في إحدى المدارس الأهلية العراقية، يقف علي محسن على باب أحد صفوف الأول الابتدائي ليقرأ أسماء "البراعم الجدد"، وبجانبه يقف مدير المدرسة الستيني الذي استحقّ تقاعده ولكنه عاد إلى العمل بسبب محدودية راتبه التقاعدي.
يقول علي المتحصّل على بكالوريوس في الفيزياء ولكنه لم يحصل على وظيفة أفضل من وظيفة معلّم، نظراً لندرة فرص العمل في العراق: "كل يوم، أراقب وجه المدير حين تعلوه ابتسامات، خاصة عندما أقرأ اسم الطفل باقر فادي"، ويضيف أن هناك أسماء عدة يبدي المدير ردات فعل متنوعة في استقبالها، لكن لباقر فادي ردة فعل خاصة من المدير، حتى أنني صرت ألحّن اسمه بإيقاع طويل لعلي أجد ردة فعل جديدة منه.
ذات مرة، سأل علي مديره عن السبب. "قال لي: بني، هكذا يناديني، وين في طفل اسمه باقر وأبوه اسمه فادي؟". فباقر هو لقب الإمام الخامس بين أئمة الشيعة الإمامية وظهر مع موجة صعود الإسلام السياسي الشيعي بينما فادي اسم "حديث". عدت برقبتي إلى الوراء وأخذت أحاول إعادة حاجبيّ إلى مكانهما الطبيعي. خرج المدير من عندي وهو يتمتم "عمرنا خلص وهذه الحالة ما راح تخلص".
هيمنة السياسة على الأسماء
عاش العراق مراحل سياسية متعددة ومتناقضة في بعض الأحيان. كان عنواناً للتقلبات السياسية منذ قدم تاريخه وصولاً إلى تأسيس الدولة الحديثة قبل قرن من الآن. وهذه الدولة التي تأسست تحت الانتداب البريطاني بملكية دستورية وحكومة ومجلس أمة شهدت بدورها تغيّرات كثيرة. ساهم كل ذلك في صناعة الأسماء في العراق.
يقول أستاذ التاريخ السياسي في الجامعة المستنصرية الدكتور عصام الفيلي، في تعليقه على حادثة مدير المدرسة: "نعم. أتفق معه فعلاً. فنيت أعمارنا وأعمار أجدادنا وما زلنا نعاني من نفس المشكلة: هيمنة السياسة علينا في أسمائنا وفي صناعة بيئاتنا ومستقبلنا".
ويضيف الفيلي الذي بدا وكأن أحدهم نكأ جرحاً ما فيه: "عانى العراق من هذه الظاهرة وما زال يعاني. بداية، قبل تأسيس الدولة العراقية، كان الرمز السياسي مجزأ حسب طبيعة المجتمعات داخل المجتمع، فتارة تجد رجل الدين المعتمد في المنطقة رمزاً سياسياً وتارة أخرى تجد الإقطاعي أو صاحب المال رمزاً سياسياً، أما الظاهرة في تجلياتها فتجدها عند الطبقة المثقفة والتي غالباً ما تتأثر بأسماء الولاة والسلاطين العثمانيين".
ويتابع: "برزت أسماء كحكمت ومراد وشوكت وجودت وبهجت وأحياناً عبد الحميد وسليمان وهكذا".
ويرى الفيلي أن هذه الأسماء بقيت مسيطرة في مرحلة الملكية العراقية لأن مَن تصدر إدارة الدولة في هذه المرحلة كان إما من العسكر التركي أو رجالات البلاط أو ممن هم حول السلطة.
وعن أسماء شاعت نتيجة تأثر الناس بالسياسة، يذكر الفيلي أن مرحلة الملك فيصل الثاني، آخر ملوك العهد الملكي في العراق، كانت أكثر وضوحاً إذ تأثر الناس بأسماء عبد الإله، نسبة إلى الوصي على العرش الهاشمي، وتأثروا بمحمد فاضل الجمالي ونوري السعيد وصالح جبر (رؤساء الحكومات في العهد الملكي) وحتى بأسماء النساء كفاضلة وعالية، نسبة إلى نساء البلاط الملكي في العراق، وغيرها.
يحاول الفيلي تفسير ما يقوله. يقطع كلامه بجملة اعتراضية: "إنْ دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على تأثر الفرد العراقي بالزعامة ورغبته غير المعلنة في صناعة الرمزية حتى وإنْ تحوّلت إلى دكتاتورية".
حاول العراق منذ تأسيس الدولة العراقية إيجاد قاعدة بيانات يُعتَدّ بها عن طريق الإحصاء العام للسكان. أجرى أول إحصاء سكاني عام 1927، لكنه لم ينجح بسبب مشاكل إدارية ومحدودية فريق العمل فألغي واعتُمدت التقديرات، وقُدّر عدد سكان العراق وقتها بمليونين وستمئة ألف نسمة، وأوكلت المهمة وقتها إلى دائرة النفوس العامة.
عاود العراق الكرة عام 1934 وقدّر عدد السكان بثلاثة ملايين ومئتي ألف نسمة، ثم جرى تعداد عام 1947 وتعداد 1957 الذي يُعَدّ أفضل التعدادات وتعداد عام 1965، وتعداد عام 1977 الذي دخل فيه الجهاز المركزي للإحصاء على الخط وتعداد 1987 الذي لم يشمل المناطق الحدودية مع إيران بسبب الحرب، وتعداد 1997 وهو الأخير ولم يشمل محافظات إقليم كردستان التي كانت تحت حكم ذاتي، وبلغ عدد السكان وفقه 19 مليون نسمة.
لم توفّر التعدادات السابقة قاعدة بيانات عن العراق، لدوافع سياسية أثارتها الإدارات المتعاقبة على حكم العراق. وكان بإمكان التعداد أن يوضح طبيعة الأسماء الطاغية في فترة ما، بعيداً عن الأسماء التقليدية في مجتمع كالعراق مثل محمد أحمد، علي، حسين، إلخ.
يقول أستاذ الفكر السياسي في جامعة بغداد الدكتور أنور الحيدري: "لو كان للموضوع من نكته فيمكن أن أكون عنوانها". يقهقه بصوت عالٍ ويمد يده لترتيب ربطة عنقه: "أنا اسمي أنور سعيد الحيدري" ويضيف: "والدي كان محباً للباشا نوري السعيد، آخر رؤساء حكومات العهد الملكي وأكثرهم شهرة وتمرساً، لكن لسوء حظ الوالد، رحمه الله، أنّي وُلدت في العهد ما بعد الملكي وخوفاً من التبعات أسماني أنور وكان يريدني نوري".
يتوقف قليلاً عن الكلام ويرتّب أفكاره ويتابع: "الناس إلى فترة قريبة كانت تناديني ‘أبو صباح’، وهي كنية الباشا نوري السعيد".
"أحد الموظفين كان رجلاً على أبواب التقاعد ساعدني. قرأ اسمي سلام إسماعيل تولُّد 1966. أشار إلي لأقترب منه. همس في أذني: اسمك سلام وتولدك 66. أبوك شيوعي؟... عموماً اعتبر معاملتك خلصانة"
ويضيف: "إذا أردنا أن نفصل القول فيمكن حصر المراحل بالأسماء التالية: في العهد الملكي ظهرت أسماء نوري وصباح (الابن البكر لنوري السعيد) وفيصل وغازي وطلال (من ملوك العراق) وعبد الإله وتوفيق (نسبةً إلى رئيس الحكومة توفيق السويدي)، إلخ. في عهد عبد الكريم قاسم (منفّذ ما يُعرف بـ"ثورة 1958" التي انهت العهد الملكي)، برزت أسماء الشيوعيين أكثر مثل سلام وعادل وفهد نسبة إلى مؤسس الحزب الشيوعي يوسف سلمان الملقب بفهد وسكرتير الحزب الشيوعي سلام عادل، بالإضافة إلى حازم وصارم ولينا وكريم (أسماء لقادة الحزب الشيوعي) وحتى أسماء الإناث كانت على أسماء الزعامات لكن مؤنثة كعادلة وسلامة وكريمة بالإضافة الى أسماء لينا وتحرر وبرافدا (نسبة إلى الصحيفة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي)".
يسترسل الحيدري: "ثم عهد القوميين العرب تأثرنا بجمال عبد الناصر وبرزت أسماء جمال وناصر وعامر وحكيم نسبة إلى نائب عبد الناصر عبد الحكيم عامر، ومن ثم أتت مرحلة البعثيين".
يتوقف عن الحديث لبرهة ثم يقول: "هنا لعب الإعلام الموجه دوراً فظهرت أسماء هيثم (الابن البكر للرئيس العراقي أحمد حسن البكر)، ووحدة وميثاق وتأميم وعروبة وخنساء (نسبة إلى الشاعرة العربية الخنساء التي قُتل أبناؤها الأربعة في معركة القادسية بين المسلمين والفرس، ووظفها نظام صدام كرمزية نسائية في حرب السنوات الثماني بين العراق وايران) وليس ختاماً بعدي وقصي وحلا ورغد ورنا (تيمناً بأسماء أبناء وبنات صدام)".
ويشير الحيدري إلى أن "كل الأسماء تدور في فلك السياسة، وحتى الأسماء التي لم تأخذ عنواناً رمزياً من مرحلتها كانت تدور في فلكها، ففي المرحلة القومية مثلاً مَن لم يُسمِّ جمال وناصر وحكيم سمى ابنه اسماً بعنوان عربي كسعد ورعد وزهير ومعد ووعد، أما في المرحلة الشيوعية فكانت الأسماء إذا لم تدل على السياسة تدل على التقدمية لا الرجعية من وجهة نظرهم فبرزت في هذه النقطة مساحة الأسماء المتأثرة بالسينما المصرية مثل نجوى، سعاد، وهند، وهكذا دواليك".
ماذا عن الإسلاميين؟
ماذا عن الإسلاميين؟ "الإسلاميييين"، ويقولها بلحن ممدود، "كانوا إما عاجزين عن التعبير عن هويتهم بصورة حقيقية وإما متوارين خلف عناوين أخرى، فترى اسم حسين قد تحوّل إلى حسام وزينب إلى زينة وعلي إلى علاء"، ويعلّق: "كانت بعض الأسماء وبالاً على أهلها إذا انتهت المرحلة السياسية".
بقي العراق، يتابع الحيدري، يعيش مرحلة جمود سياسي منذ عام 1968 حتى سقوط نظام صدام حسين سنة 2003. لعبت هذه المرحلة دوراً في جمود الأسماء على التقليدي منها، حتى نهاية عام العقد الأخير من الألفية الثالثة، عندما برزت عند الشيعة رمزية سياسية جديدة تمثلت بالسيد محمد محمد صادق الصدر (اغتيل في شباط عام 1999) في النجف، وهو والد الزعيم الشيعي الحالي مقتدى الصدر.
"فنيت أعمارنا وأعمار أجدادنا وما زلنا نعاني من نفس المشكلة: هيمنة السياسة علينا في أسمائنا وفي صناعة بيئاتنا ومستقبلنا"... عن الأسماء الشائعة في العراق وتغيّراتها مع تغيّرات الأحوال السياسية
يشير إلى أن حركة الصدر كانت سياسية دينية صِدامية مع النظام. تحرر الإسلاميون الشيعة وعلا صوتهم. عادوا إلى الأسماء غير التقليدية. فباقر (نسبة إلى الإمام الخامس من أئمة الشيعة الإمامية) اسم غير تقليدي بالمقارنة مع علي وحسن وحسين، وظهر تأثر بأبناء السيد محمد الصدر فبرزت أسماء مقتدى ومؤمل كما ظهر اسم بنت الهدى، تيمناً بأخت محمد باقر الصدر، المرجع الديني الشيعي الذي أعدمه نظام صدام عام 1980.
يعود الدكتور عصام الفيلي للقول: "الفرد العراقي متأثر بنظرية القدوة، فإنْ لم يجد زعامة سياسية يتأثر بها يلجأ إلى زعامات أخرى دينية أو عشائرية أو ثقافية، والأخيرة هي الأقل، كي يملأ الفراغ"، ويضيف: "كل الأسماء تعبّر عن شيء ما يريد الفرد العراقي إيصاله وهو ليس أمراً سيئاً، على العكس، ففي بعض الأحيان تكون الأسماء شاهدة على مرحلة ما".
الأسماء الحركية
لجأ الشيوعيون إلى الأسماء الحركية، بسبب طبيعة عملهم السياسي، ويصير الاسم الحركي أكثر تأثيراً على المسمّى من اسمه الحقيقي. يقول سلام إسماعيل، موظف حكومي: "اسمي كان مشخصاً عند البعثيين في تلك المرحلة. يعرفون جيداً أن اسمي وتاريخ ميلادي تعبير عن مرحلة سياسية لكني لم أكترث لذلك، لأني أصلاً لم أحمل توجهاً سياسياً أو فكرياً، لكني سأروي حادثة: بعد أحداث 2003، كانت عندي مراجعة لإنجاز معاملة. كانت معاملة معقدة وتحتاج إلى الكثير من الأوليات، يقولها ممتعضاً، لكن اسمي خدمني. كيف؟".
ويجيب: "أحد الموظفين كان رجلاً على أبواب التقاعد ساعدني. قرأ اسمي سلام إسماعيل تولُّد 1966. أشار إلي لأقترب منه. التقت أذني مع فمه وامتلأت المسافة بينهما برائحة السجائر. همس في أذني: اسمك سلام وتولدك 66. أبوك شيوعي؟ عدت إلى قامتي مبتسماً، ثم مع ضحكة عالية قلت: نعم. قال: أبوك شجاع مناضل أصلي. في وقت القومجية سماك سلام، تدري شگد تحمل أبوك من وراك؟"، ثم أضاف: "عموماً اعتبر معاملتك خلصانة".
بدوره، يروي نضال عبد الحسين، معلم متقاعد، قصة مشابهة. يقول: "ذات مرة تعرضت للاعتقال. لم يكن لي أي عنوان سياسي يدينني. كان هذا الكلام في نهاية سبعينيات القرن الماضي. لكني ‘أكلت كتل’ من تبعات اسمي. قال لي المحقق: شسمك؟ قلت: نضال. قال: أي مواليد؟ قلت: 60. قال: ستين ها؟! وعيونه تقدح شراً. أبوك شيوعي ‘يولو’ ؟ مفردة بلهجة أهل مدينة تكريت التي يتحدر منها صدام حسين تعني ‘يا هذا’)".
سقط نظام صدام عام 2003. عاش العراق من بعدها مراحل مضطربة. لعبت الأسماء مرة أخرى دور الصقر الذي لم ينفك يلقي الأفاعي على أهله من صيداته.
عانى العراق من سنوات العنف الطائفي بين عامي 2005 و2009، وخسر بحسب تقديرات منظمات دولية أكثر من 250 ألف ضحية من كل الطوائف. كان القتل في ذلك الوقت على الهوية، ولعبت الأسماء والألقاب دوراً في تلك الأيام، حتى عجّت المحاكم بدعاوى تغيير الأسماء. لكن الحكومة أوقفتها ما لم يكن لها أثر نفسي سلبي على أصحابها كحمل اسم حيوان.
يقول أحمد حسن عبد السادة: "اسمي عقّدني في تلك المرحلة، فأحمد وحسن ينفعان في ادعاء أني من هذه الطائفة أو تلك لكن عبد السادة اين أخبئه؟ الحمد لله أن تلك المرحلة انتهت وأحرص على ألّا أسمي ابني أي اسم يدلل على طائفته أو مذهبه أو لونه السياسي".
كل ما سبق يدور في الفضاء العربي في العراق، أما في إقليم كردستان، فلم تبتعد الأسماء أيضاً عن السياسة، وتفاصيل ذلك كثيرة جداً ولها خصوصيات مرتبطة بأساطير الأكراد وزعماتهم السياسية وبمعاناتهم من التمييز ضدّهم في حقبات مختلفة من تاريخ العراق الحديث.
ولكن يلفت الانتباه أن الأكراد، بعد شنّ نظام صدام عمليات عسكرية لقمعهم ثم تلقيهم الدعم الدولي ليقيموا حكماً ذاتياً في مناطقهم، في بداية تسعينيات القرن الماضي، تخلّوا بشكل واسع عن الأسماء العربية وكثرت بينهم، خاصةً في المدن، أسماء كردية مثل دارا وكاوا ودلير ودلشاد وهيوا ودانا، إلخ.
ويقول الكاتب والصحافي دولفان برواري إنه بعد حصول إقليم كردستان العراق على الحكم الذاتي، برزت أسماء بدلالات الوطن عند الأكراد مثل أزادي للرجال، ويعني الوطن، وبشتمان للإناث، ويحمل ذات الدلالة، وغابت أسماء جلال ومسعود ومصطفى، وهي أسماء قادة أكراد العراقيين في الحقبة الحديثة من تاريخهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...