حكايات كثيرة انطلقت في شوارع وحواري مصر لم تكن المرأة فيها البطل، لكنها لعبت دور الشكاءة، الجاهلة، الثرثارة، العنيدة، القبيحة والخائنة، أطلت علينا هذه الصورة من خلف برواز أو صندوق خشبي، ضمن عروض الأراجوز التي تجوب أرجاء المعمورة، ويعرفها الصغير والكبير منذ زمن بعيد.
والأراجوز هو أحد الفنون التراثية التي تنتمي لمسرح العرائس، وهو عبارة عن دمية تُلبس في يد من يحركها بأصابعه، ويُصنع رأسها من مادة خفيفة وصلبة كالخشب، وتعلوه قبعة طويلة حمراء، ويُرسم عليه وجه ذو تعابير حادة، في حين ترتدي الدمية جلباباً أحمر طويلاً، وتصنع ذراعاها من الخشب أيضاً.
وتحتل عروض الأراجوز فقرة ثابتة بحفلات المدارس وأعياد الميلاد والموالد، فالأراجوز هو القائد الرئيسي لمسارح العرائس في مصر، إذ لا يخلو مسرح منه، لاهتمامه بالأمور الحياتية اليومية التي تواجه البسطاء، بشكل فكاهي ساخر يدفع جماهيره للضحك على همومهم.
وتشكّل العلاقات الأسرية المركز الأول لدى فنان الأراجوز، حيث يجسّد الصراع الدائم بين الزوج وزوجته في عدة نمر، منها "الأراجوز ومراته"، "جواز بالنبوت"، "الست اللي بتولد"، "الأراجوز ومراته السودة" و"العفريت".
وعرضت هذه النمر معايير اختيار الزوجة، فكان جمال الشكل غاية الأراجوز وهدفه، وحملت العروض نظرة عنصرية تجاه المرأة السمراء وصورتها على أنها قبيحة الشكل والصفات، وكان الصراع بين الأراجوز وزوجته ينتهي بسلطة ذكورية، عندما يلجأ إلى ضربها بعصاته، فيما كان الأب يزوج ابنته لمن يمتلك المال، وكان الأراجوز يمثل العلاقة الجنسية الزوجية كنوع من أنواع كسر المحرمات التقليدية، وكانت تقدم بشكل ساخر وتسفر عن حمل ومخاض وولادة.
الغالبية العظمى من النساء، سواء كن مدافعات عن حقوق المرأة، نساء عاملات أو حتى ربات منازل يعكفن على تربية أبنائهن، لم ترضهن هذه الصورة التي اعتبرها بعضهن بشعة وقبيحة، فيما أظهرت أخريات غضبهن مما تحمله من عنصرية شديدة تجاه المرأة، بل وتربي أجيالاً تحتقر النساء.
نفوسة وبخيته
مثلت المرأة في عروض الأراجوز شخصية الزوجة، وكانت شريكة له في معظم النمر المقدمة، متمثلة في الزوجة البيضاء والتي يطلق عليها نفوسة أو زنوبة، والزوجة السمراء التي يطلق عليها بخيته، والداية ودورها محدود، وعديلة التي يذكر اسمها ولا تظهر، والراقصة نواعم أم شعر ناعم، وقد استخدمت أيضاً بشكل محدود.
وتعتبر منى عزت، الباحثة النسوية، أن ظهور المرأة بصورة غير لائقة في عروض الأراجوز أمر طبيعي ومتوقع، قائلة إن "هذه الصورة ترجع لسببين، أولهما أنه فن ارتجالي بدرجة كبيرة، وهو وليد ثقافة اللاعب، أو ناتج عن الصورة السائدة في المجتمع، والسبب الثاني أن لاعب الأراجوز ليس لديه مشروع تنويري وهدفه الرئيسي إضحاك الناس وجني المال فقط، لذلك يستخدم الصورة التي يعتقد أنها تضحك الآخرين، فهو هنا أسير لثقافة المجتمع".
وتبرر عزت في حديثها لرصيف22 ذلك، بأن لاعب الأراجوز لم يتعرض أو يطلع على ثقافات مختلفة تغير من نظرته للمرأة، وبالتالي أصبح الفن الذي يقدمه أداة لترسيخ صورة نمطية تحتقر المرأة.
كان جمال الشكل غاية الأراجوز وهدفه، وحملت العروض نظرة عنصرية تجاه المرأة السمراء وصورتها على أنها قبيحة الشكل والصفات، وكان الصراع بين الأراجوز وزوجته ينتهي بسلطة ذكورية، عندما يلجأ إلى ضربها بعصاته
صورة عنصرية
"الأخطر من ذلك أن هذا الفن مؤثر في الناس بشكل كبير، لأنه مستمر ومتوارث حتى الآن"، هذا ما أكدته الدكتورة نهلة إمام، أستاذة العادات والتقاليد بالمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، لرصيف22، حيث رأت أن الصورة التي تروج لها عروض الأراجوز ما هي إلا إفراز طبيعي لما كان يحدث في المجتمع وقتها، وتعبير حقيقي عن الصورة النمطية للمرأة.
لكن ما يزعج إمام هو إعادة بث نفس الرسالة رغم اختلاف العصور، حسب تعبيرها، مشيرة إلى ضرورة عدم تقديس التراث بصورته النمطية وما يحمله من عنصرية ضد بعض الفئات، وأكدت على أهمية إحياء التراث ومراجعته مع بعض التطوير، بما يحمل قيماً إنسانية نبيلة لا ترسخ لمفاهيم خاطئة لدى الأجيال الجديدة.
ودعت أستاذة العادات والتقاليد إلى ضرورة إدخال قصص جديدة مع الاحتفاظ ببعض القصص القديمة، ورعاية الدولة لهذا الفن التراثي المهم.
وفي لقاء مع رصيف22، تقول زيزي عماد، وتعمل محاسبة بإحدى الهيئات الخاصة، إن هذه الصورة تجنت على المرأة بشكل كبير، لأنها كانت خير سند لزوجها وتعمل بجواره خاصة في الزراعة، وتحمل عنه الكثير من هموم ومشاكل الأبناء وتربيتهم، كما أنها حققت نجاحات كبيرة في العمل وغيره من مجالات الحياة.
أصل الأراجوز
وبحثاً في الدراسات والمراجع لم يعرف أحد تاريخ ظهور هذا الفن على وجه التحديد، لكن الوثائق تشير إلى أن اليونانيين عرفوه في القرن الخامس قبل الميلاد، وتذكر المصادر التاريخية أن أوروبا عرفت الأراجوز في نهاية القرن السادس عشر واستمر حوالي قرنين من الزمان، وفق الدكتور أحمد مرسي، أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة.
والأراجوز أو القراقوز كما ذكر الدكتور نبيل بهجت، في كتابه "الأراجوز المصري"، هي كلمة ذات أصل تركي وتتكون من مقطعين: "قره" أي الأسود و"قوز" أي العين، وتعني "ذو العين السوداء"، وذلك بسبب نظرته إلى الحياة، والتي توصف "بالسوداوية"، مع التحفظ على المصطلح، والذي يقدّمها من خلال الكوميديا الساخرة التي تعتمد على مواضيع مؤلمة للفرد الذي يحكيها، لكنها تقدّم بقالب ساخر وفكاهي.
النصية والارتجال
ولم يتم التوصل إلى نشأة هذا الفن في مصر، لكن المصريين تفننوا فيه وطبعوه بروحهم وبرعوا في أداء عروضه التي اعتمدت بشكل كبير على لاعب رئيسي يؤدي كل الشخصيات، وأحياناً يعتمد على مساعد يطلق عليه "الملاغي"، وهو أحد صبيان اللاعب أو زوجته.
وكما ورد في كتاب "الأراجوز المصري"، يلجأ الأراجوز لاستخدام مفردات اللغة العامية، والتي تختلف باختلاف لهجات أصحابها بمساعدة آلة "الأمانة"، وهي أداة موسيقية تستخدم للأداء الصوتي للأراجوز، فمثلاً الصعيدي يتكلم بلهجة أهل الصعيد، والسوداني يتكلم بلهجة سودانية، أما الأراجوز فيتحدث بمفردات أهل القاهرة.
وفي الغالب فإن النصوص الدرامية الخاصة بمسرح الأراجوز تكون ما بين النصية والارتجال، فهناك مجموعة من النصوص الدرامية تظل في ذاكرة اللاعبين، ويتوارثونها جيلاً وراء جيل، ولاعباً وراء لاعب، أو من معلم إلى أحد الصبية المساعدين، لكن يظل المصدر مجهولاً، فلا يعرف اللاعب من هو مؤلف هذا النص حتى وإن تناقله مع غيره من اللاعبين.
"هذه الصورة ترجع لسببين، أولهما أنه فن ارتجالي بدرجة كبيرة، وليد ثقافة اللاعب، أو ناتج عن الصورة السائدة في المجتمع، والسبب الثاني أن لاعب الأراجوز ليس لديه مشروع تنويري وهدفه الرئيسي إضحاك الناس وجني المال فقط، لذلك يستخدم الصورة التي يعتقد أنها تضحك الآخرين، فهو هنا أسير لثقافة المجتمع"
قصص من الشارع
ويعلق الدكتور نبيل بهجت، أستاذ بكلية الآداب- قسم المسرح- جامعة حلوان، ومؤسس فرقة "ومضة" لعروض الأراجوز وخيال الظل، قائلاً لرصيف22، إن "الأراجوز لم يكن معنياً بتقديم صورة محددة، ولكنه كان يسعى لتأدية دورة حياة الإنسان بشكل فطري كما يحدث في الواقع، لأن مصادر معلومات لاعب الأراجوز والتي تشكل نمره هي الشارع، فكان من الطبيعي أن تعكس شكل الحياة فيه".
وعن أصل فن الأراجوز في مصر، يقول بهجت: "يعود الفن إلى الفراعنة، وتعني كلمة أراجوز في المصرية القديمة صانع الحكايات، واهتم المصريون بتشكيل الدمى، حتى أن عرائس 'الماريونت' وجدت داخل إحدى المقابر الفرعونية، وتشابهت العصا المنقوشة على جدران المعابد مع العصا المستخدمة مع الأراجوز، وقد أدرجت منظمة اليونسكو في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، الأراجوز المصري على قوائم التراث الثقافي العالمي غير المادي".
ويضيف بأن الفن تطور تدريجياً في عهد الدولة الأيوبية، وسجل المؤرخ الأسعد بن مماتي، سخرية من الحاكم المملوكي بهاء الدين قراقوش، على شكل عرض أراجوز بعنوان "الحانوت والنصاب"، وتطور لبس الأراجوز بتطور لبس المصريين باختلاف العصور.
ولم ينكر بهجت وجود نزعة عنصرية في الصورة التي تروجها عروض الأراجوز للمرأة، حيث تعبر عن سوء الخلق والطباع بالبشرة السمراء، قائلاً إن تراثنا الشعبي يحمل بعض الملامح العنصرية التي تحتاج لمراجعة، موضحاً أن مساعيه كانت تصب في الحفاظ على هذا الفن باعتباره تراثياً يحتاج للحفظ والنقل كخطوة أولى، إضافة إلى تسجيله.
وحسب تصريحات مؤسس فريق "ومضة"، فإن تطوير فن الأراجوز ضروري لا محال، ويحتاج إلى جهد مشترك من المهتمين والمؤسسات الحكومية المعنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...