نمرّ من أمام بستان مثمر وربما نلتقط ثمرة أو اثنتين، تمرّ جارة بمؤخرة رائعة ، فنسترق نظرة أو اثنتين، ثم يتبادر لنا السؤال تلقائياً: هل هذا أخلاقي؟ لكن ماهي الأخلاق؟
إن كلمة "الأخلاق" محيرة فعلاً، فهي من الكلمات التي يجب إضافتها إلى كلمات أخرى لتحتفظ بالمعنى، إذ لا يكفي معناها المباشر لتدلّ على قواعد تطرح فارقاً بين الصواب والخطأ، هي ليست إشارات مرورية، والمعضلات الأخلاقية يومية لدرجة أننا نصطدم بها كل لحظة، وبالرغم من قِدَم "الأخلاق" كما نعرفها اليوم إلا أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالأديان لدرجة الربط بين الإلحاد واللاأخلاق.
سنتناول محنة النبي أيوب، التي تمتحن فيها الغايات النهائية للأعمال الإلهية كموضوع أخلاقي، من وجهة نظر مفكرين هما بول ريكور وسلافوي جيجك.
النبي أيوب
يضم الكتاب المقدس/ العهد القديم سفراً كاملا باسم النبي أيوب، من 42 إصحاحاً، وبينما يكون ايوب في العهد القديم، شخصاً انفعالياً يقارب الشخص الطبيعي بردود أفعاله، يشرب الخمر ويجدف أحياناً بالرب خالقه، يختلف الأمر في القرآن، فيرد ذكره في موضعين فحسب بالرغم من تشابه جوهر القصة في الكتابين، من الصبر على الابتلاء والدعاء للرب واستجابة الرب له، والعبرة واحدة في جوهر الدينين من أن السعادة هي مكافأة الفضيلة والصبر، والمصائب عقوبة الخاطئين، وكل هذا "الثواب والعقاب" يتأتيان من الله.
هل الوجود محكمة قاضيها الله والسعادة أو الآلام هي النتيجة النهائية للحكم؟ هل الله أخلاقي؟
لقد أهملت الفلسفة المعاصرة الأخلاق، كما يقول بيير هادوت في كتاب "ماهي الفلسفة" ويشرح في مقابلة معه، أن مجالها الحيوي، كما يرى سبينوزا أيضاً، هو الميتافيزيقيا، ويقول إن الفلسفة أي فلسفة لها ثلاثة أجزاء: المنطق، الفيزياء والأخلاق، لكن الواقع يقول أنها ثلاثة أجزاء مزدوجة، فهناك منطق نظري، فيزياء نظرية وأخلاق نظرية وبالتالي، منطق حي، فيزياء حية وأخلاق حية، وبالرغم مما تبدو عليه هذه الفكرة من براغماتية مقصودة، إلا أنه يخلص في النهاية إلى أن الأخلاق تعني العيش من دون الخوف من الآلهة، الآلهة التي تمثل، بحسب وجهة نظر الأديان الأخلاق الصافية، النقية، أو الكمالية في الأخلاق، الأخلاق هي ما يتبقى في العقل البشري بعد زوال الدين برمته، لكن هل حقاً الله، كما يبدو لنا في أعماله التي يتحدث فيها عن نفسه، على لسان أنبيائه على الأقل، أخلاقي؟
محنة أيوب بحسب بول ريكور (1913-2005)
منذ أول مقارباته الفلسفية في كتاب "رمزية الشر" 1960 تأمل بول ريكور في مشكلة الشرّ، ويرى ثلاثة رموز أساسية للشر، المعاناة، الخطيئة والشعور بالذنب، وينظر إليها من منظور شخصية أيوب المبتلى، حيث يصفه بأنه "الحقيقة الخاطئة للذاتية" حيث تكون رؤية الرب في البداية كشكل من أشكال التمييز عن باقي المخلوقات وكطريق لـ"إدراك الذات"، عبر رؤيتها أيضاً من خلال نظرة الله لها، إلا أنها لاحقاً تتحول إلى نوع من العقاب، حيث أصبح مشهد الله "رؤية معادية تطارده"، فالله الذي يقوم بوضع كل تلك الاختبارات والعذابات المتتالية، بغرض تفحّص إيمان نبيّه يتحول إلى كابوس يجعل نبيه "إنساناً مذنباً على الدوام"، وإذا فهمنا، كما يقول ريكور، نوايا الرب كنوايا أخلاقية بحتة، واعتبرنا كتابه المقدس عبارة عن "رؤية أخلاقية للحياة"، تصبح حكاية أيوب هنا عبارة عن عقاب مستمر وغير عادل.
تظهر قصة أيوب انهيار الفهم الديني للوجود باعتباره محكمة قاضيها الله والسعادة أو الآلام هي النتيجة النهائية للحكم، لكن في حالته يظهر شرّ يتجاوز الشرّ الذي يفترضه القصاص، حيث تصطدم "أخلاق الإنسان" بـ"أخلاق الله"، لأن ما يحدث هنا عبارة عن خلاف بين الله كمشرّع لقوانين أخلاقية لا يلتزم بها بالطبع ويتوقع من نبيه أن يلتزم بها.
تنفتح هنا حفرة إيمانية بين الرب الخالق والرب الأخلاقي، حيث تتم استعادة الخطايا السابقة على خلق أيوب للناس أجمعين، لكن أيوب يرفض هذا التفسير، ويدخل "بعداً جديداً للإيمان، الإيمان الذي لا يمكن التحقق منه" لا عبر التبرير ولا عبر الإجابات العقلانية.
"الإلحاد لا يستنفد نفسه في إنكار الدين وتهديمه، بل إنه يمهّد الأرض لإيمان جديد" لأن الدين القائم على الخوف من عاقبة الله أو الرغبة في ثوابه، هو الدين الأخلاقي الذي هو أساس المنع والإدانة، والإله الإلهي، مصدر الاتهامات والمحن، ومصدر الحماية والثواب، ووفقاً للفيلسوف بول ريكور، فإن موت الإله الأخلاقي يمكّن الانتقال إلى نوع جديد من الإيمان، إيمان مأساوي، طاهر
يربط ريكور مرة ثانية بين أزمة أيوب لتفهّم "أخلاق الله" وبين الإلحاد الجديد الناشئ في الفلسفة في ذلك الوقت، حيث يدافع عن الأهمية الدينية للإلحاد، قائلاً: "الإلحاد لا يستنفد نفسه في إنكار الدين وتهديمه، بل إنه يمهّد الأرض لإيمان جديد" لأن الدين القائم على الخوف من عاقبة الله أو الرغبة في ثوابه، هو الدين الأخلاقي الذي هو أساس المنع والإدانة، والإله الإلهي، مصدر الاتهامات والمحن، ومصدر الحماية والثواب، ووفقاً لريكور، فإن موت الإله الأخلاقي يمكّن الانتقال إلى نوع جديد من الإيمان، إيمان مأساوي، طاهر، ويعيد التذكير بأزمة الإله الأخلاقي التي أصابت أيوب، فيقول بهذا الصدد : من المهم أن نلاحظ أن أيوب على الرغم من انتقاده الشديد للرب بقي مرتبطاً به، وانتقاداته هي مجرد شكاوى محب.
أيوب وسلافوي جيجك
كانت محنة أيوب مع الرب الأخلاقي معضلة طويلة بالنسبة لجيجك، اعتبر فيها أيوب كمسيح، أو كبش فداء للإنسانية جمعاء في البداية، فيرى أن ثمة طابع ثوري لأيوب في سفره، من حيث كونه ضحية تتحدث وتعترض وتنتقد عدالة الرب الظالمة، حيث تظهر في الكتاب نفسه وجهة نظر الجاني والضحية جنباً إلى جنب، ويرى في أيوب مسيحاً أقدم من المسيح، أو هو المسيح الأول.
بعد ما يقارب عشر سنوات، يضيف بضع صفحات إلى الفكرة، حيث يقول إن الرب في اختباره لأيوب يقوم بما: "يشبه عروض هوليوود السخيفة، من استعراض لقدراته الفارغة" من استعراض صرف للسلطة، كما يؤكد مجدداً على عظمة أيوب في عدم استغلاله للـ"معنى" الكامن خلف محنته، فهو أول شخص "مادي" في الحياة، بتقبله تقلباتها دون بحث عما وراءها.
لا حقاً، يعيد جيجك التأكيد على هذه الفكرة لكن هذه المرة من داخل الإله نفسه، حيث "الله أيضاً لغز في الداخل"، ويرفض قبول فكرة المحنة أو الاختبار الإلهي أي منح المعنى لأي تجربة يمر بها الإنسان مما يستلزم التخلص من فكرة "الله الأخلاقي"، أو المعلم السري الذي يمنح معنى لكل شيء، ويكون له مخططات سرية خلف كل مصيبة.
"الحب هو دائماً الحب للآخر بقدر ما يحتاجنا، نحن نحب الآخر بسبب محدوديته"، وإذا أحببنا الله فلأنه غير كامل وغير متناسق، فالموقف الديني الحقيقي يتمثل في محبة الله عاجزاً وغير مكتمل، وليس القدرة التي تدير "العرض" بأكمله... قراءة في أخلاق الله
بين أيوب ريكور وأيوب جيجك
يمثل ريكور وجيجك استجابتين مختلفتين لفكرة المحنة غير العادلة بمقاربتهما، فبينما يرى ريكور أن المعاناة التي تبدو غير ذات معنى تصبح جزءاً من مخطط أكبر يراه الله ويبرهن عليه لاحقاً بإيمان أيوب، يرى جيجك الأمر من وجهة نظر مقاومة وثورية، فلا يستطيع القبول بأن يكون ثمة معنى خفي خلف هذه المعاناة.
وهذا ما يقود أيضاً للتناقض الثاني، حيث يرى ريكور أن أيوب يتعلم عبر محنته أن الله غامض، غير قابل للتحليل أو "الإمساك" بغاياته أي أنه لغز، هذا ما يوافقه عليه جيجك، لكنه يضيف بأن أيوب قد اكتشف هذا اللغز وهو أن الله عاجز وغير كامل بشكل ملحوظ، كما أن لفكرة الحب الذي يشعر به المؤمن، وهو هنا أيوب، للرب، مختلف عليها بشكل كلي، فبينما يرى ريكور أن أيوب قد أحب الله بدون غايات، بدون طمع في براء أو مغفرة، يرى جيجك أن مسألة حب الله بنفسها موضوع نقصان لا كمال، فيقول: "الحب هو دائماً الحب للآخر بقدر ما يحتاجنا، نحن نحب الآخر بسبب محدوديته"، وإذا أحببنا الله فلأنه غير كامل وغير متناسق، فالموقف الديني الحقيقي يتمثل في محبة الله عاجزاً وغير مكتمل، وليس القدرة التي تدير "العرض" بأكمله.
اعتمدت المقالة على دراسة للدكتور فريدريك ديبورفير Frederiek Depoortere، بعنوان The Faith of Job and the Recovery of Christian Atheism.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين