منذ يومين، قرأت منشوراً عابراً في فيسبوك، عن شاب أردني أضاع هويته الشخصية ونشر صورة عنها في صفحة على فيسبوك فيها آلاف المتابعين، آملاً أن يجدها أحدهم، نشرها وظلل خانة اسم الأم!، ما جعلني أتساءل عن "عقدة اسم الأم، الأخت أو الزوجة" في أذهان الأجيال الجديدة، وهل كان الأمر كذلك منذ القدم؟
نظر المجتمع العشائري في الأردن للمرأة بعين الفخر والعز، حتى أن العشائر كانت تتباهى بنسائها، وجعلت أسمائهن ألقاباً تعبر عن مكانة العشيرة في شيم البطولة والكرم والنخوة، كما أن العديد من فرسان وأبطال أبناء البادية الأردنية ومحافظات الأردن، كانوا ينادون بعضهم بأسماء أخواتهم وأمهاتهم وحتى جداتهم، كرمز يستذكرون من خلاله شرف سلالتهم في الكرامة والبطولة، ذلك الشرف الذي أصبح اليوم لدى جيل الألفية له معايير وشروط مختلفة ومتخلفة، منها إخفاء اسم الأخت، الأم وحتى الجدة، حفاظاً على "نقاء شرف" العائلة، حسب المعايير الذكورية لمجتمعاتنا.
"كانت العشيرة تربط اسمها بأنثى محددة تعتبر بمنزلة "الشيخة"، أي ذات الزعامة والقيادة، مثل الخنساء"
ربما لا يعرف جيل اليوم الخائف على "شرفه"، القصص من وراء الألقاب التي يسمعها حتى اليوم لبعض العشائر الأردنية، مثل "أخو خضرة، أخو عالية، أخو صبحة، وأخو سلمى..." وغيرها من أسماء، وعبر هذا التقرير يروي خبراء في التراث الأردني قصص تلك النسوة، خلال حديثهم مع رصيف22، مثل الدكتور نايف النوايسة.
قبل التطرق إلى قصة أخو خضرة وغيرها، فضل الخبير النوايسة العودة بذاكرة التراث العربي بشكل عام، عندما كان العرب قبل الإسلام يجد أن الشرف كله يتلخص بالتباهي بالأنثى، الأمر الذي خلق قيمة اجتماعية وأخلاقية لمكانة المرأة، وكيف كانت العشيرة تربط اسمها بأنثى محددة تعتبر بمنزلة "الشيخة"، أي ذات الزعامة والقيادة، مثل الخنساء.
وامتدت تلك المكانة للمرأة، كما يضيف النوايسة، إلى الإسلام، مثل شخصية صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي محمد، التي قادت مجموعة من النساء للوقوف في وجه من ذهبوا للتحرش بهن، عندما انصرف المسلمون لحفر الخندق، مستغلين ذلك الغياب الذي سرعان ما أحبطته تلك السيدات.
وأردنياً؟ سألت الدكتور النوايسة، الذي أجاب بسرده لقصة "أخوات خضرة"، وهو اسم يردده الأردنيون/ات على أبناء وبنات عشيرة المجالي، التي هي إحدى أكبر العشائر في محافظة الكرك جنوب الأردن، وخضرة، كما يقول، سيدة كركية، ليست من عشيرة المجالي بل من المدادحة، انتخت "لجأت" بأحد شيوخ المجالي وذلك قبل 150 سنة، في فترة الحكم العثماني، حيث تعرضت هي وغيرها من نسوة الكرك لمضايقات من جنود إبراهيم باشا المصري، الذي حاصر الكرك لمدة طويلة.
وفي يوم كانت خضرة ومجموعة من الكركيات في عين مياه تسمى "عين سارة" لجلب المياه، كما يسرد النوايسة، فمر من هناك الشيخ إسماعيل المجالي، الذي استقبلته خضرة بالصراخ: "ما تشوف المي تسيل على ظهورنا يا إسماعيل؟"، ليرد عليها: "ابشري وأنا أخوك يا خضرة"، تلك الـ"ابشري" التي ومنذ تلك اللحظة كانت سوراً منيعاً لحماية خضرة وباقي نساء الكرك من التعرض لأي مضايقة من الجند العثماني، حسب تعبير النوايسة، هي ليست قولاً فقط بل فعلاً أيضاً، عندما هاجم الشيخ إسماعيل ومجموعة من شباب عشائر الكرك، عدداً من ضباط وعساكر إبراهيم باشا المصري بالسيف، ونالوا الوعد بأن لن تمس شعرة من خضرة ولا غيرها.
"لماذا تغير الحال اليوم يا دكتور؟" هنا جاءت لقطة مقاطعة حديث النوايسة، الذي أجاب: "الخجل الذي يصاحب جيل اليوم من نطق اسم الأخت والأم والزوجة هو خجل ليس له لا أصل ولا فصل، فالإسلام والحضارة العربية بريئون من هذا الخجل المخجل، فالتباهي بقيمة المرأة هو جزء من هويتنا وعاداتنا، حتى أنا أنادي أخواني بـيا أخوات سلمى، فعشيرة النوايسة التي أنتمي إليها معروفة بأخوات سلمى"، أما ما وراء لقب أخوات سلمى، فبحسب قوله، تاريخ القصة ليس معروفاً، لكن بالتأكيد أن سلمى تلك كانت امرأة أردنية تستحق التباهي باسمها.
نظرت عشائر الأردن للمرأة بعين الفخر والعز، حتى أنها كانت تتباهى بنسائها، وجعلت أسمائهن ألقاباً تعبر عن مكانة العشيرة في شيم البطولة والكرم والنخوة، كما أن العديد من فرسان وأبطال أبناء البادية الأردنية والمحافظات، كانوا ينادون بعضهم بأسماء أخواتهم وأمهاتهم
ثورة الكرك
"يا سامي باشا ما نطيع ولا نعد رجالنا
لعيون مشخص والبنات ذبح العساكر كارنا"
هكذا بدأ حديثي مع الصحافي والخبير بتاريخ الأردن السياسي، سهم العبادي، رددنا البيتين اللذين هما من قصيدة كانت وما تزال العلامة الثورية لثورة الكرك المعروفة باسم ثورة "الهية" في العام 1910، كان الثوار يرددونها فخراً وقهراً على حال مشخص وشقيقتها بندر المجالي، اللتين تعدان أول معتقلتين سياسيتين أردنيتين، اعتقلهما جنود الحكم العثماني، وزجوهما في سجن محافظة معان، حتى أن المعتقلة بندر أنجبت ابنها حابس المجالي، كما يسرد العبادي، داخل السجن.
ويقول، كان السجن الذي تواجدت فيه بندر ومشخص بمثابة الفندق، حيث كان أبناء العشائر في معان لا ينفكون عن زيارتهما، حتى أن بعض الشيوخ هناك عرضوا على الجنود العثمانيين استبدال مشخص وبندر ببناتهن، خصوصاً وأن بندر كانت في شهورها الأخيرة من الحمل، وباءت تلك المحاولات بالفشل، وأنجبت بندر حابس المجالي الذي يعد أسطورة الجيش الأردني وبطل معركة اللطرون ومعركة باب الواد.
ليست مشخص وبندر وخضرة وسلمى فقط من "انتخت" لهن رجالات العشائر الأردنية، فعالية الضمور لها نصيب كبير من ذلك العز، حسب العبادي، ومن هنا يواصل سرد قصة "أخوات عالية": عالية كانت زوجة أحد شيوخ محافظة الكرك، إبراهيم الضمور، وفي العام 1843 لجأ الشيخ قاسم الأحمد هارباً من فلسطين إلى الأردن، وأصبح دخيلاً على الشيخ الضمور.
ولم يسلم الشيخ الأحمد من العثمانيين رغم الأمان الذي يتوفر لحظة أن تصبح دخيلاً عند أحد شيوخ العشائر في الأردن، كما يستكمل العبادي حديثه، حيث لحق به جيش إبراهيم باشا الذي قايض الشيخ على الضمور، إما تسليمه أو حرق ولديه علي وسيد، وهنا جاء دور عالية عندما صرخت أمام هذه المقايضة: "النار ولا العار يا إبراهيم".
العار بالنسبة لعالية الضمور لم يتوقف بأن يقوم زوجها بتسليم دخيلهم، حسب تعبير العبادي، بل أيضاً بأن يُحرق أبناؤها بحطب العثمانيين، حيث طلبت من زوجها جمع رزمة من الحطب وتسليمها لإبراهيم باشا، الذي استقبل الحطب بحرق علي وسيد، وكلما كانت النار تأكل من جسد ابنيها كانت تقابلها عالية بالزغاريد.
كانت المرة الأولى التي اكتشفت فيها أن من وراء عبارة "الطخ لأبو موزة" هناك قصة. وهي عبارة يرددها الأردنيون/ات كثيراً عندما نسمع أصوات طخ في الأعراس والمناسبات، القصة بحسب رواية العبادي، أن موزة هي ابنة لعشيرة العبيدات شمال الأردن، ضرب بها المثل لحنكتها وجمالها، تقدم لخطبتها أحد أمراء الدولة العثمانية فقابلته بالرفض، وبعد ضغوطات عليها وعلى أهلها قبلت على مضض.
وبعد زواجها منه، اصطحبها معه إلى الحج، وفي طريق العودة توفي الأمير العثماني، ويقال بأنها دست له السم بالطعام، كما يقول العبادي، وبعد عودتها لأهلها تكالبت عليها بعض العشائر بمساندة بعض العثمانيين، طمعاً بنيل رضى الدولة ومنحهم صك حماية الحجيج وجمع الضرائب لكسب المال، فهاجموا أهلها ونزح الكثير منهم إلى مناطق الأغوار وأريحا وغيرها من المناطق، ولما لم يطب لعشيرتها ما حدث، وبالأخص أن بعض النساء فقدن أطفالهن خلال رحلات النزوح، لجأن إلى شيخ من عشيرة الشريدة شمال الأردن، فهب لنجدة عائلة موزة كما يختم العبادي، وقاتل كل من اعترضهم، وأصبح الطخ "لأبو موزة"، كناية عن كثرة الطخ إكراماً لموزة ولعائلتها.
"اليوم شاب جامعي متعلم يخجل من ذكر اسم والدته أو أخته أمام أصدقائه، اعتقاداً منه أن ذكر هذا الاسم فيه شيء من الحفاظ على سمعته وعفته، وكأن نساء عائلته نقطة ضعفه التي يريد أن يخفيها عن الآخرين، لكيلا يستغلوا هذه النقطة للإطاحة بسمعته وشرفه!"
العادات والتقاليد والدين
"لماذا تغير الحال اليوم؟ ولماذا أصبح مجتمعنا يعامل المرأة كأنها أقل قيمة من الرجل؟"، ذات السؤال سألته للأخصائية في علم الاجتماع، الدكتورة فاديا الإبراهيمي، أجابت لرصيف22: "في الواقع أن مكانة وقيمة المرأة تختلف من مجتمع إلى آخر ، وحتى من فترة إلى أخرى في نفس المجتمع، وهذا يرتبط بعوامل تتحكم في تقييم ومكانتها وضع المرأة في مجتمعاتنا، وأهم هذه العوامل وأكثرها تأثيراً هو العامل الثقافي المرتبط بالإرث الاجتماعي، من عادات وتقاليد المجتمع ومن الموروث الديني، لأننا بطبيعتنا مجتمعات تاريخية نستمد معتقداتنا وسلوكنا الاجتماعي من العادات والتقاليد ومن الدين".
وأضافت: "بالنسبة للدين الإسلامي، لم ينه عن ذكر أسماء النساء ولم يخجل بها، فهناك سورة كاملة في القرآن الكريم لمريم بنت عمران، حتى الرسول محمد كان يُفصح عن أسماء بناته وزوجاته دون خجل أو تحفظ، وعندما سُئل: من أحب الناس إليك قال: عائشة".
إذن، من أين جاء التقليل من شأن المرأة إلى مجتمعاتنا؟ تسأل الدكتورة فاديا، وتجيب: "أعتقد أن أي سلوك اجتماعي له بالغالب جذور تاريخية امتدت منذ قديم الزمن لتصل إلينا على هذا الشكل، وهذه الجذور مرتبطة بالعهد الأول للمجتمعات العربية في عصر الجاهلية، عندما ربط هذا العصر قيمة المرأة بعقدة الجسد، وجعل هذا الجسد رمزاً وهمياً لشرف وعفة الرجل".
وتتابع: "ومنذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة مازال الرجال في مجتمعاتنا الذكورية يسيرون على خُطى أجدادهم الذين كانوا بعيدين كل البعد عن العلم والمنطق والتحضر".
وتستشهد بمثال: "اليوم شاب جامعي متعلم يخجل من ذكر اسم والدته أو أخته أمام أصدقائه، اعتقاداً منه أن ذكر هذا الاسم فيه شيء من الحفاظ على سمعته وعفته، وكأن نساء عائلته نقطة ضعفه التي يريد أن يخفيها عن الآخرين، لكيلا يستغلوا هذه النقطة للإطاحة بسمعته وشرفه!".
والأخطر كما تختم، هي الشتائم المرتبطة بذكر اسم الأخت أو الأم كنوع من التجريح المقصود الذي يشعر الرجل أنه "استهدف شرفه"، وتضيف: "يجب أن نعود لتلك الحقبة الجميلة عندما كانت الرجال تتباهى بذكر أسماء أخواتهم ويقولون: أخو رشيدة وغيرها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون