عام 1939، أُنجز مشروع سد الكوت على نهر دجلة بإشراف بريطاني. وفّر المشروع الماء والكهرباء لمحافظة واسط، لكنه حرم الأهوار من كميات المياه التي تُنعشها وتُنجح الزراعة فيها. لم يقاوم سكان الأهوار في محافظات ميسان وذي قار شح المياه كثيراً، وسرعان ما بدأت هجرتهم الجماعية نحو العاصمة بغداد.
لم يجد الوافدون خياراً في العاصمة سوى العيش على هامشها، في منطقة تقع في شمال شرقها على بعد 20 كيلومتراً من وسطها، باتجاه محافظة ديالى، بجانب الرصافة.
استقر هؤلاء في مناطق شاسعة تحتوي على "مبازل" (مصافي) للمياه وحقول لزراعة الخضروات. عملوا كباعة متجوّلين أو فتحوا أكشاكاً صغيرة، واختار بعضهم العمل في ورش بناء.
لم يحتج مَن بقوا في الأهوار إلا أن "يدشن" أقرباؤهم الحياة ناحية العاصمة، ليستقوا منهم أخباراً عن ظروف المعيشة فيها، مع قناعتهم بأنها مهما تكن فهي أفضل من الأهوار التي بدأت تشيخ وسط وجع الذكريات، بعدما فقدت خضرتها وماءها وحتى وجهها الحسن. الهدوء الذي اعتادته الأهوار أحاله الجوع إلى نكد وغم.
استمر الأقرباء بالتوافد إلى العاصمة، وتوزعوا حسب القرابة ليشكلوا تجمعات صغيرة متراصفة، وأخذوا يبنون بيوتاً من الطين والصفائح المعدنية، وباتت المدينة مقسّمة وفق معايير عشائرية، فظهر "قطاع السواعد" و"قطاع البودراج"... وشكّل "الشروگ" (الوافدون من الشرق، وهم أبناء محافظات ميسان والناصرية والبصرة) العمود الفقري للقوى العاملة في العاصمة الصاخبة.
"جريمة سكانية"
لم تُدخل حكومات الفترة الملكية في حساباتها هؤلاء الوافدين، فلم تكن مناطقهم ضمن الخرائط العمرانية للعاصمة بغداد.
ولكن تأسيس الجمهورية العراقية، بعد ثورة 1958، بزعامة عبدالكريم قاسم، مثّل تحولاً نوعياً لـ"الشروگ" الذين شعروا بأهميتهم في عهده، كما حين وزّع قطع أرضٍ على السكان ليبنوا عليها. احتفظ هؤلاء بالمودة والذكر الطيب للزعيم حتى بعد وصول البعثيين إلى السلطة وإشهارهم المعاداة له ولعهده.
هكذا نشأت "مدينة الصدر". يثير تصميم المدينة الاستغراب، إذ لم يراعِ التطور وعامل الزمن: منازل متداخلة رغم المساحة الشاسعة، أزقة ضيقة يُدخل السكان بصعوبة بالغة الأثاث الجديد عبرها، فيما يتعذر في كثير منها إجراء أي ترميم لاستحالة إدخال مواد البناء.
وفقاً للمخطط العمراني للمدينة، قُسّمت إلى 79 قطاعاً، مساحة الواحد منها تبلغ نحو 25000 متر مربع، فيما تبلغ مساحة البيت الواحد عند التوزيع 140 متراً مربعاً. انشطرت المدينة بمرور الزمن على نفسها، وتحديداً بعد التضخم السكاني الكبير الذي شهدته، حتى أصبح من الطبيعي أن يسكن الـ70 متراً مربعاً عائلة تتجاوز الثمانية أشخاص.
يصف المعماري لؤي العلي تصميم المدينة بـ"الجريمة السكانية"، ويضيف: "هي أشبه بسجن كبير يُراد منه السيطرة على السكان. منازل مرصوفة على شكل مربعات متداخلة، لم تراعِ معايير التهوية والإضاءة، فضلاً عن التطوير في المستقبل".
يوضح العلي رأيه بالقول: "لا يمكنني الجزم بأن الهدف سياسي، لكنه مكّن الحكومات المتعاقبة من إحكام قبضتها على المدينة، ومَنَحها مرونةً في ضبط الأمن وملاحقة المطلوبين"، مبيناً أن "التصميم الأساسي يمنع أي تطوير أو تعديل سواء من السكان أو الحكومة خاصة بعد عمليات الانشطار التي نفّذتها العوائل عند تقاسمها حصتها". برأيه، "أفضل حل هو إنشاء مجمعات سكنية في مناطق أخرى".
"الثورة" هو اسمها البِكر الذي أطلقه عليها مؤسسها عبد الكريم قاسم عام 1958. الانقلاب البعثي الذي أطاح بـ"الزعيم" سمّاها "حي الرافدين"، ثم حملت اسم "مدينة صدام"، وبعد الاحتلال تحوّلت إلى "مدينة الصدر"... هي المدينة التي وُصفت هندستها بـ"الجريمة السكانية"
ويضيف العلي لرصيف22: "المدينة مصممة وفقاً لما يُسمى علم المستوطنات البشرية، وهو مصطلح يطلق على مدن ليس متاحاً لها أن تنمو بصورة طبيعية، وفقاً لاحتياجاتها للمواصلات والمنافذ الحيوية، ويفتقر التصميم لأية لمسة شخصية أو جمالية".
من "الثورة" إلى "الصدر"
حاول كل نظام تولى الحكم في بلاد الرافدين قطع الصلة مع الذي سبقه. "الثورة" هو الاسم البِكر للمدينة، أطلقه مؤسسها عبد الكريم قاسم عليها تيمناً بثورة 14 تموز/ يوليو 1958، وهو أكثر الأسماء تجذراً في وجدان أبناء المدينة.
الانقلاب البعثي الذي أطاح بـ"الزعيم" أطلق عليها "حي الرافدين"، بعد تسلم الرئيس عبد الرحمن عارف عام 1966 الحكم. تلاشى الاسم بمرور الزمن، حتى انقلاب صدام حسين عام 1978، فحملت اسم "مدينة صدام" حتى احتلال العراق عام 2003.
بعد الاحتلال، تحوّلت إلى "مدينة الصدر"، تيمّناً بالمرجع الديني الشيعي محمد الصدر، والد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وأصبحت أهم قلاع أنصاره.
ارتبط اسم المدينة بالصدر بوصفه الأب الروحي للصحوة الإيمانية التي عاشتها المدينة في فترة التسعينيات من القرن الماضي، حين تاب المجرمون وقطاع الطرق، وأخذوا يطرقون الأبواب لطلب السماح من ضحاياهم.
هاجس السلطات
شكلت المدينة هاجساً للسلطات، ففي أزقتها الضيقة كانت تعمل التنظيمات المعارضة، اليسارية والإسلامية، بينما مثّلت بداية حكم صدام حسين الفترة الدموية في تاريخها، إذ كان فيها مراهقون تربّوا على حكايات الرثاء لـ"الزعيم المؤسس للجمهورية"، عبد الكريم قاسم، وتنظيمات شيوعية وإسلامية مُلاحَقة يتعاظم لديها الشعور بالظلم، وهو ما دفع نظام صدام حسين إلى مضاعفة الاستبداد تجاهها، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
أسس نظام صدام مديريتين للأمن العام عُرفتا بـ"اليد القمعية الضاربة للنظام"، وعزز قبضته بمعسكرين للجيش في الشمال والشمال الغربي، فضلاً عن تنظيمه لعدد كبير من الأهالي كمخبرين لدى مديرية الأمن.
جاءت حرب الثمانينيات مع إيران لتكون عاملاً مساعداً للسلطة كي تتخفف من إزعاجات المدينة، فساقت الآلاف من سكانها إلى أرض المعركة. سرعان ما اتشحت جدرانها بالسواد، فيما غُيّب المئات في أبنائها سجون الأمن بتهم الانتماء لأحزاب سياسية مُعارضة.
ينبوع الدم
بالرغم من تغيير النظام عام 2003، إلا أن المدينة بقيت المصدر الرئيسي للدماء. ينبوعٌ لا ينضب.
مع أول ملامح التغيير، شكّل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر "جيش المهدي" الذي أعلن مقاومته للاحتلال الأمريكي في عموم البلاد، بعدما ورث زعامة أنصار والده، وبنى قاعدة مكّنته من تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية.
"المدينة مصممة وفقاً لما يُسمى بعلم المستوطنات البشرية، وهو مصطلح يُطلَق على مدن ليس متاحاً لها أن تنمو بصورة طبيعية"... ظروف عدة تضافرت، حوّلت "مدينة الصدر" - منذ تأسيسها في الخمسينيات - إلى عزاء كبير
في تلك الفترة، كانت المدينة صاحبة حصة الأسد في العاصمة بغداد، ما دفع قوات الاحتلال إلى محاصرتها أكثر من مرة. ثم ألقت سنوات الاقتتال الطائفي الذي أعقب تفجير ضريح الإمامين العسكريين في سامراء، ودخول جيش المهدي كطرف رئيسي في المواجهة مع تنظيم القاعدة، بظلالها عليها.
يُضاف إلى ما سبق، معاناة أبناء المدينة من غزوات السيارات المفخخة التي اجتاحت أسواقها المكتظة وحوّلت روّادها إلى أشلاء بشكل مستمر حتى اعتادوا الأمر، إلى درجة أن من كان يُعثر على جثته وقتها كان يُعتبر محظوظاً.
وعند تمدد داعش، انخرط شباب المدينة في فصائل الحشد الشعبي المنشق معظمها عن جيش المهدي، ليعود السواد ويكسو المدينة.
تلك الظروف حوّلت المدينة إلى عزاء كبير على مر السنوات، فبات من الطبيعي مشاهدة حشود من العباءات السوداء يوم الجمعة عند التقاطعات الرئيسية تنتظر سيارات الأجرة المتجهة إلى مقبرة وادي السلام في النجف.
كونٌ موازٍ... عزلة اجتماعية
يتعامل سكان المدينة على أنهم خارج سياق العاصمة، وهذا ما يعززه موقف شريحة كبيرة من البغداديين منهم كما يقولون، إلى درجة أن شبابها سُمّوا بـ"الألمان" بسبب ملابسهم الغربية فاقعة الألوان وتسريحات الشعر الغريبة لمعظمهم، حين يذهبون إلى الأسواق والأماكن العامة في الأعياد والمناسبات، والتي يحاولون من خلالها الاندماج مع المجتمع.
يقول حسن وادي (19 عاماً): "حياتنا للعمل في الأسواق. كعمال بسطاء نقضي معظم وقتنا في الأعمال البسيطة التي تؤّمن لنا قوتنا اليومي، فيما نقضي وقتاً بسيطاً في المقاهي الشعبية داخل المدينة، لا نملك وقتاً للتنزه ولا الاستمتاع بملابسنا".
ويشكو: "نشعر بأنفسنا غرباء عند الذهاب إلى المناطق الحيوية وسط بغداد. عدم احتكاك معظمنا مع سكان من خارج المدينة يُصعّب علينا التماهي مع المجتمع، والكثير ينظر لنا باشمئزاز وكأننا كائنات فضائية، نحاول الرقص والغناء أيام العيد في المنتزهات العامة، طريقتنا غريبة على الآخرين لكنها لا تمس خصوصيتهم ولا تنال منهم"، موضحاً: "بعضنا تجاوز هذه المرحلة، لا سيما مَن توفّرت له الظروف لإكمال دراسته ودخول الجامعات، لكن المعاناة تبقى من ردة فعل كثر عندما يعرفون أن أحدهم من سكان المدينة، وبعضهم يستغرب عندما يكون ابن المدينة بملامح وملابس طبيعية".
"نشعر بأنفسنا غرباء عند الذهاب إلى المناطق الحيوية وسط بغداد. عدم احتكاك معظمنا مع سكان من خارج المدينة يُصعّب علينا التماهي مع المجتمع، والكثير ينظر إلينا باشمئزاز وكأننا كائنات فضائية".
يتابع وادي، في حديثه لرصيف22، شارحاً ظروفه: "لم أستطع إكمال الدراسة، وكثر مثلي يعيشون وسط عائلات كبيرة بمنازل صغيرة، يحاول الجميع العمل لتأمين مصروفهم على أمل ادّخار مبلغ يضمن سكناً جديداً، وبالرغم من كل هذه الظروف طبيعتنا الاجتماعية تدفعنا للزواج بسن مبكر، فأنا مثلاً لدي طفل وأنتظر مولوداً آخر".
"الاحتجاجات الأخيرة ساعدت كثيراً في التعرف على شباب من مناطق أخرى وقلصت الفجوة بيننا"، يلفت الشاب ويضيف: "نتواصل باستمرار. كثيرون منهم زاروا المدينة وتجولوا فيها"، موضحاً أن "الاحتجاجات الأخيرة أشعرتنا بوحدة مصيرنا مع باقي سكان العاصمة والبلاد. في السابق، كنا نشعر أن الفقر والحرمان مسلّطان علينا وحدنا، لكن تبيّن أننا مخطئون. كثيرون من الشباب يعانون لكن بشكل مختلف، مدنهم أفضل وعوائلهم صغيرة، لكننا كنا نتلقى القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي سوية، نسند بعضنا البعض. لحظتها أيقنا أن مصيرنا واحد".
تغيّرت بعض الأمور في الفترة الأخيرة. تخلخلت قاعدة الأحزاب في المنطقة، خاصة بعد مشاركتها في قمع حركة الاحتجاجات الشعبية، وإرجاع قناصيها الشباب إلى مداخل المدينة، وحصارهم في أشهر ساحاتها، ساحة الحمزة، وقتل العديد منهم.
هذه العوامل، فضلاً عن تدني مستوى الخدمات والإهمال الذي تعاني منه المدينة ساهمت بخلق مزاج عام مضاد لجميع الأحزاب المشاركة في السلطة. لم تعد جهة صاحبة أنصار أكثر من غيرها في أزقة المدينة. الرفض يستهدف الجميع، وكذلك الشتائم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...