تبعيته الإيمانية العمياء، لأن هناك كثير من اللامؤمنين الأكثر أخلاقية من المؤمنين، بل هو إنهاؤهم للمؤسسة في وعيهم، واحتفاظهم بالإله كقيمة في الذات فقط.

ربما قد تلاشى الإله فلسفياً، لكنه ما زال حاضراً كسلوك قيّم في جوهر الإنسان، حتى لدى الأكثر رفضاً لفكرة الإله.

--

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard