يشير الأطباء حالياً إلى أن واحداً من أعراض الإصابة بفيروس كورونا هو فقدان حاسة الذوق، ليتشابه في فم المريض كل ما يدخله، غياب الذوق هنا، بالمعنى المادّي، يعني الحرمان من "معارف" بأكملها، وتحول فعل الأكل إلى فعل "غذائي" صرف، لا متعة فيه، مجرد جواب على نداء الجوع، ما ينفي عنه صفة "الفنّ" التي يخاطب عبرها اللذّة العضوية التي تخلقها النكهات.
نتحرّى عن "الذوق" لازدياد احتمالات غيابه، ونتحرك بين معناه المادي وذاك الجمالي الذي يقترح الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبين، في نصه الذي يحمل اسم "ذوق" المقاربة التالية: "الذوق أشبه بمعرفة لا تُعرف، لكن يُتمتع بها، لذة نعرف من خلالها ما لا يوصف"، وكأن التذوق يكسبنا علماً ما، عصيّاً على "النقل"، معرفة داخلية لا تنقل للخارج إلا عبر ما يشابهها، معارف تسمّي الشكل لا الجوهر، لكننا نتمتع و"نعلم" أنها موجودة ولا تظهر إلا "داخلنا"، وهذا ما يحيلنا إلى الحكاية الأشهر في التاريخ، وهي "تذوّق" آدم لتفاحة الجنة، إذ يقال إنه أخذ منها قضمه واحدة فـ"عرف"، لكن ما الذي عرفه وكان مصدره لسانه؟ اللغة؟ ألم يقم الله بتعليم آدم الأسماء كلها؟
"تذوّق" آدم تفاحة الجنة... إذ يقال إنه أخذ منها قضمه واحدة فـ"عرف"، لكن ما الذي عرفه وكان مصدره لسانه؟
أكسب التذوق آدم تعدد اللغات ربما أو وحدتها، ويشير عبد الفتاح كيليطو في كتابه "لسان آدم"، أن آدم تحدث كل الألسنة لأن الله علّمه إياها، ولم تكن "اللغة الأم" أساسية، وهنا يشير إلى أسطورة عن هذه اللغة التي تنتقل مع حليب الأم، وكأن التذوق باللسان يعني المعرفة والقدرة على تسمية المحيط، وتعلم ما يختزنه تاريخ كل ما يتم تذوقه، لكن ما هو "الطعم" الذي "عرف" إثره آدم المعرفة، خصوصاً أن النتيجة النهائية لتذوق الثمرة، التي لا نعرف أي شيء عنها، كانت حسب القرآن هي الغواية، "عصى آدم ربه فغوى-طه 121"، المعنى البسيط هنا هو أنه "ضلّ" و"ضاع" عن ناصية الحق، لكن ما هي المعرفة التي اكتسبها والتي تودي إلى الضلال، ما الذي تفاعل كيميائياً في فمه، تذوقه فضاع عقله، وكأن ما تذوقه حسب الرواية القرآنية "ضد المعرفة" وضد "اليقين"، ضد ما هو واضح ومقعّد وفيه بيان، وهذا ما سنشير له لاحقاً.
إن التذوق مفتاح المعارف... اللسان ورطوبته حاملان له
إن كان التذوق مفتاح المعارف، فاللسان ورطوبته حاملان لها، وهنا يظهر ارتباط التذوق باللغة، كوصف الكلام بالمعسول، والرقيق الذي يغشى العشاق حين سماعه أحياناً، أو يسكرون إثر ترديده، في ذات الوقت، تلاحق هذا اللسان تُهم "اللحن" التي لابد من تصحيحها كي لا يفسد "الذوق"، الذي يشترك به المتحدث والسامع، ونقرأ في مقدمة "كتاب لحن العوام" لمحمد بن حسن الزبيدي، وفي بداية الدعاء الذي يستهل الكتاب، أن الله وهب الإنسان "لساناً يعرب عن ضميره، وحواساً يشتمل على العالم إدراكها"، وقبل ذلك سبقه حمد الله على حسن التقويم والتفهيم، وكأن اللسان أي اللغة، تختلف عن الحواس، و هذا منطقي من وجهة نظر معنى كلمة لسان الاصطلاحي، لكن في ذات الوقت، هناك غزل من نوع ما يتعلق بلفظها وكيفية "الاستماع "لها، إذ يتابع قوله إن اللغة العربية "أوسعها افتتاناً، وأعذبها مخارج".
إن كان التذوق مفتاح المعارف، فاللسان ورطوبته حاملان لها، وهنا يظهر ارتباط التذوق باللغة، كوصف الكلام بالمعسول، والرقيق الذي يغشى العشاق حين سماعه أحياناً، أو يسكرون إثر ترديده
هناك ألفاظ تتعلق بمعارف اللسان تنتمي للمكونات المادية للعالم، كالعذوبة المرتبطة بالبصر والذوق والفتنة المرتبطة بالبصر، هي صفات لا تحيل إلى اللغة نفسها، بل شكل تمثيلها بالمقارنة في العالم، لكن ما هي اللغة العذبة، ما طعمها إن كان لها طعم، وكأن هناك لذّة تصدر عن اللسان الصحيح، "نتذوق" إثرها شيئاً عصياً على الشرح، وهذا ما نفهمه حين نقرأ في ألف ليلة وليلة عن الحبيب الذي "يغشى" بعد تقبيل عشيقته وتذوق رضابها ولُماها، وكأنه افتتن وغوى حد فقدان العقل، لا لحظة التذوق، بل بعدها، وكأننا عبر التذوق نعرف شيئاً آنياً، ثم يتلاشى حد تهديد إدراكنا عبر الزمن.
التذوق ضد الترميز
يحصر علم الجمال مفهوم التذوق بالعمل الفني، ذاك الذي يخاطب حاستي البصر والسمع بشكل عام، أي بمعنى آخر، كل ما هو موجود "خارجاً" ويمكن مقارنته بالصور في "المخيلة"، فالتذوق الجمالي عملية معرفية لا يتطابق فيها موضوع الجمال مع مخيلة الذواقة، بل يتحاوران، في حين أن الذوق المرتبط بالنكهة منفي ولا ينتمي إلى "الفنون الجميلة"، فالنكهة ضد المخيلة، خصوصاً أننا نفكك ما نتذوقه، أي نُفقده وحدته الخارجية ويتلاشى شكله ليصبح "داخلنا"، أي في لحظة من اللحظات يتطابق موضوع الذوق مع الذواقة، خصوصاً أن موضوع الذوق يختفي ولا يستمر في الزمن، لأننا لا ننقل النكهة بل نصفها.
هذا التلاشي نابع من آنية التذوق، نحن نلعق، نأكل، نلحس ثم نصف، نتأوه، نتحدث أو نصمت، وكل ما نحيط به النكهات من "صور" أو ترتيب شكلي أو مرجعيات لا ينتمي للنكهة ذاتها بل إلى موجودات خارجية، وكأن المائدة لتذوق الطعام والسرير لتذوق الحبيب، ليسا إلا مقدمات لفعل يمكن وصفه بـ"الطبيعي"، ألا وهو اصطياد النكهة، والتماهي معها في لحظات "تذوقها" كونها مهددة دوماً بالتلاشي، هي تفاعل كيميائي آني على عضو التذوق، لا يمكن له الاستمرار في الزمن، وهذا ما نلاحظه في أسماء الطعمات والنكهات، مالح، مرّ، حامض.. كلها لا تصف جوهر التفاعلات الكيميائيّة لهذه النكهات، بل تحيل إلى مخيّلة "صورية" أو "لغوية"، كما أن التسميات لا تحيل إلى خصائص غذائية، إذ نقرأ في "القانون" لابن سينا: "وليس يجب أن يكون ما هو أحلى أغذى، ولا ما هو ألذ أغذى"، بل ويشير إلى أن الطعم والاستطعام يظهران من القدرة على تفكيك "وحدة" ما يتمّ تذوقه، واختلاف "كثافته" في اللسان، فالتذوق يفكك موضوعه وينفيه، وما نعرفه لاحقاً إثر ذلك، عصيّ على الوصف.
في البدء كان "البلل"
لا تظهر النكهة إلا في لحظتها، وتتحول لاحقاً إلى "خطاب" مضبوط لا "ضلال" فيه، فطعم الحبيب إن تمّ من فاهه أو هننه أو باهه، واختلط إثر ذلك الماءان، ذهب العقل، وإن عاد لا يذكر إلا ما يألفه مما هو مضبوط، ليحاول الإحاطة بالطعم الذي فُقد بمجرد تذوقه، أو السعي لطلب المزيد
يحرّك الطعمُ الرطوبة، بلل في عضو التذوق "اللسان" أو فيما يتم تذوقه يشعلان "النكهة"، المثير للاهتمام أن عملية التذوق المادية، لا تخلق صورة عقلية عن النكهة الصرفة (سوى المعادل الكيميائي)، بعكس تلك الصورية، أي لا يعاد تكوين عناصر النكهة التي يتم تذوقها داخل المخيلة في سبيل التطابق معها أو الاختلاف عنها، إلا بمشاركة بلل اللسان مع بلل موضوع التذوق، وكأن النكهة مشبوهة دوماً، لا تظهر إلا حين فنائها أثناء إدراكها، فـ"المعرفة" الذوقية تخاطب اللذة الآنية، تلك التي إيقاعها لا يسمح بإعادة تكوين صور العالم، بل بالانهماك فقط بفعل التذوق ذاته، أي لا تتولد الذات من جديد بعد التذوق، بل يتم التماهي مع لحظة التذوق، والاتحاد مع مكونات الموضوع في سبيل لذة سريعة، إدمانية، تسعى نحو استمرار بلل الذوق واختلاط السوائل قبل "التلاشي"، وهذا ما نتلمسه حين نقرأ الكلمات التي تصف فعل التذوق وارتباطها بالزمن واستمراره، كاللعوقة (سرعة الإنسان فيما أَخذ فيه)، المزمزة (إيقاع الحركة، التحريك الشديد)، الرشف (جعل اللقمة في الفم وشفها لسماع الصوت)، وهناك اللحس والبلع والعبّ والغبّ، كلها تحيل إلى زمن ما وإيقاع يحكم العلاقة بين عضو الذوق وموضوع الذوق، مع يقين من عدم استمراره في الزمن.
هناك طعمات ونكهات "حرّة من الضرورة" حسب تعير الفيلسوف الفرنسي أوليفيه أسولي، تستفز اللسان وتطلب الرطوبة دون "جدوى غذائية، وتولّد نشوة جسديّة تستفز إيقاع العقل، كلذة نكهة التدخين التي حسب أوليفيه "توصل صدمة للدماغ تفيد في تقليل توتره أثناء التفكير، وتثير التفكير نفسه بالتحرك عكس تيار الدماغ"، نحن أمام نكهة غير نفعية، بل مضرة، تستدعي بلل التذوق، لذة إدمانية تتكرر ولا يمكن استعادتها كوننا لا "نتذوق" ذات الشيء مرتين، في تحوير لمقولة هيراقليطس التي -للمصادفة- مرتبطة بالبلل، "لا يخطو رجل في نفس النهر مرتين أبداً".
ذات الأمر مع الحبيب ومائه ولحمه، حيث اللعق واللحس والمجّ والمذّ، فلذّة تذوق الحبيب تستعدي الرطوبة وإجابة البلل ببلل، مع ذلك، نكهة الحبيب أو طعمه ترتبط دوماً بما هو "مقعّد"، أي لا بد من إحالة الطعم إلى ما هو مكتوب أو مرئي، أي ما هو "ضد النكهة" التي لابدّ أن تصاغ ضمن وسيط ذي أسس واضحة ومدروسة و قابلة للتناقل، كقول العُماني: "لها هَنٌ مُسْتَهْدَفُ الأَرْكانِ، أَقْمَرُ تَطْلِيهِ بِزَعْفَرانِ، كأَنَّ فيه فِلَقَ الرُّمَّانِ"، هناك دوماً إحالات إلى البصري، وربط الطعم بمتخيل ما تتخاطب فيه الأشكال، إذ لا تظهر النكهة إلا في لحظتها، وتتحول لاحقاً إلى "خطاب" مضبوط لا "ضلال" فيه، فطعم الحبيب إن تمّ من فاهه أو هننه أو باهه، واختلط إثر ذلك الماءان، ذهب العقل، وإن عاد لا يذكر إلا ما يألفه مما هو مضبوط، ليحاول الإحاطة بالطعم الذي فُقد بمجرد تذوقه، أو السعي لطلب المزيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون