شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
اللمس... أو الحاسة المنضبطة في ظل جائحة كورنا

اللمس... أو الحاسة المنضبطة في ظل جائحة كورنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 6 يونيو 202005:29 م

خلال الشهور الأخيرة، ومع تصاعد وتيرة الإصابات بفيروس كورنا، كثرت نتائج الأبحاث العلمية القائلة بأن سرعة ومدى انتشار الفيروس مرتبطتان بقدرته على السفر في الهواء والسكن في جميع أنواع الأسطح، وتبعاً لهذا، تم سن قوانين التباعد الاجتماعي من قبل الحكومات، فالصحة أمست مهددة عبر حاستين يمكن وصفهما بأنهم بوابة عبور للفيروس من خارج الجسد الى داخله، هما الشم واللمس، الأولى بوصف الفيروس قابلاً للطيران عبر الهواء، والثانية بوصفه خطيراً لاستقراره الطويل نسبياً على أسطح المواد.

وهكذا أمسينا نتعامل مع اقتصاد حواس، نحاول تقنين حاسة مثل اللمس والشم تفادياً للإصابة، لكن هذا الاقتصاد يعمل على تعويض حاسة بأخرى عندما يعوض التواصل الاجتماعي المباشر بالتواصل الافتراضي، هذا الحل البديل في ظل الحظر الصحي، مثل الاعتماد الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي، يفقد اللمس وظيفته الاجتماعية والمعرفية، مقابل توظيفها على شاشات هواتفنا وكيبورد أجهزة الكمبيوتر، لكن هذا التطور للحواس بسبب ظرف الجائحة يعيد إنتاج العالم من حولنا، معرفتنا له، كيفية عمله، واستقبالنا لمحيطنا من أفراد وموضوعات.

أمسينا نتعامل مع اقتصاد حواس في ظل كوفيد19، نحاول تقنين حاسة مثل اللمس والشم تفادياً للإصابة، لكن هذا الاقتصاد يعمل على تعويض حاسة بأخرى عندما يعوض التواصل الاجتماعي المباشر بالتواصل الافتراضي

اللمس والمعرفة في الجدل الفلسفي بين ديكارت وهدرد

كان للفلسفة حديثها المطول في دور الحواس في التقصي والوصول للحقيقة، فقام عصر التنوير بإعلاء شأن حاسة النظر على حساب الحواس الأخرى، هي الحاسة التي لطالما خدمت العقلانية ومرجعية العقل. البصر بكونه منفذاً للعقل للخروج من الذاتية، للنظر للخارج ورصد الحقيقة الموضوعية، هو الحاسة التي تتيح للعقل التنور وتنير العالم من حوله، لتأتي بعده حاسة السمع، كونها تعزز ما يمكن أن تنقله العين من معلومات وتفاعل مع المحيط.

نحن اليوم بصدد غياب اللمس وتبديل عالمنا المادي بعالم افتراضي، لا هو مفتوح لحركة حرة ولا للاستكشاف عبر حاسة اللمس المعرفية الحسية، في حال نتواصل مع الآخرين أو نحاول التعرف على موضوعات العالم الافتراضي، معرضين أنفسنا لاغتراب في فضاء سايبري، يعيد تشكيل استقبال معرفتنا بالمحيط، معتمدين على التحديق والتتبع بالعين، ومقصين اللمس من الاستكشاف، والجسد من الوعي بنفسه

لم يكن ذلك دقيقاً بشكل كاف لديكارت في تأملاته للمادة، فعبر اختباره الحسي لكرة الشمع لم يكتف بالنظر اليها ورصدها عبر العين، بل لمسها وحركها واستنتج تحليله العقلي بعد لمسها، لا رصدها فقط، أي استخدم حاسة اللمس بشكل رئيسي لتحليل تفاعل المادة الفيزيائي واستنتاج محدودية الحواس الخمس. يقول هدرد في كتابه النحت، إن النظر يكشف عن الشكل فقط، بينما اللمس يكشف عن الجسم المشكل للموضوع، أي أن المعرفة عن المحيط تكتشف عبر اللمس، بينما يسمح لنا النظر بان نكتشف الأسطح المعرضة للضوء، بدوره، غيّر هدرد تعبير ديكارت الشهير: "انا أفكر، إذن أنا موجود"، ليقول: "أنا ألمس، إذن أنا موجود".

هنا دلالات فلسفية معرفية عن أهمية اللمس بتشكيل مدارك الإنسان لمحيطه. هي حاسة غير قابلة للتهديد والتقنين، كما أنها حاسة غير مؤهلة للتعويض بحواس أخرى في ظل الاعتماد عليها من قبل ديكارت أو هدرد.

عن اللمس من أجل معرفة اجتماعية

هذه الحاسة من أهم عناصر التفاعل الاجتماعي، إذ يعبر اللمس عن قبول الآخر أو رفضه بحال تجنب العناق أو المصافحة معه، هما أيضاً، العناق والمصافحة، تعبير عن الصلح بعد الزعل أو النزاع، فعندما نصافح أو نعانق عند الصفح، نكون بصدد إعلان لحظة جديدة مع الآخر، لحظة تحول من العداوة الى الصداقة. غياب هذه اللحظة يعني عدم صفاء القلب، وعدم حضور الرحمة والمودة للطرف الآخر، غياب اللمس عند الصلح يعني احتمالية لاستمرار الحرب أو البغض.

إذاً، يمكن تعريف الجلد على أنه اتصال حسي بين الأفراد، لا فقط بين الإنسان والمادة، محرك اجتماعي للتعاون والالتقاء، هو كذلك تصريح للعبور من الخلاف للاتفاق بين قوى متنازعة سياسياً، الى جانب ما ذكر من كونها حاسة تحقيق أبستمولوجي للعالم، رضى للفضول المعرفي الاستكشافي للمواد من حولنا، هي دلالة وجدانية لمعرفة نهاية النزاع والدخول في صلح.

في تقنين اللمس نحن نبتعد عن قدرة إنسانية مهمة، قدرة خروج الإنسان من نفسه والإحساس بالآخرين، أي التعاطف، وفي الصيغة السياسية تسمى التضامن

في تقنين اللمس نحن نبتعد عن قدرة إنسانية مهمة، قدرة خروج الإنسان من نفسه والإحساس بالآخرين، أي التعاطف، وفي الصيغة السياسية تسمى التضامن.

لا يتوقف فعل اللمس عند حدود التعريف الحسي العصبي، لكن هو سياسي في شرط التهميش في المجتمعات العنصرية، أولاً لأنه قادر على حمل تعابير تفوق عرقي عند إقصاء الآخر من دائرة المصافحة والعناق، لأنه "آخر"، للتذكير والتأكيد على الاختلاف المزعوم، ثانياً بوصفه فعلاً تضامنياً، نوعاً من نفي الإقصاء ودلالة على غياب الاختلاف العرقي. عطفاً على كون اللمس أداة إدراك معرفي، هي في هذا السياق أيضاً إدراك معرفي عاطفي اجتماعي، يمنح الشخص القدرة على فهم مكانته الاجتماعية في المكان، إقصائه وقبوله، علماً أن الهويات العنصرية والتفوق الطاردة "للدخيل" غالباً ما تكون هويات متخيلة، مثل القومية والعرق، ليست بمادية أو حسية.

حاسة كرنفالية سياسية، تعبر عن التوحد في جسم واحد خلال تواجد الحشود في الشارع متلاصقين، يشعرون ويدركون نهاية أجسامهم وبداية أجسام الآخرين، ككتلة واحدة معرضة لذات التهديد والعنف

تقول أبحاث علم الأعصاب إن لاعبي فرق كرة السلة يزدادون نشاطاً عند الاحتفال باللمس والعناق، لتزداد القدرة على أحراز تقدم للفوز، هي حاسة تعبر عن التضامن من أجل المضي قدماً، وعلى هذا الغرار يكمن في اللمس نوع من التضامن السياسي والاجتماعي، يمكن رصد هذا في المظاهرات والاحتجاجات، حيث يكون اللمس شكلاً من أشكال الصمود والتحفيز، وقوداً حيوياً للمقاومة وتذكير المحتجين لبعضهم بقوتهم، هي حاسة كرنفالية سياسية، تعبر عن التوحد في جسم واحد خلال تواجد الحشود في الشارع متلاصقين، يشعرون ويدركون نهاية أجسامهم وبداية أجسام الآخرين، ككتلة واحدة معرضة لذات التهديد والعنف.

النظر محكوماً بالشاشة

حتى قبل هجوم الجائحة على العالم، تدل إحدى الدراسات على انخفاض التواصل باللمس، ويعود ذلك الى التطور التكنولوجي للعالم الافتراضي، الذي أخذ يحتل مكان ومكانة التواصل الحي بين الأفراد. تعيد هذه التكنولوجيا من إعلاء حاسة النظر، فخلال تفاعلنا مع شاشات الكمبيوتر والموبايل تعمل العين كنافذة نطل منها على الآخرين المراد التواصل معهم، منارة لاستطلاع الشخص على العالم الافتراضي، والشاشة بدورها يمكن اعتبارها مركز التمعن والتحديق، وينحصر اللمس في الشاشة على الكتابة، هذا اللمس مجرد من خاصية التواصل الحسي، هو في وظيفته هذه يعمل كأدوات مكرسة لترجمة الكلام من الدماغ للنص، لا لدعمه وتأكيده عبر لمس جلد الآخر بمصافحة أو عناق.

هذا التوظيف لحاسة البصر يحد اللمس من رحلة المعرفة، كما أنه يحد الجسد من وعيه بنفسه، اللمس هنا فارغ من عنصري الألم والمتعة، وفي تفرد العين بالاستكشاف والاستطلاع عبر الشاشة، نبقى مقيدين بفضاء يمكن التعبير عنه بكونه دائرة استهلاكية محكومة بخوارزميات التسويق ومعاينة السلع.

إذن، لا يقتصر النقاش فقط على محدودية الحواس على غرار جدل هدرد وديكارت، إنما على تضييق فضاء الاستكشاف المحسوس، واحتكار ظهور واختفاء مواده وأفراده الذين نحدق بهم.

نحن هنا بصدد غياب اللمس وتبديل عالمنا المادي بعالم افتراضي، لا هو مفتوح لحركة حرة ولا للاستكشاف عبر حاسة اللمس المعرفية الحسية، في حال نتواصل مع الآخرين أو نحاول التعرف على موضوعات العالم الافتراضي، نحن نبتعد عن الأسطح الحاملة للفيروس، لكن نتعرض لأسطح أجهزتنا، معرضين أنفسنا لاغتراب في فضاء سايبري، يعيد تشكيل استقبال معرفتنا بالمحيط، معتمدين على التحديق والتتبع بالعين، ومقصين اللمس من الاستكشاف، والجسد من الوعي بنفسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image