بالنسبة لي، لم يكن مسلسل "بـ 100 وش" بمثابة العمل القوي خلال موسم رمضان الماضي، لكنه بالتأكيد صاحب نجاح طاغ، دفع صنّاعه لإعلان جزء ثان له، فيمكن القول إن "ضربة الحظ" هذه جاءت بوجود اسم المخرجة كاملة أبو ذكري، لإبداعها وكونها استطاعت تغيير "النظرة التقليدية" تجاه المخرجات المصريات.
إن المتتبع لنشأة العمل الفني المصري، يمكنه القول إنه تأسس على "أكتاف النساء"، أمثال آسيا، التي أنتجت أشهر الأفلام في ثلاثينيات القرن الماضي، أو عزيزة أمير، التي أخرجت فيلم "بنت النيل" عام 1929، وبهيجة حافظ وفاطمة رشدي اللتين أخرجتا بعض الأفلام أيضاً.
لكن تلك البداية التي تُبشّر بنهضة نسائية في مجال الإخراج سرعان ما اختفت، وتولى المهمة، بل سيطر الرجال، ووظفت النساء في حقل التمثيل، ولم يظهر أي مخرجة سينمائية لمدة تقارب الخمسة عقود، وتحديداً حين ظهرت إيناس الدغيدي، منتصف الثمانينيات على حد متابعتي.
للاختفاء هذا أسباب كثيرة، منها مرتبطة بتركيبة المجتمعات الأبوية، لكن تتبع مسيرة الإخراج السينمائي والاطلاع على الكواليس الفنية، يمكن أن يفسّر ذلك أكثر.
وفي رأيي، إن أول الأسباب هو تأسيس جماعة "السينما الجديدة" عام 1968، والتي نشأت لتقديم "رؤية جديدة" للفن، ورغم ضمها مخرجين كثر أبرزهم علي عبد الخالق وخيري بشارة، لم تضم أي وجه نسائي، وسواء كان ذلك عن قصد أو دون قصد، فإن تلك الجماعة ومن انضم إليها لاحقاً (جميعهم رجال) احتكرت تقريباً سوق الإخراج لأكثر من عقدين، وباتت بوصلة المنتجين وصك اعتماد الوجوه الجديدة، ما ساهم في هذا الغياب.
السبب الثاني يوضحه مصطفى محرم، كاتب أشهر أفلام الثمانينيات، فمن خلال مذكراته، يتكشف كيف أن نجوماً كثيرة كان لهم الحظوة في فرض مخرج بعينه على المنتجين، مثل نادية الجندي التي كانت تشترط مخرجي أعمالها، والاختيار دوماً لمخرجين متمرسين في العمل، في وقت لم يكن فيه مخرجات أصلاً، ومع ظهور تلك "الشللية" التي يكشف أسرارها "محرم"، زادت صعوبة تواجد المخرجة السينمائية.
ثالث الأسباب ساهمت فيه الدولة ربما دون قصد، عن طريق قطاع الإنتاج في الإذاعة والتلفزيون، فاعتمدت على العنصر النسائي في إخراج الأعمال الدرامية، لتقدم المخرجة أنعام محمد علي، وحين نجحت لحقت بها مخرجات أخريات، مثل رباب حسين وشيرين عادل.
إن المتتبع لنشأة العمل الفني المصري، يمكنه القول إنه تأسس على "أكتاف النساء"، أمثال آسيا، التي أنتجت أشهر الأفلام في ثلاثينيات القرن الماضي، أو عزيزة أمير، التي أخرجت فيلم "بنت النيل" عام 1929، وبهيجة حافظ وفاطمة رشدي اللتين أخرجتا بعض الأفلام أيضاً
ورغم النجاح التلفزيوني للمخرجات المصريات وعملهن مع أشهر النجوم، لم يسند قطاع الإنتاج إخراج أي فيلم لأي مخرجة، مكتفياً بالأعمال الدرامية التي يستطيع تسويقها جيداً، من خلال امتلاكها للقنوات الوحيدة المتاحة في هذا الوقت، أما السينما، فالمشاهد هو المتحكم الأول والأخير، ولذلك رفض القطاع المجازفة، لكنه من ناحية أخرى، رسّخ النظرة التقليدية في أن المخرجات لا يصلحن للسينما، هم فقط يصلحن للأعمال الدرامية المضمون تسويقها.
في وسط تلك الصورة، استطاعت إيناس الدغيدي في عام 1985 أن تقدم أولى أعمالها "عفواً أيها القانون"، لتبدأ مسيرتها بعد ذلك، لكن رغم ما قامت به من دور مهم، ظلت أعمال "الدغيدي" في إطار المطالبة بحرية النساء وحقوقهن.
في عام 2004 استقبل الوسط السينمائي كاملة أبو ذكري، التي أثبتت خطأ نظرية أن المخرجات المصريات يصلحن للدراما، وفي أحسن الأحوال لأعمال سينمائية حول مواضيع نسائية ونسوية، وذلك من خلال أولى أفلامها "سنة أولى نصب" لنجوم جدد وقصة كوميدية، لا تتحدث بشكل مباشر عن قيم نسوية أو مواضيع نسائية.
منذ ذلك الوقت، تنقلت كاملة بين كافة الألوان، فقدمت "ملك وكتابة" التراجيدي، و"عن العشق والهوى" الرومانسي، و"واحد صفر" الميلو درامي، وحققت النجاح على المستويين الجماهيري والنقدي.
ورغم أن المخرجة ساندرا نشأت، فعلت هي الأخرى ما فعلته أبو ذكري في السينما، لكنها لم تقترب من الدراما التي اقتحمتها "كاملة"، وقدمت أعمالاً مختلفة، سواء تاريخية مثل "واحة الغروب"، أو اجتماعية كـ"ذات"، لتكون هي المخرجة الأولى في تاريخ المخرجات المصريات التي اقتحمت المجالين السينمائي والدرامي، وحققت النجاح.
كيف فعلت كاملة ذلك؟ ولماذا حالفها النجاح؟ ورغم وجود أسباب تتعلق بانفتاح في الإنتاج السينمائي الخاص مع بداية الألفية الثانية، ما منح الفرصة لكثيرات، لكن "كاملة" أيضاً قدمت نموذجاً جديداً للمخرج السينمائي، فعلى مدار تاريخ السينما كان لازماً على أي مخرج أن ينتمي لمدرسة سينمائية، سواء عن اقتناع أو من أجل المسايرة.
سر نجاحها، هو بتقديم ما يناسب فنياً بعيداً عن أي خلفيات مسبقة لديها، أو تقييدها بمدرسة فنية بعينها، وهذا ما أوصلها لأن تكون الأولى التي استطاعت إثبات أن المخرجات المصريات قادرات على التعامل مع كل شيء وأي شيء وبجودة عالية، حتى لو كانت الحبكة بسيطة، بل ومكررة
ونرى ذلك بداية من صلاح أبو سيف، مؤسس مدرسة الواقعية، ثم تعددت المدارس، التشويق "توفيق صالح"، الانتقام "سمير سيف"، العبث " رأفت الميهي"، وهكذا دار المخرجون في هذا الفلك، واستطاعوا تحقيق نجاح كبير، لكنهم ظلوا أسرى ما يقدمونه.
أما كاملة أبو ذكري قدمت نموذج "المخرج الفني" الذي لا ينتمي لمدرسة بعينها، لكنه يتعامل مع كافة الأشكال وكل فيلم على إنه حالة منفردة، والمتتبع لأعمالها يستطيع لمس ذلك، ففي العمل التاريخي "واحة الغروب" نراها ترسم إيقاعاً بطيئاً للحلقات يتناسب مع الفترة التي تناقشها، وتختار "تتر العمل" أقرب إلى الموشحات، وفي "بـ 100 وش" تعتمد على الإيقاع السريع وتختار تتر العمل من "أغاني المهرجانات"، وهكذا في باقي الأعمال وهذا سر نجاحها، تقديم ما يناسب فنياً بعيداً عن أي خلفيات مسبقة لديها، أو تقييدها بمدرسة فنية بعينها، وهذا ما أوصلها لأن تكون الأولى التي استطاعت إثبات أن المخرجات المصريات قادرات على التعامل مع كل شيء وأي شيء وبجودة عالية، حتى لو كانت الحبكة بسيطة، بل ومكررة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه