"ما بالكم أيها الحمقى، إنكم تهدرون فرصة رائعة للجلوس على الأريكة ومشاهدة التلفزيون"، بهذا الأسلوب التهكمي خاطب الكوميدي لاري ديفيد، ملايين الأشخاص من حول العالم، طالباً منهم التقيّد بالإرشادات والتعليمات الصادرة من قبل الجهات المختصة لجهة البقاء في المنزل، وذلك لمواجهة فيروس كورونا والحدّ من انتشاره.
واللافت أن هذه هي المرة الأولى التي تشدد فيها التوصيات على أهمية البقاء في المنزل، ما يجعل الأزمة الحالية التي نمر بها جميعاً مختلفة تماماً عن سواها، ففي السابق اعتدنا على التحذيرات والإرشادات التي تحثنا على فعل أشياء قد لا نرغب القيام بها في الأصل، أما اليوم، ومع تفشي فيروس كورونا في العالم كله، أصبحت النصائح الرسمية لا تتجاوز الاستلقاء على الكنبة ومشاهدة التلفزيون طوال اليوم.
وفي حين أنه من المفترض أن تروق كل هذه الأمور للجانب الكسول الموجود في داخل كل شخص منّا، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة.
لماذا من الصعب علينا كبشر الاستسلام لمبدأ "عدم القيام بأي شيء على الإطلاق"؟
الكسل.. أصعب معادلة
هل سبق وأن حلمتم بعدم الاضطرار لفعل أي شيء على الإطلاق، كأن تستلقوا فقط على الأرجوحة طوال فترة ما بعد الظهر، فتكتفون بالتحديق في الأفق والاستسلام للصمت؟
قد تبدو هذه الفكرة جميلة وسهلة التطبيق، إلا أنه في الواقع تبيّن أن عدم القيام بأي شيء هو من أصعب المعادلات في الحياة.
ففي دراسة أجريت في جامعة فيرجينيا، تم دفع المشتركين واحداً تلو الآخر، إلى غرفة خالية من كل شيء، مع الحرص على إزالة جميع الأمور التي من شأنها تشتيت الانتباه، فلم يُترك للمشتركين أي كتاب أو هاتف أو شاشات، كما لم يُسمح لهم بأخذ قيلولة، وبعد تركيب أقطاب كهربائية على كواحلهم، تُرك كل واحد منهم بمفرده لمدة 15 دقيقة، وفي حين بدت هذه التجربة فرصة لهم للاسترخاء لفترة قصيرة، إلا أن ما حدث لم يكن في الحسبان.
عدم القيام بأي شيء هو من أصعب المعادلات في الحياة
قبل أن يتم ترك المشتركين بمفردهم في الغرفة، أبلغهم القائمون على الدراسة بأن الضغط على زر جهاز كمبيوتر الموجود بالداخل، سيتسبب في إحداث صدمة كهربائية، وفي حين أننا نفترض أن مجرد تجربة الضغط على الزر لمرة واحدة، كفيل بعدم رغبة أحد في القيام بذلك مرة أخرى، إلا أن النتيجة كانت صادمة: 71% من المشتركين الرجال و25% من الإناث، تسببوا بالصدمة الكهربائية لأنفسهم مرة واحدة على الأقل خلال بقائهم في العزلة، هذا وقد قام أحد الرجال بالضغط على الزر 190 مرة.
وبالتالي، اتضح من خلال هذا الاختبار أن عدم القيام بأي شيء كان أمراً مؤلماً للغاية، لدرجة أن العديد من المشتركين فضلوا في الواقع تعذيب أنفسهم بدلاً من تحمل الابتعاد عن أي مصدر للتشتيت.
وبالرغم من أن هذه التجربة تعتبر نموذجاً متطرفاً، فإننا نرى في حياتنا اليومية أن الناس يختارون باستمرار القيام بأشياء ليسوا بحاجة لها، والتي تكون مؤلمة لهم في بعض الأحيان.
لسنا مبرمجين على الكسل
بعد مرور بضعة أسابيع على تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي، اتضح أننا كبشر لسنا مُبرمجين بيولوجياً على القيام بأقل قدر ممكن من الجهد، لا بل على العكس، إننا نشعر بالازدهار كلما مارسنا نشاطاً، أو على الأقل، عندما نقيم توازناً جيداً بين الانكباب على العمل والقدرة على نيل قسط من الراحة.
للوهلة الأولى، يبدو أننا غالباً ما نبحث عن الخيار الأسهل ونميل لاتخاذ طرق مختصرة لتحقيق النجاح، فمثلاً، إذا كان لدينا جهاز تحكم عن بعد، لماذا ننهض لتغيير محطات التلفزيون بنفسنا؟ وإذا كان لدينا سيارة، لماذا نذهب إلى السوبرماركت على الدراجة؟ وإذا كان باستطاعتنا القيام بنصف العمل الذي يقوم به زميلنا، فلماذا نمتنع عن القيام بذلك؟
كبشر لسنا مُبرمجين بيولوجياً على القيام بأقل قدر ممكن من الجهد، لا بل على العكس، إننا نشعر بالازدهار كلما مارسنا نشاطاً
في الواقع، ينطوي أي عمل أو جهد على إجهاد جسدي أو ذهني، وهو ما يجعل من المنطقي تجنبه قدر الإمكان، وبالفعل، إننا نفعل ذلك في بعض الأوقات، فنطبق ما يُعرف بمبدأ "قانون زيف"، أي بذل أقل جهد ممكن، إلا أننا نميل لانتهاك هذا المبدأ طوال الوقت، وذلك يعود لصعوبة الاستسلام للخمول والكسل.
صحيح أننا في بعض الأحيان نختار الطريق السهل والذي يضمن لنا بذل القليل من الجهد، إلا أننا في أوقات أخرى، نقدر المواقف بشكل أكبر في حال بذلنا جهداً أكبر، بحيث يمنحنا هذا الجهد الكثير من السعادة، الأمر الذي يجعلنا نعزف عن اختيار الطرق المختصرة للنجاح، كأن نقضي مثلاً ساعات طويلة في محاولات مضنية لحل الكلمات المتقاطعة، بدلاً من استخدام محركاً للبحث للعثور على الحل بطريقة أسرع، هذه الظاهرة أطلق عليها الباحث مايكل إنزليخت، من جامعة تورنتو الكندية، مصطلح The Effort Paradox (تناقض الجهد).
واللافت أن "تناقض الجهد" هو ما نتعلمه منذ نعومة أظافرنا، فخلال طفولتنا يتم تلقيننا أن الجهد يؤدي إلى الحصول على مكافأة، ومع مرور الوقت نعتاد أن نستمتع ببذل الجهد بحد ذاته، ويُعرف هذا باسم "الاجتهاد المكتسب".
في حديثه مع موقع رصيف22، تحدث الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، عن الطبيعة الإنسانية التي تفرض علينا ان نكون أفراداً فعّالين في المجتمع وذلك لضمان البقاء على قيد الحياة، مستنداً إلى ما قاله مؤسس علم التحليل النفسي، سيغموند فرويد، بأن لدى الإنسان غريزتين، هما غريزة الحياة وغريزة الموت: "لحتى نهرب من الموت، لازم نعملactions (نشاطات) وننخرط بعلاقات اجتماعية... يعني مندوّر على حالنا لحتى نهرب من الموت وجزء من الطبيعة البشرية أنو نكون active وإذا رجعنا للتطور البشري منلاحظ إنو طول الوقت الإنسان بيتحرك، وبجرب يشوف كيف بيقدر يحقق ذاتو وكيف يعيش".
وبالتالي، اعتبر رستم أن القيام بشيء يعني أننا نعيش ونحيا، في حين أن الاستسلام للكسل يعني الموت.
وفي هذا الصدد، تحدث هاني عن الصدمات النفسية التي تؤثر سلباً على حركة ونشاط المرء، فتجعله "مشلولاً"، بحيث يصبح الشخص غير قادر على القيام بشيء، "فيخسر sense of purpose (الشعور بالهدف) الذي نعيش كبشر من أجله وإلا نصبح تائهين في هذه الحياة"، مضيفاً بأن الكسل هو من أعراض الاكتئاب: "قلة الحركة بتعني الموت، يعني بصير الشخص مش موجود، ما بيعمل شي، بيضل قاعد، فقد sense of time (الشعور بالوقت) والإحساس بالأمل، ما عاد في action بيعملوsatisfaction (رضا) للأنا بتخلي يحس إنو عم بيحقق ذاتو".
التوازن... مفتاح الحياة
إن كان البعض منّا لا يستطيع أن يتفهم مشاعر الحماسة وجرعة التشويق التي يحصل عليها مثلاً الأشخاص الذين يتسلقون الجبال والقمم الجبلية، مع كل الجهود التي يبذلونها والمخاطر التي يواجهونها، فبوسع غالبيتنا فهم ما يُعرف بـ"تأثير آيكيا"، وهي الشركة العالمية المتخصصة في صناعة الأثاث وبيع منتجاتها مفككة إلى زبائنها، على أن يقوموا هم بتركيبها، بحيث يشعر الأشخاص بتقدير أكبر للأدوات المنزلية إذا قاموا بتركيبها بأنفسهم.
كل ذلك يعني أن البقاء في المنزل، الاستلقاء على الأريكة ومشاهدة التليفزيون، لا يشكلون سوى جزءاً من كيفية تمضية الوقت.
القيام بشيء يعني أننا نعيش ونحيا، في حين أن الاستسلام للكسل يعني الموت
وعليه، نحتاج خلال هذه الفترة التي تتسم بالعزلة الإجبارية، لتحقيق التوازن بين العمل والاسترخاء، لذلك تعتبر ممارسة التمارين الرياضية وتحديد مهام لأنفسنا والقيام بما هو مجهد وصعب، من الأمور التي تكتسب أهمية كبيرة في الوقت الراهن، هذا ويجب علينا جميعاً أن نبحث عن الأنشطة التي تعزز ما أطلق عليه عالم النفس ميهالي تشيكسينتميهايي، اسم "التدفق" في كتابهFlow: The Psychology of Optimal Experience، على غرار الرسم والبستنة وحل الألغاز، لكونها مهاماً تجعلنا ننخرط بها بشدة، لدرجة أننا لا نشعر بمرور الوقت ولا ينتابنا القلق.
في الختام، وبخلاف ما كنّا نعتقد أنه من الممتع التكاسل لبضعة أسابيع، إلا أن هذا سيصيبنا بالتشتت والقلق والتوتر، فقد تبيّن من خلال جائحة كورونا أن القيام بعمل أقل والحصول على راحة أكبر، يتطلب في البداية الكثير من الجهد، الأمر الذي يؤكد أننا كبشر لسنا كسالى بالفطرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...