لطالما تجنبت مشاهد العنف المنشورة على صفحات التواصل الاجتماعية: مقاطع لفيديوهات عن حيوانات تُعذب، عن أطفال ونساء، صورة لطفل ملقى على شاطئ بحر، أو مرمي في حاوية، ولا يتملكني أي فضول للضغط وفتح الروابط، تجنباً للصدمة، أو مخافة أن تلتصق الصورة بمخيلتي، فأجبر بذلك على اجترار التألم الذي تسببه تلك المشاهد في نفسي من أذى، وعلى المدى الطويل.
عشت طوال عمري وأنا أحاول تجنب أن أكون عنيفة بسلوكياتي، ولم أجد المتعة يوماً بأي مشهد صدام في المدرسة، المنزل أو أي مكان آخر، أو بمشاهدة مشاحنة أو تضارب عنيف على اختلاف أشكاله، وحتى في أفلام السينما، لا أحبذ أفلام الأكشن القتالية ولا مشاهد التاريخ، حين تدور معارك السيف وقطع الرؤوس وبقر البطون، وحتى برامج عالم الحيوانات التي تعرض مشاهد قتالية عنيفة تستفزني بطريقة غريبة لا يمكنني تحملها أو متابعتها.
لازلت أتألم وتتملكني رغبة بالتقيؤ، فأغلق عيني وأضع يدي على أذني، حين أتذكر تلك القصة كلما شاهدت القطط.
لو كنا نشبه الحواسيب، لقمنا بعملية "فورمات" إلكترونية تعيد ذاكرتنا نقية من كل فيروس بغيض.
لقد مضى عليها أكثر من 35 سنة، حين كنت في السابعة من عمري، لازال مواء تلك القطط الصغيرة، وهي توضع في كيس بطريقة خبيثة - بالرغم من عدم إيذائها- ليُرمى بها في منطقة بعيدة عن الحي بأكمله، تدغدغ بشيء من الأذى ذاكرتي.
لست قادرة على متابعة مشاهد تعذيب السجناء أو العنف الممارس على الأطفال في منازلهم من قبل ذويهم، ولا طاقة لي على تحمل ثقل مشاهدة النساء وهن يتعرضن للضرب والاغتصاب والتعذيب من قبل أولئك الذين يفقدون إنسانيتهم تماماً، ولو كان ذلك تمثيلاً في أحد المسلسلات.
حتى وأنا أقرأ في رواية، تتحول الجمل والكلمات العنيفة مباشرة، بطريقة تلقائية في مخيلتي، لصور متحركة ومؤلمة، لتبقى عالقة فيها.
كيف لنا أن نتجنب هذا الشعور السيء، ونحن نعيش في عالم بات العنف فيه يباع ويصدر بطرق شتى؟ أقراص مدمجة للعب، مواقع خاصة بعرض أفلام الأكشن، صفحات زرقاء تبث بين الفينة والأخرى مقاطع لا يتحملها عقل إنسان، الأخبار التي تبث في محطات التلفزة من كل أنحاء العالم وتثير حفيظة المشاهد، وتحث على المظاهرات وتطالب الحكومات بالتغيير والمحاسبة، كما حدث في أمريكا: "قصة الشرطي وهو يدوس على رقبة مواطن من ذوي البشرة السوداء".
وفي آخر ما تم تداوله في المشهد السوري، وأثار ضجة كبيرة في الأوساط السورية عامة، والكردية خاصة، المشهد الذي انتشر على نطاق واسع، مقطع تظهر فيه الإهانة لتلك النساء المسجونات لدى فصائل "الحمزات" المسلحة الموالية لتركيا، وهن يقدن كالبهائم بطريقة مستفزة.
ولا تنتهي القصص المثيرة للحزن والألم، حيث نشرت صورة لفتاة سورية مؤخراً، والتي تحمل اسم "ملك نبيه جمعة"، ذات الستة عشر ربيعاً، وهي مرمية في إحدى الحقول التابعة لمدينة أعزاز في حلب، بعد تعرضها للاختطاف، القتل ثم الرمي في العراء. الفتاة من عفرين، المدينة السورية الكردية التي تعرضت لممارسات عنصرية من قبل الجماعات المسلحة الموالية لتركيا، حين استباحت المنطقة وسُمح للفصائل باقتحامها والبقاء فيها، تحت مسمى حملة "غصن الزيتون" التي شنتها قوات مدعومة من تركيا.
لست قادرة على متابعة مشاهد تعذيب السجناء أو العنف الممارس على الأطفال في منازلهم من قبل ذويهم، ولا طاقة لي على تحمل ثقل مشاهدة النساء وهن يتعرضن للضرب والاغتصاب والتعذيب من قبل أولئك الذين يفقدون إنسانيتهم تماماً، ولو كان ذلك تمثيلاً في مسلسل
الحرب، الثورة، الأزمة، مرادفات تترجمها الحروب العسكرية الدائرة هناك، العنف ضد المدنيين بشتى الأشكال، بدءاً من التجويع الذي تشهده المنطقة بسبب الأزمة الاقتصادية وتدني مستوى العملة السورية، والذي سيحول المناطق السورية إلى مسارح لارتكاب الجرائم، الخطف، السرقات، الاغتصاب والتناحر بين الناس على موارد العيش، الكل سينال نصيبه من المعاناة، العنف سيطال كل شيء ولكل شخص نصيب منه.
لن نستبعد أن يحدث الأسوأ، وسوريا تحولت لجسد ممزق تسودها شريعة الغابة، تتحكم بها العصابات المسلحة، وينهش لحمها وينتهك عرضها المفترسون من كل أطراف العالم.
المواجهة العسكرية في النزاعات والحروب بين الأطراف المتنازعة على اختلاف نزعاتهم وأهدافهم، يكاد يكون أمراً طبيعياً، فالتسلح يعني ممارسة القتل والقتال وتوقع الموت قتلاً في كل لحظة، ولكن التجاوزات والانتهاكات صادمة جداً، تلك هي الحقيقة.
من منا لم يسمع، يقرأ أو يشاهد، الفيديو الذي تم تداوله من قبل نشطاء كرد وعرب، عن التمثيل بجثة الناشطة السياسية، الأمينة العامة لحزب سوريا المستقبل، "هفرين خلف"، من قبل فصائل سورية مسلحة موالية لتركيا أيضاً، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، أثناء سفرها بسيارتها الخاصة لمتابعة نشاطها السياسي المدني، والتي تم استهداف سيارتها وقتلها رمياً بالرصاص، على الطريق الدولي إم4 التابع لمدينة القامشلي.
كم كان المشهد فظيعاً، وهي تتكلم لآخر مرة وتخاطب قتلتها، دون أن يرأفوا بكونها امرأة. جملة أمها المؤثرة حين تحدثت في مقابلة تلفزيونية: " لقد شوهوا جسد ابنتي"، في إشارة لعدم الاكتفاء بالقتل وحده، بل والتمثيل بجسدها وتشويهه، وانتزاع شعرها وهي جثة فارقت الحياة.
أي خوف تسلل لقلوبهم من امرأة تقود نشاطاً مدنياً، وأي حقد دفين دفعهم ليمارسوا عملهم الإجرامي المخالف للشرائع الإنسانية، ويخرقوا قوانين الحرب الدولية؟
في مشهد آخر كان أكثر فظاعة، حين يتصايح مجموعة مقاتلين بقول: الله أكبر، وهم يتفاخرون بانتصار أرعن، يتحلقون حول جثة مقاتلة كردية هي "بارين كوباني"، حين جُردت من لباس الجزء العلوي من جسدها، ليبدو عارياً ومشوهاً، والاستمتاع بتصوير ذلك بكل فجور وبثه للمشاهدين.
ولا زلت أتألم كثيراً حين أتذكر قصتها التي تنخر ذاكرتي، تلك العبارة المستفزة جداً، إنها عالقة تماماً، حين قالها أحدهم وهو يقف على جثتها بشهوة بشعة: "حلوة يازلمة"، ليقوم أحد المسلحين بوضع قدمه بالحذاء العسكري على صدرها الذي تعرض للتشويه، وكأنه يريد كسر أرض صلبة تأبى أن تنكسر.
ولم تنقصهم الوقاحة ليرموا فوق جثتها غصناً من شجر الزيتون، في إشارة سيئة للحملة العسكرية المسماة "غصن الزيتون".
كلنا يعلم بأن قصص الألم والعنف كثيرة في بلاد الحروب التي تسودها شريعة الغاب، في غياب قانون الدولة وانتشار الفوضى، كلنا يعلم أن الضريبة يدفعها كل الموجودين والغائبين المنتسبين لتلك الجغرافية، ولكننا لا نستطيع سوى أن نتألم أكثر وكأننا نعاقب أنفسنا، ويزداد الوجع أكثر حين نسمع ونشاهد بأم أعيننا، ما يحدث من فظائع لا يتحملها الوجدان ولا العقل الإنساني، تلك المشاهد وهي تعرض على شاشات التلفزة وتبث في أنحاء العالم، كمجرد خبر إعلامي أو سبق صحفي، ليتحول الإنسان لمجرد رقم في قائمة ما.
على الرغم من ذلك، نبقى على أمل بأن تصبح تلك المشاهد التي تحدث تأثيراً في وعي الناس ومواقفهم وتغيير آرائهم، أدلة موثقة وكفيلة بأن تدين مرتكبي الانتهاكات، واعتبارهم مجرمين، لتدينهم يوماً ما وهم ماثلون أمام القانون، أملاً في تحقيق العدالة المنشودة
حين يلجأ المسلحون في الحروب الأهلية لممارسة العنف ضد الأطفال أو النساء، كسلاح تهدد به الشعوب، دون مراعاة لأي روابط كانت تجمعهم يوماً كالجيرة أو الصداقة، فيخطفون نساءهم ويستبيحون أعراضهم، ويقتلون ويمثلون بجثثهن، أو قد يصل بهم الأمر للاستعباد، فتتحول النساء إلى سبايا تباع وتشترى في أسواق النخاسة، كما حدث مع الآلاف من نساء الكرد الإيزيديات في سوريا والعراق.
ما أكثرها قصص الألم في حياتنا، ذاكرتنا ممتلئة، المشاهد والصور والأصوات تترد صداها وتثير نوازعنا الإنسانية. نحن البشر مرهونون بذاكرتنا مع الأماكن والشخوص والأحداث، تربطنا بالحياة رحلة طويلة، وقودها تلك الذكريات والتجارب، مؤلمة كانت أو سعيدة.
لو كنا نشبه الحواسيب، لقمنا بعملية "فورمات" إلكترونية تعيد ذاكرتنا نقية من كل فيروس بغيض.
وعلى الرغم من ذلك، نبقى على أمل بأن تصبح تلك المشاهد التي تحدث تأثيراً في وعي الناس ومواقفهم وتغيير آرائهم، أدلة موثقة وكفيلة بأن تدين مرتكبي الانتهاكات، واعتبارهم مجرمين، لتدينهم يوماً ما وهم ماثلون أمام القانون، أملاً في تحقيق العدالة المنشودة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...