في السؤال الوجودي للكائن الحي، وهو بمثابة الافتتاح: ما هو هدف الجنس بصيغة المفرز الطبيعي للحياة؟ الجواب البديهي ضمن منطق الطبيعة التلقيحية، أنه فعل تكاثري، وما عملية التنويعات الجنسية التي ارتقت مع تطور الكائن البشري بفلسفاته وفنونه إلا تحصيل حاصل لهذه البديهية الإنتاجية للطبيعة، لكن بالمقابل لا نستطيع التوقف عند فعل الجنس المعاصر عند تلك النقطة الأولى، فهو اليوم أكثر من حدوده البيولوجية، إنه ذهنية تفكير مغايرة عن السائد التاريخي.
الفعل الجنسي اليوم يمتلك تقنيات واعية ومشاعر تجاوزت المعاني البدائية لمفهوم التكاثر في الطبيعة، فالواقع يفرض نماذج بشرية، نفسية أو فيزيولوجية، أو حتى اختيارات شخصية حرة لفعل الجنس، خارج المنظومة الثنائية ذكر-أنثى كحقوق إنسانية، لكن ما أريد التوقف عنده، هو تلك البدائية التي يُطلق عليها من قِبل أغلب المجتمعات تسمية "الفعل الطبيعي للكائن الحي"، والمقصود بها بالنسبة لهم، فعل الجنس الذكري-الأنثوي، ومفهوم القضيب كعنصر ممتع وإنتاجي.
القضيب الضخم لا يشكل فارقاً كبيراً بالنسبة للأنثى، لأنها تتعامل مع الجنس كصورة عاطفية ممتعة وليست اغتصابية.
القضيب الذكري بالطبع يتمثل بالإنتاج التكاثري، بمعنى هو يمتلك تقنيه خلق العنصر الجنيني في أحشاء الأنثى، بغض النظر عن هيكليته وحجمه، لكن تطوّر الوعي الإنساني بثقافاته، لم يعد يكتفي بهذه الرؤية الإنتاجية للطبيعة، لقد بدأت فلسفة "فنيّة الجنس" تدخل إلى الوعي البشري، ورغم ما خاضته التجربة الإنسانية بتحوّل المنظور الفني للقضيب في حالات كثيرة، فقد وصل اليوم إلى مرحلة البحث عن قضيب كبير، بالنسبة للذكر.
في النوفيلا التي كتبتها الروائية الفرنسية، آني إرنو، بعنوان "الاحتلال"، وبغض النظر عن الفكرة، لكن تذكر آني عبارتين في بداية العمل ونهايته على النحو التالي:
كانت حركتي الأولى عند الاستيقاظ صباحاً، الإمساك بقضيبه المنتصب من جراء خلوده إلى النوم، البقاء كذلك كما لو أنني كنت متعلّقة بغصن. كنت أظنّ: "طالما أنني أمسك بهذا، فأنا لن أتوه في هذا العالم".
رغم ما يوحي به الدخول أن الشخصية تعاني أزمة ما، وبأن لا دلائل على موضوع حجم القضيب، لكن آني تعيد صياغة الجملة في نهاية العمل لتتوضح لنا فكرة القضيب معاصراً، تقول:
إن حدث لي وفكرت بقضيبه، أراه مثلما تراءى لي في الليلة الأولى، قاطعاً بطنه، على مستوى عيني في السرير الذي كنت ممددة فوقه: قضيب كبير وقوي، محدودب كدبوس عند طرفه.
الشخصية في نوفيلا آني، تعيش تلك الرؤية الشبقية في التعلق بالعشيق، لا لشيء، سوى أنه فعلياً يمتلك قضيباً كبيراً.
إلى أي مدى فكرة حجم القضيب تؤثر على مستوى الوعي البشري اليوم؟ ما هي تلك النزعة الاجتماعية في أحاديث الأصدقاء وهم يتحدثون بلغة يومية وأحكام قطعيّة على أن المرأة تحبه كبيراً؟ الجمل المتداولة يومياً في أحاديث العامة والتي نسمعها جميعاً بعبارات وأساليب نطق انتهاكية أحياناً، فيها الكثير من الابتذال للآخر ويحمل إهانة تجاه المرأة.
طبعاً لا أنتقد أهمية القوة والسرعة في الفعل الجنسي، لكن بالوقوف على هذه الذهنية القطعيّة واللغوية في المجتمعات، فنحن أمام معضلة ثقافية نعايشها اليوم، وهي البحث عن قضيب كبير من أجل إثبات الذات.
إلى أي مدى فكرة حجم القضيب تؤثر على مستوى الوعي البشري اليوم؟ ما هي تلك النزعة الاجتماعية في أحاديث الأصدقاء وهم يتحدثون بلغة يومية وأحكام قطعيّة على أن المرأة تحبه كبيراً؟
هناك نوع من التوهيم النفسي، لدى الذكر خاصة، حول هذا الشكل المتداول، قد يحيله البعض إلى ثقافة البورنو الدارجة، ولا نستطيع إنكار دور أفلام البورنو في ترسيخ هذا الوعي، لكن بالعودة قليلاً إلى الوراء، نستطيع أن نقرأ ذلك في بعض الأعمال الفنية، وهنا نقف قليلاً عند مفترق طرق في اختلاف الثقافات.
في كتاب الشيخ النفزاوي "الروض العاطر في نزهة الخاطر"، يقدّم مجموعة من النصائح حول كيفية تكبير القضيب وتضييق الفرج، وهو أيضاً ما نقرأه في أعمال كثيرة من تاريخ المجتمعات الشرقية واهتمامها بالجنس، ومنها الكاماسوترا، دون التركيز فيه على مسألة الحجم، لكنه ناقش مفهوم اللذة، بمعنى أن الشرق بأسره كان مليئاً بهذه الحكايات، وربما المثال الأبرز لفكرة التعب الجنسي من كثرة الممارسة والشبق الذي لا ينتهي، من المرأة التي تبحث عن رجال ضخام الشكل للمتعة، نقرؤه في ألف ليلة وليلة. اهتمام الشرق بالجنس رغم إيروتيكيته وعناصره الفنية، لكنه ناتج عن فلسفية الحريم (المرأة التي لا همّ لها سوى قضيب يملأها كلياً، حتى لو تمزقت)، والتي استمدت وجودها من المنظور الديني وتطورات تقنياته لدى راقصات البلاط الخاضعات للسلطة، والحالمات بمهمة الانتشاء فقط، وامتدت لما قبل مئة عام في الإمبراطورية العثمانية.
وعلى الجانب الثقافي الآخر، نقرأ في المجتمعات الغربية القديمة، الصورة المضادة لفكرة الشبق أو الأحجام التي تملأ العشق الأنثوي للجنس.
تقريباً كل الحضارات القديمة في فنونها وأشعارها ونقوشها، كانت دائماً تحتفل بالجماليات الجسدية للذكر، ونشاهد ذلك في كثير من التماثيل والنصوص التي عبّرت عن تفاصيل تلك الجماليات، وربما مثالها الأبرز كان في عصر النهضة الأوروبية، يكفي أن نشاهد الأجساد العارية في كنيسة السيستين، وندقق في أحجام القضبان أو بعض التماثيل، كما في تمثال داوود، لنفهم كيف رأت الحضارة الأخرى المضادة للشرق مسألة حجم القضيب والتركيز على أن يكون صغيراً، كتدليل ثقافي على كبح جماح الشهوة ودلالات على الحكمة العقلية لدى المرء.
هذه الصورة الفنية التاريخية، لم تعد اليوم موجودة، فالتوهيم الذهني المعاصر، هو شبيه تماماً بما صوّره الأقدمون في الوحوش ذوات القضبان الكبيرة والمتعددة (الآلهة الشريرة في سومر واليونان والفراعنة والآزتيك) لتمزيق الآخر والاستمتاع النفسي بانتهاك الكائن البشري، فمثلاً ألوكس Alux، العفاريت صغيرة الحجم في أساطير غواتيمالا، كانت تمتلك قضباناً توازي طولها، لتمزيق العذارى الهاربات من سلطة الأسرة. الجميع يريد عضواً ضخماً، غير مكترث بالمفهوم الأخلاقي التاريخي، إذن، هل نعيش عصراً متوحشاً وغير حضاري فعلياً؟
فكرة الحجم الكبير عادت اليوم لتندرج وتترسخ من جديد بصورة التاريخ المتوحش بطريقة جديدة في البورنو: ترويج العنف الجنسي تجاه المرأة بإعطائه صفة الفن الحداثي، من خلال تفوق ذكوري لإثبات القوة الذاتية في عالم ينتهك كل شيء، حتى الذكر
بعيداً قليلاً عن إدانة تاريخ ثقافي معين على حساب آخر، لكن مسألة القضيب الكبير ليست وليدة نزعة فردية، رغم محاولة الكثيرين ترويج ذلك، إنما هي نزعة مفهوماتية سائدة من خلال تأثيرات كثيرة، تاريخ وعي جمعي ثقافي، أو حتى تأثيرات إنتاجية استهلاكية معاصرة، وبتصوري، هي محاولة ترسيخ تشويه بنيوي للفهم البشري إزاء معنى الجنس الإيروتيكي، إخراجه من الحاضنة البدائية له كنموذج تكاثري وتفعيله كفن مستقل، لكنه يجب أن يكون فناً إنتاجياً اقتصادياً.
يمكننا بسهولة تلمس ثقافة القضيب في الأساطير والحكمة الفلسفية للفنون، على أنها عنصر شغل التفكير الإنساني، وحاول إعادة صياغته من خلال كل حضارة، ومع أن فكرة الحجم الكبير عادت للظهور مع التصور الإسلامي لمهمة الإنسان الوجودية، إلا أنها اندثرت مع التفوق النهضوي الغربي بمرحلة فلسفته وصناعية المجتمع، واليوم عادت لتندرج وتترسخ من جديد بصورة التاريخ المتوحش بطريقة جديدة في البورنو: ترويج العنف الجنسي تجاه المرأة بإعطائه صفة الفن الحداثي، من خلال تفوق ذكوري لإثبات القوة الذاتية في عالم ينتهك كل شيء، حتى الذكر.
اليوم، تُقدّم المرأة (بعيداً عن الحقيقة الفيزيولوجية أنها تتقبل حالة الإيلاج) على أنها ترغب بالتمزق كصورة فنية، وهذا توهيم تخيلي غير صادق، لعب فيه التاريخ وثقافته دوراً عبر نقل الموروثات الفكرية لدى بعض المجتمعات، وترسخه ثقافية البورنو الحيّة.
المسألة برمتها عملية امتداد لمنطق الطاعة الدينية، فلسفة الحريم، تطورات الاقتصاد على حساب الإنسان كالبورنو، إفراغ الغضب الذكوري في عملية جنسية أليمة لإشعار الذكر بالتفوق، كصلة وصل بين أن يكون عبداً لقوة اقتصادية وسياسية خاضعة للآخر، وبين إحساسه بالتفوق الجنسي الذهني على كيان منزلي أضعف، وهو المرأة، الكيان المنزلي التقليدي في كثير من المجتمعات.
لا أريد القول إن هناك مؤامرة على الإنسان، رغم أنها فعلياً كذلك، لكن بشكل أبسط، هي محاولة لإرساء صورة ذهنية يومية لشيء وحيد يمتّع الكائن البشري أمام بؤسه الحقيقي.
القضيب الضخم لا يشكل فارقاً كبيراً بالنسبة للأنثى، لأنها تتعامل مع الجنس كصورة عاطفية ممتعة وليست اغتصابية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...