لا أعلم بدقة إن كان الأمر كذلك، لكن أظن أن هناك التباساً لدى التقنيين حين استخدام "فلاتر" الصورة في بعض المسلسلات المُنتجة في سوريا، فحين التحديق بالممثلين، نلاحظ أن حواف أجسادهم ضبابيّة، لا خطوط واضحة تفصلها عن المحيط أو تميز أعضاء الجسد الواحد عن بعضها، ربما ذلك بسبب فلاتر الألوان أو بسبب الـBlur، ما يجعل الجلد أملساً جداً، شديد النصاعة، بلا أي ملامح، لا مسامات، لا حواف، الشعر منتقى بدقّة، لا حضور للشرايين والعظام فيه، وكأنّ هناك طبقة شمعيّة تغطّي اللحم البشري أو تستبدله.
المؤدون وأقنعتهم الشمعيّة
يظهر الممثلون في مسلسلات كـ"الجوكر، نبض، يوماً ما، ميادة وولادا.." وكأنهم يتحركون ضمن جلد لا يتطابق مع "أنفسهم"، الخط الفاصل بين المكياج والتنكر شديد الميوعة، بل ومثير للشفقة أحياناً، بسبب التمثيل نفسه الذي يفترض منا أن نصدق أن ما نراه "لعباً جدّياً"، وفشل الممثلين في تحقيق هذا التصديق، يتركنا أمام أداء لا يُصدقه أحد، "كوموضيا" ابن رشديّة لا يقين لدينا عن مستواها سوى سوء "ترجمتها".
غياب المسامات، منابع الشعر، التشققات وأثر الزمن عن الجلد في ممثلي المسلسلات السورية، تجعلنا نستعيد تمثيلات مصاصي الدماء، أولئك اللذين تلمع بشرتهم، وتصبح جلودهم مفرطة في مثاليتها بعد أن شبعوا من ضحاياهم
الجميع شَمعِيُ الشكل، وخصوصاً الممثلات، نسخ مُتطابقة ومتكررة تتمايز بكتلها لا ملامحها، حتى تمثيل الموت والعنف الذي يفترض شدة جسدية من نوع ما، مفرط في هزاله، كونه يراهن -في تناقض من نوع ما- على الإيحاء شديد الوضح، لا على مطابقة الواقع وقوانينه، إذ يتبنى الشيفرات السطحية التي ترسم صورة الحدث فقط، دون الكشف عن تكوين الشخصيات الجسدي المؤلف من لحم ودم وسوائل، مثلاً انفجار وريد في رقبة إحداهن في مسلسل الجوكر يكفيه القليل من الدماء، لا بركة دم كما هو "منطقي".
نلاحظ أيضاً أن الأداء الذي يتطلب مهارة يظهر بصورة مبتذلة، لأن الممثلين لا يسعون إلى الإتقان، بل الحفاظ على "الشمع" دون تخريب كتلته، بل أن "الملامح" لا تظهر حتى حين يؤدّى "القتل"، فلا ضرورة للـ"تمثيل" لخلق الرعب المرتبط بصورة الجسد الميت، فهناك آلاف الصور "المجانية" ذات الأثر الأشد، والتي استُخدمت واحدة منها في مسلسل "مقابلة مع السيد آدم"، إذ ظهرت فيه صورة المعتقلة السورية رحاب العلاوي، التي توفيت تحت التعذيب في السجون السورية، بوصفها في المسلسل ضحية قاتل ما.
يشكل أثر الـBlur والأجساد الشمعية، نسخة فائقة وبديلة عن صور السوريين التي تبث في المساحات "الجدية" في الأخبار والوثائقيات والصور، فصور "المطيعين" خالية من الحواف، أعضاؤها وكتلها متماسكة، لا يوجد أي شقّ فيها سوى حفر التواصل التقليدية، هي أجساد "ترغب" بكل مكوناتها بالطاعة، متبنية أشدّ الأشكال ماسكريدية، استعراض علني للجسد الشمعي المتماسك الذي لا يمكن تهديد وحدة مكوناته، أجساد ناصعة وطبقات من الزينة وعمليات التجميل والتحسين لمطابقة نموذج متخيّل عن "الجميل" والمُنصاع الذي لا يثير إشكاليات، خصوصاً أن العاملين في هذه الصناعة على علاقة وطيدة مع "القصر"، هم يلعبون أدواراً سياسية جدية خارج إطار اللعب، هم وجه السلطة الشعبي المتقن الخالي من العيوب.
تساهم المسلسلات عبر مفهوم "الحكم الجمالي" على توليد معرفة من نوع ما عن النظام السياسي، هذه المعرفة ترتبط بالشكل الذي نشاهده وخصائصه، وطبيعة العلاقات ضمن المسلسل نفسه، المعرفة الناتجة هنا تعرفنا على أشخاص يُرضون "ذوق السلطة" وشكلها "المثالي" الذي لا يمتلك ملامح، ولا يمكن السخرية منه، وبالرغم من الأداء غير المقنع للسلطة وللممثلين، لكنهم يستمرون في "العمل" وحشد جمهور وهمي ينتمي لسوريا، أو "يؤدّي" ساخراً غير مقتنع بما يراه، هذه اللاجدية تظهر أيضاً في الأداء اليومي، فالمبالغة لا تهدف إلى الإقناع، بل إلى منع التواصل كونها تقتل أي أساس جدي للحوار.
هذا اللحم الخالي من الحواف والشمعي، هو عكس الجسد الغاضب أو الثائر، سريع الحركة، المغبّر بتراب الأبنية المدمرة والقذائف، المليء بالفتحات والشقوق التي يتسرب منها الداخل ويرسم حدوده على اللحم، هو جسد "الأعداء" الممنوعين من الظهور على الشاشات الرسمية، والذين لا يمتلكون الحق باللعب أمام الجمهور، لأن لعبهم يكشف اصطناعية أقنعة الطاعة وتمثيلاتها وحكاياتها، جسد الممنوعين حوافه واضحة، كونه يحاول الاستقلال عن السطوة السياسية، مليء بالحفر والندوب والجروح، لحم رسمت حدوده عبر العنف السياسي الممارس على الأعضاء تعذيباً وقتلاً وقصفاً، فإن كان جسد الطاعة يسعى للوصول حد الأيقونية، أي لا يتدفق عبره الزمن، "خالد" وأبدي، فجسد "الأعداء" يختبر الزمن، وسوائله عرضة للانفلات من قيد الجلد، وأعضاؤه مهددة بأن تتحول إلى أشلاء.
من يمتلك الصورة الناصعة يمتلك السطوة، ويهيمن على الحكايات وربما على التاريخ.
من يمتلك الصورة الناصعة يمتلك السطوة
الإتقان في صناعة اللقطات في الحالة السورية يعكس سطوة النظام السياسي، بعكس اللقطات غير المضبوطة والمصورة سرقة وخلسة وعلى شفا الموت، الثبات في الكادر ومكوناته يمثّل الصورة الرسمية والدعاية التي يريد النظام السوري الترويج لها، فمن يمتلك الصورة الناصعة يمتلك السطوة، ويهيمن على الحكايات وربما التاريخ، اللقطة الثابتة علامة على الرعب وقوة السلطة، وهذا ما يظهر في المسلسلات التي تنفي تاريخ الحرب والصور المهتزّة لمن تعرضوا للقتل الممنهج، نحن أمام لقطات متقنة تنفي تاريخ الحرب من أمام أعين المشاهد، وتتركه أمام الأجساد الشمعية للمطيعين، سطوة اللقطة الثابتة تتطابق مع صورة بشار الأسد الثابتة في كل مكان، وتماثيل والده المزروعة في الأرض، كلها استعراض للقوة والقدرة على نفي الزمن والتغيرات ضمنه.
الإتقان في صناعة اللقطات في المسلسلات السورية يعكس سطوة النظام السياسي ويتطابق مع صورة بشار الأسد الثابتة في كل مكان، وتماثيل والده المزروعة في الأرض، كلها استعراض للقوة والقدرة على نفي الزمن والتغيرات ضمنه
غياب المسامات، منابع الشعر، التشققات وأثر الزمن عن الجلد، تجعلنا نستعيد تمثيلات مصاصي الدماء، أولئك اللذين تلمع بشرتهم، وتصبح جلودهم مفرطة في مثاليتها بعد أن شبعوا من ضحاياهم، هم مفعمون بـ"حياة" اصطناعية تحافظ على اللون لفترة مؤقتة، وهي فترة اللعب أمام الكاميرا، أشبه بأكياس تملأ بسائل أثناء اللعب، هذا الامتلاء يضرب الملامح، يجعلها موحدة، وهنا تظهر " المبالغة في الأداء" والتي يمكن تبريرها بالكوميديا أو الرغبة بإطالة زمن العرض، لكن هذه المبالغة أيضاً تعكس الرغبة بالوضوح، وعدم ترك مساحة للتفكير أو التأويل، كل شيء متقن و ناصع وهدفه واضح ورسالته محددة.
هناك مسافة بين الممثل والدور الذي يؤدّيه، أشبه بالسينيكية أو اللاتصديق، ما يخلق الاستهجان فيما يخص الكوميديا، التي تبدو مصطنعة وقائمة على القفشة والمفارقة المبتذلة، ووصف الفخ ثم القيام به، الأجساد بلا ملامح لا تضحك، بل تنتظر الضحك عجزاً، فغياب القدرة على انتقاد ما يحصل ينفي عمل الكوميديا، ويجعلها قائمة على كسر المألوف في الشكل، وهذا ما ذكره الممثل السوري أيمن رضا في لقاء معه بأنه غير قادر على أن يكون كوميدياً في ظل ما يحدث، لنراه يكتفي بالغناء والتقليد وغيرها من مهارات الكوميديا السطحية، إذ لا يمكن السخرية من أحد، خصوصاً أولئك الذين يمثلون "صورة" البلاد وأداءها السياسي.
القناع/ الوجه الشمعي غير موجود في صور المؤدين خارج سوريا، أو الذين أعلنوا انتماءهم للـ"أعداء"، فأوجههم واضحة الملامح، نميّز عبرها الأحداث التي شهدوها، كالهجرة، الاعتقال واللكنة، أما الدور الذي يلعبه المؤدّي مقنع لأنّه نفسه مقتنع به، لا حاجة للمبالغة في الأداء، لأن لا خوف من "القصر" أو "الخليج" أو "المُنتج" أو "الزوج المحتمل"
لا ندري ما هو التصديق التي يحاول كل مسلسل أن يولده لدينا، وكأننا نشاهد فانتازيا من نوع ما، وأحداثاً تدور ضمن زمن غرائبي، المؤدون فيه يرتدون أقنعة شمعيّة، كتلك الـImagines التي كان يرتديها الرومان في الحفلات والمآتم ، والتي تعكس المكانة الاجتماعية و"المواطنة"، الأهم، من يفقد قناعه يفقد الاعتراف السياسي به، المثير للاهتمام أن هذا القناع/ الوجه الشمعي غير موجود في صور المؤدين خارج سوريا، أو الذين أعلنوا انتماءهم للـ"أعداء"، فأوجههم واضحة الملامح، نميّز عبرها الأحداث التي شهدوها، كالهجرة، الاعتقال واللكنة، أما الدور الذي يلعبه المؤدّي مقنع لأنّه نفسه مقتنع به، لا حاجة للمبالغة في الأداء، لأن لا خوف من "القصر" أو "الخليج" أو "المُنتج" أو "الزوج المحتمل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون