لا شك أن فيروس "كوفيد-19" أصابنا جميعاً بالتوتر، فقد جعلنا نشعر بالتعب، القلق، الفتور، الإحباط، الاكتئاب والخوف من أن نقع في "فخ" هذا الوباء، أو أن نكون سبباً لانتقال المرض إلى المقرّبين منّا، كما أنه أضرم في داخلنا نار الغضب والاشمئزاز من الأشخاص الذين لا يأخذون الأمر على محمل الجد، فيستهترون بصحتهم وصحة الآخرين، والنفور من أولئك الذين يصابون بالهلع الشديد والحرص الذي يصل لحدّ "الوسواس المرضي".
وبغض النظر عن المشاعر التي خلّفها هذا الفيروس العالمي، وبعض الآثار النفسية التي لا تزال مجهولة والوقت وحده كفيل بكشفها، فإننا نعرف شيئاً واحداً بالتأكيد: العالم الذي نعيش فيه قد تغيّر، وما قبل كورونا ليس كما بعده، فبالإضافة إلى التركيز على موضوع النظافة الشخصية، مراعاة الآخرين وتطور ممارسات العمل، هناك تحول كبير يحدث في الطريقة التي نرى بها أنفسنا وتغير في طريقة تفكيرنا بشأن العالم من حولنا.
بين الاستسلام والاستفادة
أمام فيروس كورونا الذي ضرب العالم أجمع، يقف المرء أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الخضوع للضغط النفسي للوباء أو الاستفادة من الأزمة لتعزيز النمو الشخصي.
ففي علم النفس يشير مصطلح التأقلم إلى مجموعة من آليات التكيف النفسي التي وضعها الفرد للتعامل مع المشاكل العاطفية والشخصية والوجودية، وذلك من أجل إدارة، تقليل أو تحمل الإجهاد والصراع وجميع الآثار المترتبة عن ذلك.
العالم الذي نعيش فيه قد تغيّر، وما قبل كورونا ليس كما بعده
والحقيقة أن البشر بطبيعتهم يحبون أن يكون لديهم روتين محدد ويرتاحون لفكرة التخطيط وتنظيم حياتهم، إلا أن مواجهة الشكوك لطالما كانت أمراً صعباً للغاية، بخاصة وأننا نواجه اليوم وباء يلفه الكثير من الغموض، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالتهديد من العدوى وتستحوذ المخاوف على تفكيرنا، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الخوف لا يخلق نظرة ضبابية فحسب، بل يجرنا إلى الغضب الذي يقودنا بدوره إلى نظريات المؤامرة والبحث المحموم عن "الجناة".
واللافت أن هذا الغضب يستنزف طاقتنا لأنه يجعلنا ندور في حلقة مفرغة، تبدأ بالخوف ثم الغضب ومنه إلى البحث عن الجناة، ما يؤدي إلى الشعور بالإحباط وبالتالي تضخّم الخوف، من هنا ينبغي كسر هذه الحلقة المفرغة لتنفيذ استراتيجيات التكيّف الصحيحة.
بعيداً عن الصورة السلبية التي تطغى على المشهد العالمي اليوم، تناول الأخصائي في علم النفس هاني رستم، التغيير الإيجابي الذي أحدثه فيروس كورونا على طريقة تفكيرنا.
فقد أوضح رستم، في حديثه مع موقع رصيف22، أنه في اللحظة التي حصل فيها بطء في وتيرة الحياة، أصبح لدينا مجال أكبر للتفكير في بعض التفاصيل التي لم نولِها أهمية في السابق، شارحاً ذلك بالقول: "وقت طبقنا قواعد الحجر الذاتي المنزلي، ووقفت العجقة والركض يلي كان عم بصير لحتى نكافح في الحياة ونعمل الإشيا يلي لازم نعملها، هيدا الشي بيعطينا مجال، لانو يكون في وقت أكتر تنعمل مراجعة لحالنا ولتصرفاتنا ولنشوف الامور بطريقة مختلفة"، وأضاف: "متل كأنو عم ناخد pause (استراحة) من الحياة لحتى نقدر نرتاح ونشوف الإشيا من منظور جديد".
لقد أجبرتنا أزمة كورونا على إدراك أن الكثير من الأشياء المعتادة في حياتنا ليست مضمونة ولا يجب اعتبارها أمراً مفروغاً منه
وأشار هاني إلى أن فيروس كورونا جعل العالم كله يتحد لمواجهته، وعليه أكد أنه لم يعد العديد من الأشخاص يشعرون بالوحدة، إذ يتشارك الجميع في هذه المحنة، "ما يخلق حالة من التعاطف الجماعي المشترك"، على حدّ قوله.
وبالرغم من تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي لمحاربة تفشي فيروس كورونا، شدد هاني رستم على أن الحجر المنزلي يساهم في تعزيز العلاقات بين أفراد الأسرة من خلال الوقت الذي يقضيه الأحبة معاً.
التغييرات
بحكم تجاربنا في الحياة، بتنا نعلم أنه في الأوقات الصعبة وعند الشعور باليأس فإننا نفكر كثيراً ونفعل أشياء لم نكن نعتقد أننا قادرون عليها في أوقات الرخاء، بمعنى آخر، إن أوقات الشدة تجعلنا ننكبّ على أنفسنا ونحدث تغييراً في داخلنا، وهذا ما يحصل تماماً في ظل أزمة كورونا المستجدة، وفق ما ذكره موقع سيكولوجي توداي.
وأوضح الموقع أنه في حال لم تلحظوا أي تغيير، فلا تستغربوا، إذ إنه في ظل وجود عدو خارجي مثل فوضى كورونا، من الشائع أن ينقص الوعي بشأن كيفية تطور معتقداتكم وسلوككم، فعلى عكس التطورات الجسدية التي تميز البشر، فإن المؤشرات النفسية، مثل الاعتقادات الشخصية، التفضيلات والتوقعات تتحدى الملاحظة المباشرة ومن الصعب تفسيرها بدقة، بخاصة وأن البشر عموماً لا يجيدون التقييم الذاتي، وهذا ما دفع الباحث ديفيد فيلدون، إلى أن يصرح في إحدى دراساته: "التفسيرات الذاتية للمشتركين غير دقيقة إلى حد كبير".
كيف يغيّر "كوفيد-19" طريقة تفكيركم وتفكير العالم بأسره؟
ستكتشفون ما كنتم تعتبرونه أمراً مفروغاً منه: لقد أجبرتنا أزمة كورونا على إدراك أن الكثير من الأشياء المعتادة في حياتنا ليست مضمونة ولا يجب اعتبارها أمراً مفروغاً منه.
بغض النظر عن الثروة، العرق، العمر، المعتقدات السياسية والاختلافات الشخصية، نشعر جميعاً بعواقب العيش تحت "رحمة" وباء قاتل، إذ أصبح التواصل الاجتماعي مقيّداً، ولم يعد الكثير منّا قادراً على أداء المهام الأساسية في وظيفته، كما وأن الضروريات أصبحت نادرة، وحتى عندما ندرك أنه لدينا ثروة جيدة فإننا نصبح أكثر وعياً بمحنة الآخرين، الأمر الذي يجعلنا نعزّز تعاطفنا وقدرتنا على مساعدة المحتاجين، وننتبه إلى أشياء لم نعرف قيمتها إلا بعد فقدانها.
الشعور بفقدان السيطرة: يشعر الكثير من الناس بالاستقلالية، ويؤمنون بقدرتهم على تحديد ما سينجزونه وكيف سيسيّرون حياتهم، وهو ما يصفه علماء النفس "معتقدات تحكم خارجية"، لكننا الآن في فترة نواجه فيها تحدياً كبيراً لجهودنا بسبب الفيروس العالمي، وبالتالي يمكن القول إن مفهوم السيطرة الذي لطالما اعتدنا عليه قد تلاشى.
وعلى الرغم من التغيرات الخارجية، ما زال بإمكاننا تعزيز التغيير الشخصي والحفاظ على بعض السيطرة، من خلال النظر إلى الأمور بطرق مختلفة، فبالنسبة للبعض قد يكون هذا هو الوقت المناسب للتعمق بداخلنا، ووقت الفصل الذي نعيد فيه تقييم مسار حياتنا، لتنظيم التغيرات الإيجابية بمجرد انتهاء الأزمة.
اكتساب الوضوح من خلال البساطة: نظراً للقيود التنظيمية الضخمة المفروضة على تحركاتنا ووجود وقت فراغ كبير، فإننا الآن مضطرون للتركيز على الأشياء البسيطة التي لا تتأثر مثلاً بالمناخ العالمي، بمعنى آخر، يمكننا أن نشعر بالسعادة من خلال القيام بأمور بسيطة، كالاتصال بصديق قديم، الكتابة، التنزّه لمسافة طويلة أو الاسترخاء في أشعة الشمس، مع تجاهل مضايقات الحياة، فالأشياء التي كانت تحبطنا في العادة، مثل زحمة السير والاضطرار إلى العمل في وقت الغداء، لا تبدو مهمة تماماً الآن، لأننا أصبحنا ندرك أن أبسط المتع في الحياة ما زالت موجودة ويمكن الاستمتاع بها.
في كتابها How to Do Nothing: Resisting the Attention Economy، الصادر في العام 2019، تحدثت جيني أوديل، أن العمل القليل له فوائد بالنسبة للمناخ والبيئة، وكذلك لجهة خفض مستويات التوتر، وكما هو معلوم، فإن فيروس كورونا أدى الى خفض الإنتاجية، الأمر الذي أعطانا فرصة لمقارنة وضعنا الآن مع "حياتنا الطبيعية"، والضغط على زر الإيقاف المؤقت يمنحنا فرصة لتقييم ما يستحق حقاً في حياتنا.
أهداف طويلة المدى أقل أهمية: يميل العديد من الناس إلى التفكير والنظر فيما سيحدث لاحقاً على حساب الاستمتاع باللحظة الآنية، وهو ما دفع العديد من الأدباء، أمثال الكاتبة آن لاندرز، في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى الدعوة للاستمتاع باللحظة: "يجب أن نحصل على بعض الوقت لنتوقف ونشم عطر الورود".
وفي حين أنه قد يكون من غير المنطقي الشعور بأن أهدافنا المستقبلية في خطر، فإن الأبحاث تظهر أن الأشخاص الذين يعيشون في الحاضر ويستمتعون بما يفعلونه، يحصلون على رفاهية أعلى ممن يغرقون في الماضي أو يركزون على المستقبل.
وبالنظر إلى الشكوك المستقبلية، فقد غيّر الفيروس من التفكير فيما قد يحدث بعد شهور، إلى ما يحدث الآن وما نفعله اليوم.
ازدياد الشعور بالامتنان: نعيش الآن في فترة استثنائية من عدم اليقين، فإذا كان بإمكانكم الذهاب إلى المتجر ربما لن تجدوا ورق تواليت أو معقم يدين، من هنا سوف ينتابكم الشعور بأنكم محظوظون لامتلاككم بعض ضروريات الحياة.
واللافت أن الأشخاص الذين يمتلكون مستويات عالية من الامتنان عادة ما يملكون قدراً كبيراً من الرضا عن الحياة، وباتت الرفاهية الجمعية تحل محل الإيديولوجيات الفردية والأنانية، ربما ستجدون أنفسكم في الكثير من الأحيان تختارون دعم القضايا العامة، مثل التطوّع أو التبرّع بالأعضاء، في حين لم يكن هذا الخيار مطروحاً في السابق.
إدراك معنى الاستثنائية والتميز: إذا كنت تقرؤون هذا المقال فهذا يعني أنكم تملكون هاتفاً ذكياً أو كمبيوتر وخدمة إنترنت، وسواء أدركتم ذلك أم لا، أنتم أفضل حالاً من الغالبية العظمى من البشر الذين هم أقل حظاً، وربما لا يعلمون إذا كانوا سيجدون طعاماً يأكلونه أو مكاناً ينامون فيه.
ربما ستدركون أن الاستثناء والتميز ليسا متعلقين فقط بالعمل الجاد أو التضحيات التي قدمتموها أو ما حققتموه، لكن الأمر يتعلق بقدرتكم على ممارسة حياتكم اليومية دون الحاجة للتفكير في سلامتكم الجسدية والنفسية.
تلاشي الاختلافات الفردية: عندما يكون لدينا عدو مشترك فإننا نميل إلى تعزيز الروابط مع الأشخاص من حولنا، حتى أكثر الشركاء أو الأزواج خلافاً باتوا يتفقون على ضرورة العمل معاً للتغلب على هذا الفيروس الخطير، والذي جعلنا ندرك أنه لا يبالي بلوننا ولا يهتم بعمرنا أو بمستوى تعليمنا، ولن يفرق بين مسجون أو مشرد أو شخص مشهور يعيش في قصر.
من خلال كورونا، تعلمنا أننا جميعاً على نفس القدر من الضعف، وأننا متشابهون بشكل جوهري رغم الاختلافات السطحية التي نبدو عليها.
شبح كورونا استطاع أن يقلب حياتنا رأساً على عقب، بحيث أنه أوقف عجلة الحياة، أجبرنا على البقاء في المنزل وجعلنا نفكر بأدق التفاصيل الموجودة في حياتنا
باختصار، يتحد العالم كله اليوم ضد عدو مشترك وهو فيروس كورونا الذي يغيّرنا ويغيّر المجتمع من حولنا، لذا من الضروري أن تصبح الإيديولوجيات السياسية والآراء الشخصية ثانوية للتغلب على العقبات الحالية.
لقد حان الوقت لأن ندرك أن معتقداتنا ستتغير وأن المعركة ضد فيروس كورونا ستغيرنا للأفضل. هل تعرفون ما يفتقده الأشخاص الذين يهرعون الى المتاجر عند الأزمات ويخزنون في بيوتهم ورق التواليت ومعقم اليدين وغيرها من الأغراض...؟ إنهم ينسون أن الحياة هي هبة، وأن كل ما لدينا في الحياة هو نعمة، بدءاً من عائلاتنا، أطفالنا، بيوتنا أو وظائفنا... قد ننسى هذه الأمور في خضم صخب الحياة، إلا أن شبح كورونا استطاع أن يقلب حياتنا رأساً على عقب، بحيث أنه أوقف عجلة الحياة، أجبرنا على البقاء في المنزل وجعلنا نفكر بأدق التفاصيل الموجودة في حياتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين