لأكثر من 13 قرناً، لم يكن لدى المسلمين أية حساسية تجاه هيكل سليمان، وكان المؤرخون والإخباريون المسلمون يذكرونه بلا غضاضة، بوصفه حقيقة تاريخية لا يرقى إليها الشك.
هكذا فعل ابن قتيبة في "المعارف" والطبري في "تاريخ الرسل والملوك" وابن كثير في "البداية والنهاية" والمسعودي في "أخبار الزمان" وأبو الفداء في "المختصر في أخبار البشر" والعليمي في "الأنس الجليل" وابن خلدون وزين الدين بن الوردي والمطهر بن طاهر المقدسي في تواريخهم، وغيرهم كثيرون.
وربما لا يعرف كُثُر من أبناء هذا العصر أن المؤرخين المسلمين كانوا يقولون إن "المسجد الأقصى" كان هو نفسه الهيكل التاريخي، وكانوا يعتقدون أن المساجد التي بناها عمر بن الخطاب، ثم عبد الملك بن مروان في القدس القديمة إنما كانت في موضع الهيكل، دون أن يشعروا بحرج في ذلك.
ولكن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ألقى بظلاله السياسية على التاريخ، فنشأت حديثاً دعاوى إنكار وجود الهيكل، كنوع من الانتقام التاريخي من اليهود.
وموضوعات هذا المقال جزء من بحث لم يرَ النور منذ أكثر من عشر سنوات، خلاصته أن المسجد الأقصى كان الاسم القرآني للهيكل اليهودي في إسرائيل القديمة، والذي لم يكن سوى خرائب وأطلال عندما قال النبي محمد إنه أسري به إليه. وقبة الصخرة التي كان يُطلق عليها أحياناً اسم "بيت المقدس" بناها عبد الملك بن مروان لتكون بديلاً للكعبة لأهداف سياسية، كما استغل اسم المسجد الأقصى الوارد في القرآن ليؤسس مسجداً بالاسم نفسه، ما تسبب في التباس تاريخي ما زالت أصداؤه باقية حتى اليوم.
حادثة الإسراء
بعد 500 عام من خراب الهيكل اليهودي، ظهر النبي العربي محمد في الجزيرة العربية، وعدّ نفسه امتداداً لأنبياء بني إسرائيل، واعترف بالتوراه، والتلمود ونصوص المدراش، كما التزم جزئياً بطعام الكوشِر (الحلال) في اليهودية [المائدة: 3] وأقرّ بالوعد الإلهي لبني إسرائيل بسكنى "الأرض المقدسة" [المائدة: 21] التي آمن أنها أرض المحشر كما يقول التلمود [الحشر: 2] وتوجه في صلاته تجاه قبلة اليهود في موضع هيكلهم.
وبعد إعلان نبوته في مكة، حكى النبي محمد عن معجزة سفره ليلاً من المسجد الحرام (الكعبة) إلى المسجد الأقصى أي الأبعد، وفقاً لتسمية القرآن [الإسراء: 1] أو بيت المقدس، الموجود في الشام، وفقاً للأحاديث النبوية والروايات التراثية.
وكانت فلسطين (الاسم الروماني لإقليم اليهودية) إبان ظهور الدعوة الإسلامية تحت السيطرة البيزنطية، وكان أغلب سكانها من اليهود والروم والسريان وبعض الغساسنة العرب المسيحيين، ولم يكن العرب المسلمون قد دخلوها بعد، إذ جرى ذلك لاحقاً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 641م.
وبطبيعة الحال، ليس من المعقول أن نتوقع وجود مساجد في فلسطين بالمعنى المعماري الإسلامي حتى ذلك الحين. فما هو إذاً هذا المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء؟
كان من عادة النبي محمد أن يطلق أسماءً جديدة على بعض الأماكن والأشخاص والمفاهيم، وكان للقرآن معجم مصطلحات خاص في تسمية الأشياء، ومن أمثله ذلك: إطلاق اسم طيبة على يثرب (المدينة المنورة)، وأبي جهل على أبي الحكم عمرو بن هشام، ومصطلح الجاهلية على فترة ما قبل الإسلام وهلم جراً.
ويسري الأمر نفسه على دور العبادة، حيث نجد في المعجم القرآني كعبة الوثنيين العرب تُذكر باسم "المسجد الحرام"، والأمر نفسه يسري على كنائس اليهود والمسيحيين التي كانت تسمى في القرآن مساجد فضلاً عن الصوامع والبيَع والصلوات [الحج: 40]. وفي قصة أصحاب الكهف، وهم من الروم المسيحيين، نجد إشارة للكنيسة باسم مسجد [الكهف: 21].
وثمة أحاديث يشير فيها النبي محمد صراحةً إلى الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية باسم مساجد منها الحديث الذي روته عائشة: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [البخاري: 1390]، وآخر رواه زيد بن ثابت عن النبي: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [مسند أحمد: 21604].
الهيكل القرآني
والهيكل اليهودي، الذي تقره طائفة من الأدلة التاريخية والأثرية لا يتسع المقام لتناولها، لم يعدم اسماً إسلامياً هو أيضاً. سواء الهيكل الأول (957 ق.م – 586 ق.م) الذي بناه الملك التوراتي شلومو (سليمان) وخرّبه الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني، أو الهيكل الثاني (515 ق.م – 70م) الذي بناه الحاكم الأخميني زرُبّابل وجدده الملك هيرودس وهدمه القائد الروماني تيتوس.
يظهر الهيكل في القرآن مرة باسم "محراب" في أربعة مواضع وهي: [آل عمران: 37] و[آل عمران:39] و[مريم:11] و[ص:21] ومرة أخرى باسم مسجد في موضعين [الإسراء: 1، 7] وبالتالي فإن المسجد الأقصى المذكور في حادثة الإسراء هو نفسه الهيكل اليهودي، الذي كان قبلة النبي محمد في ذلك الحين بحسب بعض الروايات [السيرة الحلبية: 2/ 182].
وثمة دليل من سورة بني إسرائيل (الإسراء) نفسها على أن المسجد الأقصى المذكور في صدرها هو نفسه الهيكل، إذ توجد إشارة إلى خرابه مرتين بسبب ذنوب بني إسرائيل بحسب الكتاب المقدس [الإسراء: 4-5] كما نجده مذكوراً مرة أخرى باسم مسجد في الآية: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ" [الإسراء: 7].
وتأتي هذه الآية في سياق الحديث عن قصة خراب الهيكل الأول على يد نبوخذ نصر الثاني (634 – 562 ق.م) ثم خراب الهيكل الثاني على يد القائد الروماني تيتوس (39 – 81م)، كما يشير المفسرون والمؤرخون المسلمون. [تفسير الطبري، 17/ 373، تفسير الثعلبي: 6/ 70، تفسير البيضاوي: 3/ 248، تفسير ابن عطية: 3/ 439، الدر المنثور: 5/ 174].
ويبدو أن الاصطلاح على تسمية الهيكل باسم مسجد لم يكن مقصوراً على القرآن، فقد كان المؤرخ العربي اليهودي وهب بن منبه (655 - 738م) يذكر بيت المقدس أو الهيكل باسم مسجد عند حديثه عنه، وهو ما يذكره الطبري في تفسيره حيث يقول في سياق قصة بناء الهيكل "فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجداً، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس" [تفسير الطبري، 1/ 485].
أسماء الهيكل
وبخلاف الاسم الإسلامي للهيكل في القرآن وهو "المسجد" أو "المحراب"، نجده في الأحاديث والمرويات المنسوبة للنبي مذكوراً باسمه العبري بعد تعريبه وهو "بيت المقدس" إذ يسمى معبد سليمان في التوراه العبرية "هيكل" و"بيت همقداش" أي البيت المقدس. كما يُطلق اسم بيت المقدس على اسم البلدة القديمة لأورشليم بحسب قاموس سجيف، وقد جرى اختصار اسم بيت المقدس لاحقاً فأصبح القدس.
ومثلما استخدمت المصادر الإسلامية المصطلح العبري "بيت المقدس" للدلالة على الهيكل، استخدمت كذلك مصطلح "هيكل" بلفظه ومعناه في العبرية أي المعبد الضخم، وأطلقه العرب في البداية على الكنائس العظيمة أو ما يسمى اليوم بالكاتدرائيات.
وربما كان المؤرخ المسعودي (896 -957 م) أول مَن استخدم لفظة الهيكل للدلالة على معبد سليمان تحديداً في كتابه "أخبار الزمان"، حيث قال: "وكان في أعلى قبة الهيكل صورة رجل راكب على فرس له جناحان... وبقي هذا الهيكل إلى زمان بخت نصر وهو الذي هدمه". كما ذكره في كتاب "التنبيه والإشراف" عند حديثه عن القديس يعقوب البار أخي السيد يشوع الناصري (المسيح) [التنبيه والإشراف: 1/ 110]. وقد تواضع الكتاب العرب حديثاً على قصر كلمة "هيكل" على المعبد اليهودي في إسرائيل القديمة.
كانت فلسطين إبان ظهور الدعوة الإسلامية تحت السيطرة البيزنطية، ولم يكن العرب المسلمون قد دخلوها بعد، ما يعني أنه من غير المعقول أن نتوقع وجود مساجد فيها بالمعنى المعماري الإسلامي. فما هو إذاً هذا المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء؟
ويُذكر الهيكل في الروايات التاريخية العربية بأسماء أخرى مثل "مسجد داود"؛ فحسب التوراه كان الملك التوراتي دافيد (داود) مَن سيبني بيت همقداش (بيت المقدس) لكن الرب منح هذا الشرف لابنه شلومو (سليمان) [سفر الملوك الأول 5:5].
كما عزا بعض المؤرخين العرب تاريخ بناء الهيكل ليعقوب، معتبرين أن الهيكل هو نفسه "بيت إيل" (بيت الرب) [التكوين: 10-22]، بسبب الحديث المنسوب للنبي محمد والذي يقول فيه إن الفترة بين بناء المسجد الحرام وبيت المقدس 40 سنة فقط [البخاري: 3366]، فأراد هؤلاء تقديم زمن بناء الهيكل حتى لا يتعارض الحديث النبوي مع التاريخ، لكن من المعروف الآن في الدراسات السامية أن الساميين يضربون رقم 40 للدلالة على الكثرة، ولا يقصدون منه هذا الرقم على وجه التعيين.
الهيكل الأقصى
كان صحابة النبي محمد والتابعون والأئمة المسلمون والمؤرخون على مدى قرون يعلمون تمام العلم أن المسجد المذكور في سورة الإسراء (أو سورة بني إسرائيل، مما له دلالته) هو نفسه هيكل اليهود أو بيت المقدس، ويقول ابن هشام في "السيرة النبوية" في سياق حادثة الإسراء "ثم أسري برسول الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء".
وهناك حديث طويل رواه حذيفة بن اليمان وأخرجه الطبري في تفسيره، والسيوطي في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" يذكر فيه النبي محمد بالتفصيل بناء بيت المقدس الأول وخرابه وبناء بيت المقدس الثاني وخرابه كما جاء في الكتاب المقدس، مع بعض التغييرات. وتؤكد هذه الرواية، بفرض صحتها، اعتراف النبي محمد بأن الأقصى هو نفسه الهيكل. [تفسير الطبري: 17/ 357، الدر المنثور: 5/ 174].
وذكر المؤرخ شهاب الدين بن تميم المقدسي (ت. 1363م) في "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" ما نصه: "وكان من بناء داود المسجد الأقصى إلى وقت تخريب بختنصر [نبوخذ نصر] إياه وانقطاع دولة بني إسرائيل أربعمائة سنة وأربع وخمسون سنة".
والمؤرخ ابن كثير (1301 – 1373م) يذكر صراحةً أن المسجد الأقصى هو الهيكل إذ يقول في "البداية والنهاية": "وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرّفه الله" [البداية والنهاية: 1/187] ثم يقول في موضع آخر: "ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوماً... ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس، فبناه بناءً محكماً" [البداية والنهاية: 2/ 341] ولابن كثير باب كامل بعنوان "ذكر خراب بيت المقدس" في الكتاب المذكور.
وروى المؤرخ مجير الدين العليمي (1456 – 1522م) في "الأنس الجليل" عن المفسر مقاتل بن سليمان (702 – 767م) أن "الأنبياء (ص) عليهم أجمعين، يقربون القرابين ببيت المقدس". ومن المعروف أن اليهود كانوا يقدمون القرابين في الهيكل [آل عمران: 183]. كما نقل العليمي عن المحدث أبي عمرو الشيباني (713 – 821م) قوله: "وقد أجمعت الطوائف كلها على تعظيم بيت المقدس ما عدا السامرة فإنهم يقولون: إن القدس جبل نابلس وخالفوا جميع الأمم في ذلك". ومعروف أن السامرة الفرقة اليهودية الوحيدة التي لا تقدس الهيكل ولا تستقبله في الصلاة.
بيت المقدس
لم يصدق أهل مكة حادثة إسراء النبي محمد، بسبب استحالة قطع المسافة من مكة إلى إيلياء (الاسم الروماني للقدس كما يظهر في المصادر العربية المبكرة) في ليلة واحدة في ذلك الحين، وطالبوا النبي محمد بوصف "بيت المقدس" بحسب السيرة الحلبية، أو الذي طلب منه ذلك صديقه أبو بكر بحسب سيرة ابن هشام، لكننا لا نجد هذا الوصف قط، رغم عناية السيرة النبوية بذكر أدق التفاصيل.
ولعل سبب هذا الصمت أن النبي لم يذكر أي صفات لبيت المقدس، والدليل على ذلك أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما ذهب إلى القدس، بعد نحو عشرين عاماً، وبحث عن "مسجد داود" (الهيكل) سيذكر الوليد بن مسلم رواية على لسانه يقول فيها عمر إن النبي أخبره بصفة المسجد دون أن يذكر أيضاً هذه الصفة، مما اضطره للاستعانة بكعب الأحبار اليهودي لتحديد موقع المسجد الذي كان مجرد مزابل، لأن الرومان هدموه قبل نحو 500 عام.
عندما كان عبد الله بن الزبير يسيطر على الكعبة، راح يستغل ورود الحجاج والمعتمرين ليحرضهم ضد آل مروان وبني أمية في مكة، وكاد يستقطب إليه أهل الشام، فخشي عبد الملك بن مروان أن يبايعوه، فمنعهم من الحج والعمرة وأسس لهم مسجداً إسلامياً فخماً سمّاه "الأقصى"
يذكر ابن هشام في سيرته أن كثيراً من المسلمين ارتدّوا عن الإسلام بسبب حادثة الإسراء، لكنه يعزو هذه الردة إلى عدم تصديقهم خبر الإسراء، بيد أن المسلمين الذين آمنوا بأعاجيب الأنبياء في القرآن، لن يكفروا بالنبي محمد لعدم اقتناعهم بمعجزة مثل تلك. وربما كان السبب الحقيقي لارتداد هؤلاء الصحابة عجز النبي محمد عن وصف بيت المقدس، الذي لم يكن موجوداً أساساً حينذاك! وهي ليست سابقة من نوعها، فهو لم يجب على سؤال كينونة الروح [الإسراء: 85] كما لم يوفق في تحديد عدد أصحاب الكهف بدقة [الكهف: 22].
وربما كان ارتداد المسلمين سبباً في تدارك قصة الإسراء لاحقاً، وتحوّلها من معجزة استلزمت بدء الآية بتسبيح قدرة الله، إلى مجرد تجربة صوفية من طراز تجارب يهود مذهب القبالاه (التصوف اليهودي) في الصعود للسماء ورؤية عرش الرب، والتي استمرت من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الحادي العشر الميلادي، إذ تبيّن أن النبي محمد لم يذهب للشام بجسمه بل في المنام، فتحول الإسراء من رؤية بصرية حقيقية إلى "رؤيا" منامية لا أكثر، "وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ" [الإسراء: 60].
جبل الهيكل
من الثابت تاريخياً أن الهيكل اليهودي الثاني هدمه الرومان سنة 70م، فكيف إذاً أسرى النبي محمد إليه وقد هدمه الرومان قبل ميلاده بـ500 عام؟ وهل وقع في ظنه أن الهيكل قائم في عصره؟ لا يُرجح هذا، فقد كان النبي محمد تاجراً له رحلات إلى الشام قبل نبوته، وكان له اختلاط بأهل الكتاب كما تؤكد المصادر العربية وغير العربية.
وفي الوقت نفسه إذا صحت رواية السيرة الحلبية التي تشير إلى تحدي أهل مكة له بأن يذكر لهم صفة بيت المقدس، فقد يُفهم من هذا التحدي أنهم كانوا يعلمون تمام العلم أنه لم يسافر إلى القدس من قبل، وهو ما يعني أنه لم يكن يعرف هيئة بلدة القدس القديمة ولا شكل جبل الهيكل، حتى وإن سافر إلى الشام في السابق.
ثمة رواية في "المغازي" تشير إلى أن النبي محمد لم يرَ حرم الهيكل، حيث قالت ميمونة زوج النبي: "يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله (ص): لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم" [المغازي: 2/ 866]. وبفرض صحة هذه الرواية فهي تؤكد أن النبي محمد حتى وإنْ زار فلسطين لكنه لم يدخل القدس، وإلا لعرف أن "بيت المقدس" آنذاك كان مجرد أطلال وخرائب، ولظهر ذلك في الروايات الإسلامية المبكرة مثل موطأ مالك ومغازي الواقدي وسيرة ابن هشام.
وللأسباب السابقة، من المؤكد أن المسجد المذكور مرتين في سورة "بني إسرائيل" [الإسراء: 1، 7] كان المقصود به، على الأقل، موضع الهيكل، فكلمة مسجد في الأساس لا تقتصر على المصليات الإسلامية المعمارية المعروفة، بل كانت تطلق على أي مكان يُسجد فيه، لذلك يقول النبي محمد: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" [البخاري: 438]. والكعبة سميت مسجداً رغم أنها ليست مسجداً بالمفهوم المعماري الإسلامي. ولا غرابة في أن يُسمى الهيكل مسجداً، لأن اليهود كانوا يسجدون فيه قبل خرابه، ولكنهم لا يسجدون اليوم، عدا روش هشناه (رأس السنة العبرية) ويوم كيبور (عيد الغفران)، نظراً لعدم وجود الهيكل.
تحوّل القبلة
أبدى النبي محمد في بداية دعوته اهتماماً بالهيكل، لعلمه بموقعه في نفوس اليهود، وعندما كان يحاول استمالة اليهود للإيمان به، توجه لقبلتهم تجاه موضع الهيكل (بيت المقدس) [السنن الكبرى للبيهقي: 2246] لا سيما عندما قدم إلى المدينة، حيث صلى نحو بيت المقدس لنحو ستة عشر شهراً [البخاري: 7252] ولكنه عندما يئس من ذلك توجه لكعبة مكة، بعدما قال بعض اليهود: "يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا". [تفسير الطبري: 3/ 173].
وحدث الشقاق بين النبي محمد واليهود، ما تجلى في آية نسخ القبلة [البقرة: 144]؛ وتحول النبي عن قبلة اليهود في بيت المقدس إلى الكعبة، في العام الثاني من الهجرة، ما تسبب في ارتداد مسلمين آخرين، إذ قالوا إن القبلة الأولى إن كانت صحيحة فقد ضلَّ النبي محمد، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل [زاد المعاد: 3/ 60].
امتعض اليهود من تحول النبي محمد عن قبلة الأنبياء الموحدين وتوجهه للكعبة قبلة الوثنيين العرب التي كانت تحوطها الأصنام آنذاك. ثمة رواية في البخاري تقول: "وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس. فلما ولى وجهه قِبَل البيت [أي المسجد الحرام] أنكروا ذلك" [البخاري: 40]. وهذا النص واضح ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن قبلة المسلمين الأولى كانت الهيكل، فليس لليهود قبلة سواه. ولو لم يكن الهيكل فما دلالة وجود اليهود (أهل الكتاب) في آية نسخ القبلة؟ "وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ" [البقرة: 144].
الهيكل المفقود
وبعد وفاة النبي محمد، وصلت جيوش المسلمين إلى فلسطين في عهد عمر بن الخطاب. ويذكر المؤرخ البلاذري (820 – 892م) في "فتوح البلدان" أن "أهل إيلياء" استسلموا لجيش المسلمين سنة 637م، واشترطوا أن يوقع عقد الصلح الخليفة نفسه، فحضر عمر بن الخطاب فعلاً، وسقطت المدينة في أيدي المسلمين صلحاً في الرواية العربية أو بالقوة كما في الروايات غير العربية، وهي مسألة تخرج عن نطاق اهتمام هذا المقال. ولا يذكر البلاذري أي شيء عن وثيقة "العهدة العمرية" المنحولة، كما لا يشير إلى منع عمر بن الخطاب اليهود من سكنى إيليا.
وإيليا هو الاسم الروماني لمدينة يروشالايم (أورشليم) القديمة التي دمرها الإمبراطور إيليوس هدريانوس (76 – 138م) أثناء الثورة اليهودية الثانية ضد الرومان سنة 132م ثم أعاد بناءها وسماها إيليا كابيتولينا، نسبةً لاسمه، وظل العرب يستخدمون هذا الاسم في أول عهدهم بالشام بعد انتزاعها من بيزنطة.
وروى الإمام الوليد بن مسلم (737 – 811م) دخول عمر بن الخطاب القدس وهي الرواية التي تداولها المؤرخون المسلمون مثل الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" والحسن المهلبي في "المسالك والممالك" وشهاب الدين بن تميم في "مثير الغرام" والمنهاجي الأسيوطي (1410 – 1475م) في "إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى" ومجير الدين العليمي (1456 – 1522م) في "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل".
تقول رواية الوليد إن عمر بن الخطاب عندما مضى لفتح إيلياء، شرع يبحث عن "مسجد داود" أو "محراب داود" الذي كان قد أسري إليه الرسول، لكنه فوجئ أن الهيكل مجرد خرائب وأطلال منذ أن خربه الرومان قبل أكثر من خمسمائة عام.
يذكر العليمي في كتابه المذكور أن عمر قال لصفرونيوس بطريرك القدس: "دلني على مسجد داود". وهذا السؤال ينم عن علم عمر بأن "الأقصى" صفة وليس اسماً، ويؤكد على اصطلاح العرب المسلمين على تسمية الهيكل بالمسجد كما تقدّم بيانه، فما يطلق عليه مسجد داود أو المسجد الأقصى (البعيد) أو بيت المقدس في الثقافة الإسلامية هو الهيكل أو بيت همقداش في الثقافة اليهودية.
وتخبرنا رواية الوليد بن مسلم أن صفرونيوس اصطحب الخليفة إلى كنيسة القيامة مدعياً أنها هي "مسجد داود"، لكن عمر لم يصدّقه، فقاده إلى كنيسة صهيون، لكنه لم يقتنع، "فمضى به إلى مسجد بيت المقدس". ثمة رواية أخرى تشير إلى أن الذي قاده لموقع المسجد كعب الأحبار اليهودي، وهنا فوجئ الخليفة والمسلمون أن بيت المقدس أو مسجد داود مجرد أطلال وخرائب ملأى بالقاذورات.
وتشير الرواية إلى المزابل الهائلة في حرم الهيكل لدرجة أنه سدَّ المداخل إليه، ما اضطر الخليفة والمسلمون أن يدخلوه حبواً حتى إذا بلغ عمر صحن هيرودس قال عمر: "هذا والذي نفسي بيده مسجد داود (ع) الذي أخبرنا رسول الله (ص) أنه أسري به إليه" ولعل هذه الجملة من دس الراوي حتى لا يتعارض إسراء النبي محمد مع حقيقة أن الهيكل لم يكن سوى أطلال كما اكتشف عمر. "ووجد على الصخرة زبلاً كثيراً مما طرحته الروم غيظاً لبني إسرائيل، فبسط عمر رداءه، وجعل يكنس ذلك الزبل، وجعل المسلمون يكنسون معه الزبل" [الأنس الجليل: 1/ 379].
كانت تلك اللحظة التاريخية من اللحظات القليلة التي تعاون فيها المسلمون واليهود جنباً لجنب من أجل هدف مقدس: تطهير الحرم الشريف أو جبل الهيكل، وستترك هذه الحادثة أثراً عميقاً في نفوس بني إسرائيل تجاه عمر بن الخطاب وبني عمومتهم بني إسماعيل (العرب) بوصفهم مبعوثي الرحمة الإلهية لتخليصهم من اضطهاد الروم.
في بعض نصوص المدراش التي نشرها الحاخام النمساوي أدولف يلنيك (1821 – 1893م) ونقل منها المؤرخ الإسرائيلي موشيه جيل (1921 – 2014م) في كتابه A History of Palestine (تاريخ فلسطين) ثمة خطاب من يشيفا (مدرسة دينية) أورشليم للجاليات اليهودية في الشتات [في مصر على الأرجح]، يعود تاريخه إلى منتصف القرن الحادي عشر، وفيه هذه الفقرة: "وشملنا الرب برحمته إبان مملكة إسماعيل [الخلافة العربية] في الوقت الذي امتد فيه سلطانهم وانتزعوا الأرض المقدسة من أيدي إدوم [المسيحيين]، وجاؤوا إلى أورشليم، حيث كان معهم هناك بنو إسرائيل، وبيّنوا لهم موقع الهيكل وسكنوا معهم حتى اليوم".
ولا شك أن تحويل حرم الهيكل لمستودع قمامة، كان مفاجأة مروعة للمسلمين، ولعله كان سبباً في انتقامهم من المسيحيين بإطلاق اسم كنيسة "القمامة" على كنيسة القيامة في ما بعد. وبعد تطهير صحن الحرم، شرع عمر بن الخطاب في إعادة بناء مسجد داود، أو "المسجد الأقصى" بتعبير الإمام ابن القيم الجوزية في "المنار المنيف في الصحيح والضعيف".
ولأن مسجد داود هو نفسه الهيكل، فقد اضطر عمر إلى أن يلجأ لليهود حتى يدلوه على موقعه بالتحديد لكي يبني فيه المصلى، ما يعني أن عمر بن الخطاب [أو حبيب إسرائيل في بعض نصوص المدراش] قرر بناء الهيكل الثالث، لكن في حلة إسلامية.
وفي "المسالك والممالك"، يؤكد المؤرخ الحسن بن أحمد المهلبي (ت. 990م) هذه الفرضية. يقول: "ولما بنت هلانة أم قسطنطين الملك كنيسة قمامة وغيرها من الكنائس أمرت بتقصي هدم البيت، وجعلت موضع الصخرة حشوش البلد ومزابله فدَثُر [رُدِم]. فلما فتح عمر البلد جاءه اليهود فعرفوه بالموضع، فأمر المسلمين بتنظيفه، وعاونه اليهود على ذلك فكشف عن الموضع وبنى المسلمون عليه مسجداً". وهذه الرواية تؤكدها المصادر اليهودية.
ثمة نص في أحد التواريخ اليهودية، يعود إلى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، بقي بعض أجزائه في وثائق جنيزة القاهرة، وقد ذكره جيل في كتابه المذكور آنفاً، ويقول هذا النص: "واشترك كل المسلمين الذين في المدينة وفي الحي ومعهم مجموعة من اليهود، بإزالة الزبل من المسجد كما أمروا أن ينظفوه؛ وكان عمر يراقبهم خلال هذا الوقت. وبمجرد ما ظهرت بعض آثار [الهيكل]، سأل [عمر] شيوخ اليهود عن الصخرة، أي إيفن هشتيا (حجر الأساس)، وعيّن له أحد الحاخامات حدود المكان، حتى تم العثور عليها". والحاخام المقصود هنا هو كعب الأحبار اليهودي المتأسلم المذكور في المصادر العربية.
الهيكل الثالث
يذكر المؤرخون المسلمون ومنهم الطبري والعليمي أن عمر لما دخل إلى حرم المسجد، طلب كعب الأحبار، ثم صلى بالناس وقرأ سورتي ص وبني إسرائيل [الإسراء]. وتذكر رواية الطبري أن عمر لاحظ أن كعباً خلع نعليه عندما وطئ أرض جبل الهيكل، وهو ما لم يفعله المسلمون على ما يبدو.
وسأل عمر كعب الأحبار: "أين ترى أن نجعل المصلى؟" فأشار عليه بأن يجعل المسجد شمال صخرة الأساس، (لظنه أن هذا موضع الهيكل) وذلك بالطبع حتى يستقبل المسلم الصخرة وهو متوجه نحو الكعبة، فيجمع بين قبلة اليهود وقبلة المسلمين، لكن عمر اعترض قائلاً: "ضاهيت والله اليهودية يا كعب".
وسرعان ما حسم عمر رأيه وقال في رواية الطبري التي تتفق مع رواية العليمي "بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله (ص) قبلة مساجدنا صدورها، اذهب إليك، فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أُمرنا بالكعبة". وهذه الرواية تؤكد أن تقديس الصخرة لم يكن معروفاً في بداية الإسلام، وأنه كان من البدع التي استحدثها عبد الملك بن مروان (646 – 705م) عندما بنى قبته الشهيرة كما سيأتي بيانه.
والمؤرخ الفلسطيني المطهر بن طاهر المقدسي (ت. 966م)، يذكر صراحةً في تاريخه "البدء والتاريخ" أن الهيكل الذي بناه سليمان وخربه نبوخذ نصر ثم سمح قورش الأخميني لليهود بإعادة بنائه وخربه تيتوس الروماني هو نفسه الذي أعاد بناءه عمر بن الخطاب.
يقول المطهر بن طاهر: "وأوحى الله عز وجل [ليعقوب] إن قد ورثتك هذه الأرض المقدسة ولذريتك من بعدك فابن لي فيها مسجداً، فاختط عليه [رسم معالمه] يعقوب... ثم بنى بعده داود وأتمه سليمان وخربه نصر [نبوخذ نصر] فأوحى الله عز وجل إلى كوشك [قورش] ملك من ملوك فارس فعمرها ثم خربها ططس [تيتوس] الرومي الملعون فلم يزل خراباً إلى أن قام الإسلام وعمّره عمر بن الخطاب (ر)" [البدء والتاريخ: 4/ 87-88].
وسجل الحاج المسيحي أركولف (توفى 704م) أول شهادة معاصرة للمسجد الذي بناه عمر حوالي سنة 680م، في كتاب Pilgrimage of Arculfus in the Holy Land (حج أركولف في الأرض المقدسة). قال: "في ذلك المكان الذي شهد في الزمان الغابر صرْح الهيكل العظيم، أقام العرب بالقرب من الحائط من ناحية الشرق، في هذا العصر، مصلى مربع الزوايا، شيدوه من ألواح خشبية قائمة وعليها عوارض فوق بعض الأطلال، وهم يترددون عليه، ويُقال إن هذا المصلى قد يستوعب ثلاثة آلاف رجل في وقت واحد".
وهكذا أسس عمر المصلى الذي لم يسمه بأي اسم، وهو ما يمكن عده بمنزلة الهيكل الثالث في نسخته الإسلامية، ولعله كان في موضع المسجد القبلي الآن، وقد جدده من بعده معاوية بن أبي سفيان، دون أن يتمتع بأي قدسية خاصة بالنسبة للمسلمين الذين يحجون إلى مكة، بخلاف اليهود الذين ظلت قلوبهم معلقة بهذا المكان منذ خراب هيكلهم الأخير، حتى جاء عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وبنيا في موضعه ما يسمى "المسجد الأقصى" ليحل محل الكعبة، لأهداف سياسية.
المسجد الأقصى
بعد قرابة أربعة عقود من وفاة عمر بن الخطاب، تصارع على خلافة المسلمين الصحابي عبد الله بن الزبير (623 – 692م) الذي كان يسيطر على الحجاز، وبايعه أهل العراق والحجاز واليمن، حتى كاد ينفرد بالحكم، في مواجهة عبد الملك بن مروان (646 – 705م) من بني أمية، الذي سيطر على الشام وبايعه أهل مصر بعدما تخلوا عن مبايعة ابن الزبير.
وكان عبد الله بن الزبير الذي يسيطر على الكعبة، يستغل ورود الحجاج والمعتمرين ليحرضهم ضد آل مروان وبني أمية في مكة، وكاد يستقطب إليه أهل الشام، فخشي عبد الملك بن مروان أن يبايعوه؛ فمنعهم من الحج والعمرة، لكن العامة لم تتحمل ذلك، فاحتال إلى غرضه بأن أسس لهم مسجداً إسلامياً فخماً سمّاه "الأقصى" مستغلاً اسم الهيكل الوارد في القرآن، وجعل الصخرة في موضع الهيكل مطافاً يطوف حولها الناس بدلاً من الكعبة التي يسيطر عليها ابن الزبير.
وهناك سبعة مؤرخين مسلمين يؤيدون هذه الفرضية بروايات متفاوتة وهم: أحمد اليعقوبي (ت. 897م) في تاريخه، والحسن بن أحمد المهلبي (ت. 990م) في "المسالك والممالك"، وسبط بن الجوزي (1186 – 1256م) في "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" وأبو الفداء ( 1273 – 1331م) في "المختصر في أخبار البشر" وزين الدين عمر بن الوردي (1292 – 1349م) في "تتمة المختصر في أخبار البشر" وابن كثير الدمشقي (1301 – 1373م) في "البداية والنهاية" ومجير الدين العليمي (1456 – 1522م) في "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل". كما أكدها الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم".
وقصة بناء المسجد الأقصى يحكيها اليعقوبي والحسن المهلبي في تاريخيهما بالتفصيل، إذ اتهما عبد الملك بن مروان وابنه الوليد على التوالي، باختراع وتلفيق تقديس المسجد الأقصى وقبة الصخرة في الإسلام، والإيعاز بوضع أحاديث تُنسب للنبي تبالغ في إعلاء شأنه وتوصي بالحج إليه أسوة بالكعبة والمسجد النبوي.
الكعبة البديلة
يحكي اليعقوبي أن عبد الملك بن مروان لما منع أهل الشام من الحج، خوفاً من أن يبايعوا ابن الزبير، لم يتحملوا ذلك ويقول: "فضج الناس، وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض من الله علينا! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها، لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية" [تاريخ اليعقوبي: 2/ 177].
وبذلك اكتمل استيلاء المسلمين على الهيكل اليهودي القديم حيث يقول المؤرخ زين الدين بن الوردي (1292 – 1349م) في تاريخه: "وخلاصة ما ذكر أن هيكل بيت المقدس عمّره سليمان وبقي حتى خربه بختنصر [نبوخذ نصر] أولاً ثم عمره كورش ثانياً وبقي حتى خربه طيطوس ثانياً ثم تراجع للعمارة قليلاً قليلاً حتى خربته هيلانة أم قسطنطين ثالثاً ثم عمره عمر رضي الله عنه رابعاً ثم خرب وعمره الوليد خامس عمارة وهي إلى الآن" [تاريخ ابن الوردي: 1/ 33].
وفي "المختصر في أخبار البشر"، ينص المؤرخ أبو الفداء (1273 – 1331) صراحةً على أن الأقصى وقبة الصخرة بنيا في موضع الهيكل الذي يذكره بهذا الاسم. يقول: "قدم عمر بن الخطاب (ر) وفتح القدس، فدله بعضهم على موضع الهيكل، فنظفه عمر من الزبائل، وبنى به مسجداً، وبقي ذلك المسجد إلى أن تولى الوليد بن عبد الملك الأموي، فهدم ذلك المسجد، وبنى على الأساس القديم المسجد الأقصى، وقبة الصخرة" [المختصر في أخبار البشر: 1/ 38]. وكان الوليد بن عبد الملك قد أتم بناء وتجديد المشروع الذي بدأه أبوه.
وأكد سبط بن الجوزي روايتي اليعقوبي والمهلبي في "مرآة الزمان" بالتفاصيل [مرآة الزمان: 9/ 40] ونقل عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" وقال: "ولم يكن يومئذ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس [البداية والنهاية: 8/ 280].
فضائل الأقصى
يشير اليعقوبي في تاريخه إلى اختراع أحاديث فضائل بيت المقدس، وهو ما يؤكده الحسن المهلبي في "المسالك والممالك" حيث يقول إن الوليد بن عبد الملك "أقام في نفوس الطغام من أهل الشام أن الناس يُحشرون إلى ذلك الموضع ويُحاسبون فيه، وأنه عُرج بالنبي عليه السلام من ذلك الموضع إلى السماء، استنئاء لهم، وصداً عن الحج، وإشغالاً لهم بهذا المكان عن الحجاز". وهو ما انتبه له الإمامان ابن تيمية وابن القيم الجوزية.
ومما يؤكد أن أحاديث فضائل بيت المقدس الإسلامية موضوعة لأغراض سياسية، أننا نجد في النصوص المبكرة في مغازي الواقدي (747 – 823م)، قبل صراع عبد الملك بن مروان وابن الزبير، ما يبين تهوين مكانة بيت المقدس لحساب البيت الحرام، وهو أمر منطقي بعد تحوّل القبلة، وتغيّر موقف النبي محمد من استمالة اليهود.
يقول الواقدي في "المغازي": "جاء رجل إلى رسول الله (ص) يوم الفتح فقال: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة. فقال رسول الله (ص): هاهنا أفضل. فرد ذلك عليه ثلاثاً. وقال رسول الله (ص) والذي نفسي بيده، لصلاة هاهنا أفضل من ألفٍ في ما سواه من البلدان" [مغازي الواقدي: 2/ 866]. كما لاحظ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1907 – 1973م) في "أضواء البيان في إيضاح القرآن" تراجع مكانة المسجد الأقصى في حديث "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام" [البخاري: 1190، مسلم: 1394].
ويذكر المؤرخون المسلمون أن عبد الله بن الزبير لما بلغته مكيدة عبد الملك شنّع عليه بهذه البدعة التي استمرت لقرون على ما يبدو، حتى أن المؤلف الموسوعي ياقوت الحموي (1179 – 1229م) ذكر في "معجم البلدان" أنه التقى بأحد الشيوخ الزهاد "بالبيت المقدس تاركاً للدنيا مقبلاً على قراءة القرآن مستقبلاً قبلة المسجد الأقصى" [معجم البلدان: 1/ 283]، فكأن القبلة عادت مرة أخرى لبيت المقدس.
وثمة دلائل مادية تشير إلى أن صخرة الأساس قصد منها عبد الملك بن مروان أن تكون كعبة المسلمين حقاً، واللافت أن المؤرخين المسلمين لا يسمون "قبة الصخرة" مسجداً، وقد لاحظت المستشرقة البريطانية كارِن أرمسترونغ في كتابها "القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث" أن قبة الصخرة ليست مسجداً بالفعل؛ إذ لا يوجد بها حائط للقبلة يوجه المصلين تجاه الكعبة، "كما لا توجد مساحة متسعة للصلاة" فيها. كذلك تحتل القبة الموضع المركزي للصحن تماماً مثل الكعبة. وهي "المصلى" الوحيد في العالم الذي له شكل مثمن، وثمة علامات باقية فيها تشير إلى الطواف، إذ يوجد ممران مستديرا الشكل للسير حولها.
الصخرة المشرفة
رغم خلاف الباحثين حول موقع الهيكل التاريخي، إنْ كان في جبل الهيكل (في المصادر اليهودية) وهو الحرم الشريف (في المصادر العربية) أو كان جنوب كنيسة القيامة في موضع مسجد عمر بن الخطاب الآن، وهي مسألة لا يتسع لها المقام، لكن على أية حال تجنح أغلب الآراء إلى اعتبار الموقع التاريخي للهيكل في صحن هيرودس بالحرم الشريف، حيث قبة الصخرة اليوم.
وفي التراث اليهودي تُعَدّ الصخرة من أهم المعالم المقدسة لدى اليهود من بعد خراب الهيكل، ويعتقدون أنها "إيفن هشتيا" أي حجر الأساس المذكور في المشناه (موعيد/ يوما: 5/ ب) الذي بني عليه الهيكل، وهي الصخرة التي وضع عليها تابوت العهد في الهيكل الأول، أو مجمرة البخور في الهيكل الثاني، ويذكر مدراش الرابي تنحوما أنها كانت تقع في مقابل غرفة قدس الأقداس (تنحوما قدوشيم: 10) وكانت قبلتهم في الصلاة.
ونظراً لاعتقاد اليهود أن الصخرة كانت في موضع قدس الأقداس، الذي بني عليه بيت همقداش (الهيكل)، فقد أطلق المسلمون أحياناً على الصخرة اسم بيت المقدس، حيث يذكر الطبري في تاريخه: "قام [عمر] من مصلاه إلى كُناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل، فلما صار إليهم أبرزوا بعضها، وتركوا سائرها". [تاريخ الطبري، 3/ 611].
وفي "تاريخ بيت المقدس"، ذكر يعقوب الفيتري (1170 – 1240م)، بطريرك عكا، أن المسلمين يعتبرون "أن هيكل الرب الصخرة حتى هذه الأيام، ويتعاملون معه بوقار حتى أن أحدهم لا يجرؤ على تدنيسه بأي نوع من الأوساخ كما يفعلون بالأماكن المقدسة الأخرى".
ويذكر آلان بلفور في كتابه "Solomon's temple" (هيكل سليمان) أن جودفري بالدوين، أول ملوك مملكة بيت المقدس الصليبية، "أرسى مقر حكمه على أنقاض المسجد الأقصى، الذي سماه الصليبيون هيكل سليمان. وسموا قبة الصخرة هيكل الرب". وبعد عامين فقط من الغزو وصف الرحالة الإنكليزي سولف Saewulf قبة الصخرة بأنها "هيكل الرب" وقال إنها "الموضع الذي بنى فيه سليمان هيكل الرب الذي كان يدعى قديماً بيت إيل".
قبلة اليهود
رفض ابن تيمية (1263 – 1328م) تقديس بيت المقدس أو الصخرة المشرفة باعتبارهما من المقدسات اليهودية لا الإسلامية. وذكر في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" قصة بناء عبد الملك بن مروان المسجد الأقصى وقبة الصخرة ليكونا بديلاً للكعبة ثم قال: "وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها". ثم يضيف: "ولا ريب أن الخلفاء الراشدين، لم يبنوا هذه القبة، ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة، ولا يتحرّون الصلاة عندها". مؤكداً أنها " قبلة اليهود" [اقتضاء الصراط: 2/ 348].
وفي كتاب "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" رفض الإمام ابن القيم الجوزية (1292 – 1350م) تقديس الصخرة لأنها "قبلة اليهود" وأكد قائلاً: "كل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى والقدم الذي فيها كذب موضوع مما عملته أيدي المزورين الذين يروجون لها ليكثر سواد الزائرين" [المنار المنيف، 87].
الالتباس الحديث
ومن هذا التاريخ حدثت قطيعة بين المسجد الأقصى القرآني وهو الهيكل، والمسجد الأقصى المرواني الذي بني في الموقع المفترض للهيكل، فالأقصى في القرآن صفة بمعنى المسجد البعيد وهو الهيكل، أما الأقصى الذي بناه عبد الملك بن مروان فاسم المسجد نفسه، وهو ما سبب التباساً لدى كثير من الناس الذين اختلط عليهم معنى بيت المقدس، فظنوا أن الجامع الأقصى الذي بناه عبد الملك بن مروان هو الأقصى المذكور في القرآن.
وقد التفت المؤرخ المقدسي مجير الدين العليمي إلى هذا الخلط، فقال إن الجامع القبلي في باحة بيت المقدس "الذي هو في صدره عند القبلة التي تقام فيه الجمعة وهو المتعارف عند الناس أنه المسجد الأقصى" [الأنس الجليل: 2/ 45] ثم يذكر في وصف الصخرة: "وأما الصخرة الشريفة فهي في وسط المسجد على الصحن الكبير المرتفع في أرض المسجد" [الأنس الجليل: 2/ 53].
أي أن المسجد الأقصى الحقيقي (مسرى الرسول) ما هو إلا صحن هيرودس، الذي يوجد به قبة الصخرة (القبة الذهبية) والمسجد القبلي (القبة الفضية) والمصلى المرواني، وهو ما يمكن التثبت منه بالرجوع إلى خرائط الحرم الشريف في دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس.
أقصى الجعرانة
بقي أن نذكر فرضية أخيرة عن المسجد الأقصى تبناها بعض المستشرقين، وتفيد بأنه موجود في الجزيرة العربية، وتعود هذه الفرضية إلى رواية ذكرها المؤرخ محمد الواقدي (747 – 823م)، يذكر فيها مسجداً يسمى "المسجد الأقصى" في قرية الجِعرّانة الواقعة بين مكة والطائف [المغازي: 3/ 958]. وفي "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" يذكر المؤرخ تقي الدين الفاسي (1373 – 1429م) رواية عن مؤرخ مكة أبو الوليد الأزرقي (ت. 837م) يشير فيها إلى وجود هذا المسجد الأقصى مصلى النبي محمد في الجعرانة.
وزعم هؤلاء المستشرقون أن مسجد الجعرانة هذا هو نفسه المذكور في سورة الإسراء، وهي الفرضية التي رددها الكاتب المصري يوسف زيدان ربما نقلاً عن المستشرق اليهودي مردخاي قيدار، وهو نقل هذه الفرضية بدوره عن المستشرق البريطاني ألفريد غِيّوم (1888 – 1965م) الذي له دراسة مفصلة عن موقع المسجد الأقصى، وتؤيد المستشرقة كارين أرمسترونغ أن تحديد المسجد الأقصى في أورشليم حدث في فترة لاحقة من ظهور الإسلام.
وعلى كل حال فلا مانع من أن يكون ثمة مسجد آخر باسم المسجد الأقصى غير المشار إليه في سورة الإسراء؛ لكن لا يستقيم الجر بالقلم على جميع الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية والروايات التاريخية العربية وغير العربية التي تؤكد أن المسجد الأقصى، هو نفسه بيت المقدس أو الهيكل، لمجرد وجود مسجد باسم الأقصى في الجزيرة العربية.
الخلاصة أن الهيكل في التراث الإسلامي يُعرَف بأكثر من اسم أولها المسجد الأقصى أي البعيد، وبيت المقدس، وهو تعريب اسمه في العبرية "بيت همقداش" ومسجد داود، وكان المسلمون يعرفون أنه هو الهيكل، حتى قام عبد الملك بن مروان بتأسيس مسجد باسم "الأقصى" في صحن هيرودس، فتوهم المسلمون أنه المذكور في القرآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.