رحلة يومية مملة كان يقطعها أحمد عز الدين (22 عاماً)، الطالب في كلية التربية النوعية، من منزله في الهرم إلى كليته الواقعة في حي الدقي. طريق يحفظه وأناس يألفهم كل صباح، لكن في آذار/ مارس 2020، ثمّة أمور تغيّرت. بعض الوجوه أضحت مقنّعة والأيادي لم تَعُد عارية. ذبذبات تصل إلى أذنيه تُؤكد أن صوتاً جهورياً يصدح من الإذاعة الداخلية لمترو الأنفاق، يُلقّن الركاب تعليمات لا تصل جميعها إلى الشاب العشريني، إذ تقف سمّاعة أعلى أذنه، ولا تسمح إلا بمرور القليل من الصوت لشخص ينتمي إلى فئة الصم وضعاف السمع.
في المساء، تلتف الأسرة حول التلفاز. يراقب أحمد ملامح أبيه العابسة ووجه أخته الصغرى، ثم ينظر إلى ضيف بات معتاداً ظهوره، وهو يجلس خلف طاولة وبين يديه كومة من أوراق يتلو منها، ثم تُكتب على الشاشة أرقام عن إصابات ووفيات وحالات شفاء، من مرض يُطلق عليه "كوفيد-19".
لا يستطع الشاب الاستفسار عمّا يدوره حوله من أسرته، لأن لا أحد فيها يعرف لغة الإشارة. يعود إلى مجتمعه الصغير على مواقع التواصل الاجتماعي، ليجد مقاطع مصورة توعّي الصم بوباء جديد، وتحثهم على ارتداء الكمامات وغسل الأيدي وعدم الخروج من المنزل.
"ماذا يعرف الصم عن كورونا؟"
"ماذا يعرف الصم عن كورونا؟"، سؤال يطرحه رصيف22 في محاولة لإيجاد إجابة، في ظل غياب حملات توعية بلغة الإشارة عبر التلفزيون الرسمي أو القنوات الخاصة.
أحمد الذي تحدث لرصيف22 كتابةً يعرف معلومات كثيرة عن كورونا. "بنشوفه كاتبها في منشوراته على صفحة الفيسبوك، مش عارفين جابها منين لأننا مش بنتكلم لغة الإشارة دي!"، تقول آية، شقيقة أحمد الكبرى، بعد سؤالها عن دور الأسرة في التواصل معه وتزويده بمعلومات وقائية تساعده على تجنب العدوى.
لم يجد الشاب متنفساً إلا على مواقع التواصل، إذ عملت صفحات خاصة بالصم على نشر مقاطع مصورة لتوعيتهم وحثهم على غسل الأيدي باستمرار وتجنب ملامسة العين والأنف والفم، والحرص على التباعد الاجتماعي، إضافة إلى توعيتهم بأن يلزموا منازلهم ولا يخرجوا إلا للضرورة القصوى.
عن التوعية في المواقع الصحافية والتلفزيون، يقول أحمد إن هناك قنوات تستعين بمترجم إشارة لبعض لبرامج والأخبار، دون تقديم حملات توعية مخصصة للصم بلغة الإشارة، كما أن الموقع الرسمي لوزارة الشباب والرياضة يقدم محتوى للصم لكنه غير كافٍ.
ويضيف: عدد بسيط من المواقع الصحافية أنتج مقاطع مصورة، لكنها تضمنت معلومات خاطئة مثل أن الفيروس لا يصيب الشباب والأطفال لكنه يصيب كبار السن فقط.
"هو في إيه؟"
في مشهد آخر، جلست الأم منى لتتابع مؤتمراً صحافياً لرئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، للإعلان عن حزمة إجراءات جديدة لمواجهة فيروس كورونا. قطع تركيزها سؤال نجلها الأصم، إسلام، بلغة الإشارة: "هو في إيه؟".
حاول إسلام محمد (23 عاماً)، متحصّل على دبلوم فني ولا يعمل، التعرف عن سبب الإجراءات وطبيعة المرض، وبعد إرشادات يومية من والدته، صوّر مقطع فيديو شرح فيه معلوماته عن المرض بلغة الإشارة وأرسله إلى أصدقائه على واتساب وفيه: اغسلوا أيديكم وارتدوا الكمامات ولا تخرجوا من بيوتكم، لأن هناك مرضاً معدياً يسبب ارتفاع الحرارة وأعراض أخرى.
تحكي الأم المقيمة في منطقة المرج، شمال شرق القاهرة: "إسلام مولود أصم، عرفت ذلك منذ أن كان عمره ثلاثة أشهر ومقدرناش نعمل له عملية زرع قوقعة بسبب ظروف مادية، وعندما بدأ يكبر تعلّمت لغة الإشارة أنا وأخوه الأكبر (أحمد) في جمعية خيرية، عشان نقدر نتواصل معاه ونفهمه".
بينما تنهمك حسناء م. في زخرفة بعض المشغولات اليدوية، تلمح لقطات غير معتادة على شاشة التلفزيون عن ضرورة التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات. تتجه لثلاثة من إخوتها الصم، وتسألهم عن السبب، فيجيبون: لا نعرف
وتضيف: "حكيت لإسلام بلغة الإشارة أن هناك فيروساً معدياً ينتقل من فرد إلى آخر، وله أعراض مثل ارتفاع درجة الحرارة والسعال. كما أنه يعتمد على بعض أصدقائه الذين قدّموا عدداً من المقاطع المصورة عن حظر التجوّل وحالات الوفاة إثر الإصابة بكورونا. أما التلفزيون، ففيه حاجات بسيطة بالإشارة".
في مكان آخر، وبينما تنهمك حسناء م. في زخرفة بعض المشغولات اليدوية، تلمح لقطات غير معتادة على شاشة التلفزيون عن ضرورة التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات. تتجه لثلاثة من إخوتها الصم، وتسألهم عن السبب، فيجيبوا: لا نعرف.
لجأت الفتاة ذات العشرين عاماً لأبيها، وهو متحدث جيّد للغة الإشارة، إذ اضطر لتعلمها بعد أن رُزق بأربعة أبناء من الصم وضعاف السمع بمساعدة بعض مترجمي الإشارة في منطقته السكنية في فيصل، ليسهُل عليه التواصل مع صغاره الذين تعلموا تلك اللغة في مدارسهم المخصصة للصم.
أخبرها والدها هي وإخوتها أن مصر تعاني من مرض معدٍ خطير اسمه "كورونا". وقالت حسناء: شاهدت مشهداً على التلفزيون وأسرتي أفهموني أن عليّ أن أبتعد عن التجمعات، وألبس كفّين وكمامة، وألا أصافح أحداً.
وتابعت الطالبة في كلية التربية النوعية، قسم زخرفة، أنها ملتزمة بالتعليمات التي تلقتها من أسرتها، كي لا تنقل العدوى لأي من أفراد المنزل، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن مصدر معلوماتها عن كوفيد-19 لم يكن من خلال حملات مخصصة للصم، بل من الأخبار وبعض الشائعات التي وصلت لها مما تتابعه على مواقع التواصل الاجتماعي.
ماذا يقدّم مترجم الإشارة؟
على الجانب الآخر، يقف الوسيط مقيداً. ماذا يقدم مترجم الإشارة لجمهوره من الصم؟ هل يحدثهم عن الفيروس أم الأعراض أم الإجراءات الحكومية؟
يجيب سعيد سامي، مترجم الإشارة في كلية التربية النوعية في جامعة الزقازيق، ومسؤول جمعية الصم والبكم في القليوبية: "كانت لنا محاولات في بداية الأزمة، فقبل غلق المساجد كنا نجتمع بالصم داخل أحد مساجد منيا القمح ونقدّم لهم دروس توعية".
يضيف أن المنصة المتاحة حالياً هي صفحات فيسبوك: "منقدرش نعمل أكتر من كدة، بنترجم القرارات الجديدة لمجلس الوزراء، وطريقة التعامل مع المرضى، وضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعي وعدم الخروج من البيت، ونقدم لهم معلومات مبسطة عن تقوية جهاز المناعة".
"الموظفون عاجزون عن فهمهم، فإذا ظهرت الأعراض على أحدهم وتوجهوا إلى المستشفى، من الصعب أن يجدوا مَن يفهمهم"
وعن جدوى ما يقدمونه، يقول إن نسبة كبيرة من فئة الصم تتفاعل مع المحتوى الذي ينشره على حسابه على فيسبوك، لكنه يظل مجرد فرد بإمكانيات محدودة تختلف كلياً عن تبني مؤسسة أو جهة ما لتلك المهام.
وبرأيه، يختلف التلفزيون عن فيسبوك لأن جمهوره أكبر ويستهدف كافة الشرائح، مشيراً إلى أن قنوات تلفزيونية خاصة تعاقدت مع مترجمين إشارة لترجمة بعض البرامج والأخبار، منها DMC وCBC وExtra News، لكنها لا تقدّم حملة توعوية كاملة مخصصة للصم وضعاف السمع.
"ما يحتاجه الصم؟ نحتاج أن تعمَّم التجربة على جميع القنوات، لأن الدول العربية سبقتنا في هذا الأمر وكان لذلك أثر كبير على تلاشي الاختلاط والالتزام بقرارات الدولة"، بحسب سامي.
ويشير مترجم الإشارة إلى إشكالية أخرى تواجه الصم، وهي أن الموظفين عاجزون عن فهمهم، فإذا ظهرت الأعراض على أحدهم وتوجهوا إلى المستشفى، من الصعب أن يجدوا مَن يفهمهم، متسائلاً: "ماذا يحدث مثلاً في حال خرق أحد الصم مواعيد الحظر؟ هل سيُقتاد إلى قسم شرطة ومَن سيتعامل معه هناك؟".
ولفت سامي إلى أن عدداً من مترجمي الإشارة تطوعوا لتعليم المتكلمين كيفية التواصل مع الصم، لمساعدتهم في التوعية وخدمة هذه الفئة، مثل مبادرة "اتعلموا إشارة" للمترجم محمود سمير، ومبادرة "افهمني.. أنا صوتك" التي أطلقها مجموعة من الشباب النوبيين في القاهرة.
وشدد على أن المحافظات فيها عجز كبير في عدد المترجمين، كما أنها تخلو من أية ملصقات توعوية مثل تلك الموجودة في محطات المترو في القاهرة، وهو أمر لا يتناسب مع حاجة الصم للتوعية، لا سيما أن بعضهم لا يعلم كيفية ارتداء الكمامة وخلعها بطريقة صحيحة، ويجب إخبارهم بتجنب استخدامها أكثر من مرة أو وضعها على أسطح من الممكن أن تكون ملوثة.
بدورها تقول نادية عبد الله، رئيسة المؤسسة المصرية لحقوق الصم ومترجمي لغة الإشارة: "إحنا كنا فين وبقينا فين"، دلالة على رضاها عمّا تقدمه الدولة للصم، مشيرة إلى أن الصم يتواصلون مع المترجمين في المؤسسة ويسألونهم عن أي محتوى لا يفهمونه، إضافة إلى أن قناتي CBC وDMC تترجمان نشرات الأخبار وتقدّمان برامج صحية مترجمة للغة الإشارة.
وأوضحت لرصيف22 أن هناك مبادرة بالتنسيق مع وزارة الصحة، تقضي بتوفير عدد من المترجمين في المحافظات، وتقول: "عشان لو أصم راح أي مستشفى ومقدروش يفهموه يتصل بالمترجم ويروح له".
ولا أرقام دقيقة عن عدد ذوي الإعاقة السمعية في مصر، لكن هناك تقديرات بأنه كان خمسة ملايين عام 2006، وأنه حالياً حوالي تسعة ملايين.
بدورها، قالت رشا أرنست، مسؤولة إدارة الثقافة والفنون في المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة، إن المجلس لم يقدّم حملات تلفزيونية للصم، بيد أنه ينشر محتوى توعوي لضعاف السمع بلغة الإشارة عبر صفحته على فيسبوك.
يُشار إلى أن منظمة الصحة العالمية أفادت في تقريرها الصادر في مارس 2020، أن نسبة تتجاوز 5% من سكان العالم (466 مليون شخص) تعاني من فقدان السمع المسبب للعجز، 432 مليوناً منهم بالغون و34 مليوناً من الأطفال.
وتشير تقديرات المنظمة إلى أنه بحلول عام 2050 سيعاني أكثر من 900 مليون شخص، أو واحد من كل عشرة أشخاص، من فقدان السمع، ويعيش أغلب هؤلاء الأشخاص في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل.
ويعاني نحو ثلث الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً من فقدان السمع المسبب للعجز، ويبلغ الانتشار في هذه الفئة العمرية ذروته في جنوب آسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ وإفريقيا جنوب الصحراء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...