لا يرتبط التحرّش بعمر معين في تونس، فالمتحرّشون كثر وأعمارهم مختلفة، لكن ظاهرة تحرّش كبار السن باتت جلية في المجتمع التونسي، فلا تكاد تسأل امرأة عما إذا تعرضت لنوع من التحرش من قبل هؤلاء إلا وأجابت بالإيجاب، حتى ولو مرة في حياتها.
وتختلف طرق وأساليب التحرّش حسب المكان والزمان، فتارة يكون على شكل كلمات عابرة، وطوراً يتعدى إلى اللمس والتحسّس، ومرة إلى محاولة الاستدراج، وتصل أحياناً إلى مدى بعيد.
"تائه ومذهول"
لم تتخيل الممرضة عفاف (28 عاماً)، وهي تضمد لأحد المسنين جرحاً في جبينه المصاب، أن ينظر إليها بتلك الطريقة، تقول لرصيف22: "كان جالساً على فراش المرضى، أضمد جرحاً له على مستوى الجبين، كان تائهاً مذهولاً وهو ينظر إلى صدري، اعتقدت في البداية أن الرجل قد أغمي عليه جراء الحادثة، قبل أن يتلفظ قائلاً: كم أعشق هذه الفواكه!".
"شعرت أن نظراته تخترق جسدي، أحسست بالخوف، تجمّدت في مكاني، صرت مكبلة، لم أقو على الكلام ولا الحركة، لم أتخيل أبداً أن ذلك العجوز الستيني يفكر في الجنس، وهو في عمري والدي وعلى فراش المرض"، تقول عفاف.
يقول سامي (38 عاماً)، ناشط في المجتمع المدني: "إن الكثير من المتحرشين يفلتون من العقاب، ثم إن الرقابة منعدمة، ففي وسائل النقل مثلاً لن تجد المتحرَّش بها شرطياً تستغيث به، من الصعب على الضحية تحديد هوية المتحرِّش والتقدم بشكوى ضده".
"وفي حال التقدم بشكوى، يجب أن يكون هناك شهود أو تسجيل صوتي أو مصور لإثبات الحادثة، لأنه من الممكن أن تنقلب الصورة على الضحية في صورة الفشل في إثبات الجريمة، وهو ما يجعلها مرتكبة لجريمة الادعاء بالباطل، حيث يمكن للمشتكى عليه قلب الاتهام بالتشويه والادعاء بالباطل والمطالبة بجبر الضرر"، يضيف سامي.
"كان جالساً على فراش المرضى، أضمد جرحاً له على مستوى الجبين، كان تائهاً مذهولاً وهو ينظر إلى صدري، اعتقدت في البداية أن الرجل قد أغمي عليه جراء الحادثة، قبل أن يتلفظ قائلاً: كم أعشق هذه الفواكه!"
وقلّما تتقدم الضحايا بشكاوى قضائية في هذا الصدد، بحسب سامي، رغم أن القانون التونسي يعاقب من يرتكب التحرش الجنسي بالسجن مدة عام، وبغرامة قدرها ثلاثة آلاف دينار.
ويعدّ تحرّشاً جنسياً كل إمعان في مضايقة الغير، بتكرار أفعال أو أقوال أو إشارات من شأنها أن تنال من كرامته أو تخدش حياءه، وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية، أو بممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته في التصدّي لتلك الرغبات.
ويُضاعف العقاب إذا ارتكبت الجريمة ضد طفل أو غيره من الأشخاص المصابين بقصور ذهني أو بدني يعوق تصدّيهم للجاني.
"أمر مقرف"
للتحرّش تأثير سلبي على شخص المتحرَّش به/ها، ما جعل أغلب دول العالم تتخذ إجراءات قانونية متفاوتة الصرامة في حق كل متحرّش، كبيراً كان أم شاباً.
تقول حنان، طالبة جامعية من محافظة مدنين : "كنا في سيارة أجرة متجهين إلى العاصمة تونس، يومها ركب بجانبي رجل في سن الخمسين، ومع انطلاق السيارة بدأ الرجل بمضايقتي ببعض الأسئلة حول أسباب ذهابي إلى العاصمة، وكم أبلغ من العمر، وهل أنا بمفردي أم هناك من ينتظرني، كنت أجيبه على أسئلته بكل عفوية والابتسامة لا تفارقني، قبل أن يضع يده على فخذي، ويقول عليك بممارسة الرياضة تبدين "سمينة" بعض الشيء، حينها أدركت نوايا هذا الرجل، ومع ذلك التزمت الصمت خوفاً من الفضيحة، ليتمادى الرجل في تصرفاته حيث طلب مني رقم الهاتف، كما أشار أنه يقطن بمفرده في إحدى الشقق بالعاصمة".
"لا أبالغ إن قلت لك أنني أتعرض يومياً للتحرّش، ولا أخفيك سراً أن أغلبهم من كبار السن، هم طبعاً لن يعلنوا تحرّشهم بصوت مرتفع مثل الشباب، لكن يقتربون منك ويهمسون كلماتهم الحقيرة في أذنك، ثم يمرون وكأن شيئاً لم يكن"
تفاصيل الساعات التي قضتها حنان في التاكسي لا تنسى بسهولة، تستعيدها في ذاكرتها، شاعرة بوطأة الوقت، تقول: "لقد قضيت 6 ساعات في سيارة الأجرة، وهي المسافة الفاصلة بين محافظة مدنين وتونس العاصمة، وكأنني لبثت مائة عام، لقد كان يوماً عصيباً، بكيت لساعات على حظي الأعمى، كما كانت تلك الحادثة بمثابة الصدمة، فبين الرجل والقبر خطوات، وأنا أعدّ في عمر أحفاده".
تنهي حنان حديثها بانفعال قائلة: "إنه أمر مقرف الشيب والعيب".
ورغم أن ظاهرة التحرّش هي قضية مجتمعية تتحمل الدولة والمجتمع مسؤوليتها، فما زالت الضحية عند قطاع عريض من التونسيين تُعامَل على أنها المسؤولة، سواء بسبب وجودها في الشارع أو سلوكها أو ملابسها غير المناسبة.
"يتحرشون بصوت منخفض"
مها (22 عاماً)، طالبة في كلية الآداب بمنوبة، تقول إنها تتعرض هي الأخرى في المترو بشكل يومي للتحرّش، أثناء طريقها إلى الجامعة، تقول لرصيف22: "لا أبالغ إن قلت لك أنني أتعرض يومياً للتحرّش، ولا أخفيك سراً أن أغلبهم من كبار السن، هم طبعاً لن يعلنوا تحرّشهم بصوت مرتفع مثل الشباب، لكن يقتربون منك، ويهمسون كلماتهم الحقيرة في أذنك، ثم يمرون وكأن شيئاً لم يكن".
مروى (23 عاماً)، صديقة مها، تروي لرصيف22 هي الأخرى قصتها مع رجل مسن، تحرّش بها في عربة المترو، تقول: "كان الفصل شتاء آنذاك والمحطة ممتلئة بالناس، صعدنا جميعنا دفعة واحدة، وكان الرجل ورائي مباشرة، كان الشيب يغطي رأسه، أحسست بيد تلمس فخذي، لكني لم أعر الموضوع اهتماماً، وبعد أن صعدت وأغلقت أبواب المترو الذي كان ممتلئاً جداً، وماهي إلا لحظات إذ بي أحس بنفس الذي أحسسته عند الصعود، التفت إذ به نفس الرجل، لكني لم أنبس بكلام، خوفاً من ردة فعل الركاب الذين يرجعون اللوم دوماً على الفتاة وطريقة لبسها، وصلت آخر محطة، ونزلت إذ بالرجل يتبعني، وقفت وبداخلي بركان غضب وحين اقترب، صفعته على وجهه دون خوف، لا أدري من أين أتتني تلك الشجاعة يومها لكني أحسست بعدها برد الاعتبار".
"يد العجوز تحسّست فخذي في عربة مترو مزدحمة".
مروى ومها وغيرهن كثيرات ممن تعرضن للتحرّش من قبل رجال في عمر آبائهم بل وأجدادهن أحياناً، ليس فقط في عربات المترو والأسواق والشوارع، بل يمتد إلى أماكن العمل.
أما ليلى، اسم مستعار (36 عاماً)، فتتعرض بشكل متكرر للتحرش من رئيسها في العمل، رغم كبر سنه، تحكي لرصيف22 بصوت مخنوق: "أعمل في مصنع في أحد ضواحي العاصمة، تعرضت للتحرّش من قبل مديري في العمل، والذي يبلغ عمره 56 عاماً تقريباً، كل ما سنحت له فرصة الانفراد بي يحاول لمسي أو يتفوه بكلمات جنسية، كنت أتوجع حد البكاء من تصرفاته، لكني لا أستطيع إفشاء الأمر لأنني سأحال على البطالة ولا معيل لأمي".
"يثأرون من العمر"
يحلل الدكتور والباحث في علم الاجتماع، محمد الجويلي، ما يدفع المعمّرين إلى التحرش، رغم منافاة ما يفعلون للصورة العامة في مخيلة الناس عن المسنين، كأفراد صالحين، أو متدينين.
يقول الجويلي لرصيف22: "المتحرّش كبير السن يسعى إلى الثأر الرمزي من شيخوخته عبر التحرّش بالنساء، ليس لغاية جنسية بالأساس، بل يريد إقناع نفسه إنه مازال صغيراً ولم يفقد إمكانياته الجنسية بعد".
ويضيف الجويلي: "المتحرّشون من هذه الفئات يسعون إلى بناء هوية جديدة، لأن مجتمعاتنا "تهين" كبير السن، لأن الشيخ يصنَّف في خانة "الإخصاء الرمزي"، أي أن الناس يعتبرونه من فئة غير الجنسيين "غير قادر على ممارسة الجنس"، لذلك هو يريد أن يثبت لنفسه بأنه مازال ضمن خانة جنس غير المخصيين رمزياً، وهو أيضاً نوع من الرد على إهانة مجتمعية".
ويريد المتحرشون من كبار السن تركيب ذاكرة جنسية مرتبطة بالماضي، ويعملون على إثبات ذلك عبر التحرّش، بحسب الجويلي. وفي النهاية تكون المرأة المُتحرَّش بها، في بلد كتونس، تتبنى معظم شرائحه الاجتماعية "قيم محافظة"، هي ضحية "هوية" هؤلاء، كما يتخيلونها عن أنفسهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...