شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"نشفت دموعي ولم ينشف عذابي"... لماذا قد نعجز عن البكاء في المواقف الحزينة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 27 مايو 202006:40 م

بعض الناس يذرفون الدموع عند مشاهدة فيلم مؤثر، وآخرون عند قراءة كتاب حزين، والبعض الآخر يبكي عند سماع خبر مؤلم حتى ولو كان متعلقاً بأشخاص غرباء، وفي حين أن هناك أفراداً يفضلون البكاء خلف الأبواب المغلقة، أي في الخفاء، فإن البعض الآخر يشعر بالحاجة للبكاء أمام مرأى الآخرين، وذلك بغية الحصول على دعم عاطفي.

لكل شخص قصته مع الدموع، ولكن ماذا يعني أن يعجز المرء عن البكاء وأن تبقى دموعه محبوسة ومشاعره مكبوتة، حتى في أكثر المواقف حزناً؟

صدمة حياتي

هناك ألم عميق للغاية يجعلنا نشعر بالفراغ والوحدة القاتلة، ولكن ألّا نتمكن من البكاء لا يعني أن الألم غير موجود، فالحزن يعبّر عن نفسه بطرق عديدة.

لطالما بكت صديقتي "هلا" أثناء مشاهدة المسلسلات والأفلام التلفزيونية، بخاصة أفلام الأبيض والأسود التي تتناول قصص الحب المستحيل والنهايات الحزينة.

"يا الله شو دمعتك سخية"، هذا ما كنّا نقوله لها باستمرار، ونضحك ونتهكم: "إذا عرفتي إنو مات واحد بالصين إنتي بتبكي"، فتبتسم لكلامنا في كل مرة وتغرورق عيناها بالدموع، ولكن فجأة تغيّر كل شيء بعد أن صُعقت بموت أعزّ الناس على قلبها، فقد توفيت والدتها إثر نوبة قلبية حادة، وانتابتها موجة بكاء هستيرية، إذ بقيت دموعها تنهمر بشكل متواصل، الأمر الذي دفع أقرباءها لإعطائها بعض الأدوية المهدئة.

ألّا نتمكن من البكاء لا يعني أن الألم غير موجود، فالحزن يعبّر عن نفسه بطرق عديدة

تحدثت هذه الشابة البالغة من العمر 31 عاماً، عن أصعب فترة في حياتها، إذ قالت لموقع رصيف22: "خسارة إمي كانت صدمة حياتي ومن أول ما بلشت آخد هودي الحبوب، صرت حسّ كإني عايشة بالغيوم، بشوف الكل وبتفرج عيللي عم بصير كأنو شي مسرحية قدامي، بحس جسمي مشلول مش قادرة أتحرك أو حتى أبكي"، وأضافت: "نشفت دموعي من بعد العزاء، وحتى بعد ما وقفت الأدوية ما قدرت إبكي ولا نهار".

وبسبب تدهور حالتها الصحية والنفسية، لجأت إلى أحد الأطباء النفسيين الذي أخبرها بأنها تعاني من اكتئاب ما بعد الصدمة، وطمأنها بأن حالتها ستتحسن مع مرور الوقت.

وبالرغم من مرور أشهر عدة على هذه الحادثة المؤلمة، إلا أن "هلا" لم تتمكن من استئناف حياتها كالمعتاد: "بحس حالي علقاني بحفرة عميقة، ما بخلي عيلتي وأصحابي يشوفوا وجعي، لأني بجرب خبّي مشاعري عنن، فبضلني عم بحسسن إني منيحة تما عتّلن همّي".

وأوضحت أن طبيبها النفسي نصحها بضرورة إطلاق العنان لمشاعرها والبكاء لتخفيف الألم الذي يعتصر قلبها: "طلب مني خصص كل يوم وقت معيّن تإتذكر الأوقات الحلوة يلي قضيناها سوا أنا وإمي... وقتا بلش أتفرج على صورنا بحس بغصة بس دموعي ما بتنزل أبداً، وموقفي كتير غريب لما كون قاعدة مع يلي بحبن هني عم بيبكوا على إمي وأنا لأ".

وبعد خضوعها لجلسات نفسية مكثفة، توصلت "هلا" إلى نقطة الرضوخ للأمر الواقع والتقبل: "طوال هذه الفترة كنت أشعر بالذنب وألوم نفسي: أيعقل أنني أصبحت باردة لحدّ ألّا أذرف دمعة واحدة على أمي؟ هل جفّت دموعي ولم يبق منها شيئاً؟ ولكن أيقنت بعدها بأن هناك ألماً في العالم لا يُطاق لدرجة أن الجسم يعي أن البكاء غير قادر على فعل أي شيء".

العجز عن البكاء

لا شك أن معظمنا مرّ بتلك اللحظات التي شعرنا خلالها أن هناك ألماً وغصّة في حناجرنا، لكننا عجزنا وقتها عن ذرف الدموع.

في الواقع، هناك أسباب معقدة لعدم قدرتنا على البكاء، وفي حين أن هناك عوامل جسدية تحول دون ذرف الدموع، فإن هناك أيضاً أسباباً تتعلق بحالتنا العاطفية ومعتقداتنا بشأن البكاء والضعف أو الصدمات السابقة.

يؤكد العلم أنه ليس من الممكن أن تنفذ دموع البشر، حتى بعد جلسة بكاء طويلة.

فبحسب الأكاديمية الأميركية لطب العيون، فإننا ننتج حوالي 15 إلى 30 غالوناً من الدموع سنوياً، معظمها مصممة لتليين أعيننا، أو للتخلص من المواد الضارة، إذ يجب أن تبقى العين رطبة باستمرار حتى تعمل بشكل صحيح، لذلك تكون الغدد المنتجة للدموع في حالة تأهب قصوى في جميع الأوقات.

ومع ذلك، يمكن أن تكون هناك مشاكل تمنع إنتاج الدموع، بخاصة وأننا ننتج كميات أقل من الدموع مع التقدم في العمر، كما أن بعض العمليات الجراحية في العين والظروف الطبية يمكن أن تسدّ القنوات الدمعية، هذا وقد ثبت أن الالتهاب وبعض الأدوية، مثل مضادات الاكتئاب ووسائل منع الحمل واضطرابات الجفن ومرض السكري، كلها أمور قد تعرقل إنتاج الدموع وتسبب جفاف العين.

ولكن في ظلّ غياب أي سبب طبي، فمن المحتمل أنكم تتساءلون عن سبب عدم قدرتكم على البكاء في بعض الأحيان، على الرغم من أنكم تريدون ذلك بالفعل.

في الحقيقة، من المحتمل أن يكون مصدر صعوبات البكاء هو الاكتئاب، الذي يتسبب في حدوث تغييرات عاطفية لدى الأشخاص.

في هذا الصدد، أوضحت الطبيبة النفسية آني رايت، لموقع bustle أن الاكتئاب السريري قد يسهم في "تسطيح" المشاعر، بحيث أن الشخص المكتئب لا يستطيع تحديد مشاعره.

بدورها، أشارت أخصائية العلاج النفسي، كارين ر. كونيغ، أن البكاء العاطفي يتطلب أن تكونوا على اتصال مع مشاعركم، والأشخاص الذين يقمعون، أو ينفصلون عن عواطفهم، قد لا يتعرفون على مسبباتهم الداخلية للدموع: "قد لا ندرك أننا حزينون، لأننا لسنا منسجمين مع عواطفنا...قد نعرف أن شيئاً مزعجاً يحدث في الداخل، لكن لا يمكننا وصفه بالحزن".

وفي السياق نفسه، أوضحت كونيغ أن بعض الناس يواجهون صعوبة في البكاء بسبب إحساسهم بالعار من إظهار الدموع: "إذا كنا نعتقد أن البكاء أمر صحي ومفيد وطبيعي ومناسب لتخفيف التوتر العاطفي، فقد ندع الدموع تتدفق، وإذا كنا نعتقد أن الأشخاص الذين يبكون (ضعفاء)، وأنه أمر مخيف، فمن المحتمل أن نمتنع عن الاستجابة للبكاء".

واللافت أن هذه المفاهيم السلبية التي تدور حول البكاء تتشكل لدينا أثناء الطفولة، ويؤثر الآباء والبالغون من حولنا تجاه نظرتنا للبكاء.

وتعليقاً على هذه النقطة، قالت كارين: "يواجه الكثير من الناجين بعد الصدمات صعوبة في البكاء، لأنهم شعروا بالخجل عندما بكوا"، مشيرة إلى "أننا قد نعجز عن البكاء إذا كان لدينا قريب أو نموذج نحتذي به دائماً في أحزانه ونادراً ما يبكي، أو نادراً ما يخبرنا أنه يبكي، قد يؤثر ذلك على سلوك البكاء في مرحلة البلوغ".

هذا وقد تتأثر القدرة على البكاء بالمعتقدات الثقافية، فإذا كنا ننحدر مثلاً من خلفية اجتماعية أو ثقافية لا يُنظر فيها للبكاء على أنه مقبول، فمن المحتمل أن نكافح لكي نمنع التعبير عن نفسنا عبر البكاء عندما نشعر بالعواطف، على سبيل المثال، يمكن للتابوهات حول بكاء الرجال أن تجعل هؤلاء يترددون في التعبير عن صدق مشاعرهم من خلال بضع دموع، إذ إن بعض الأفكار الذكورية تنظر إلى الدموع على أنها دليل ضعف وتنتقص من الرجولة، انطلاقاً من الفكرة التقليدية التي تقول "الرجل الحقيقي لا يبكي"، واللافت أن الفجوة بين الجنسين في موضوع البكاء هي تطور حديث، إذ إنه تاريخياً، كان الرجال يبكون بشكل روتيني من دون أن يُعتبر ذلك دليل ضعف.

اختلاف المشاعر

ليست جميع الدموع متساوية، ففي حين يبكي بعض الناس عندما ينكسر ظفرهم، فإن هناك أفراداً لا يبكون حتى ولو فقدوا أشخاصاً أعزّاء.

في هذا الصدد، لاحظ البروفيسور آد فينغاهويتس، وهو عالم نفسي سريري، قام بدراسة البكاء على نطاق واسع، أن بعض الناس قد يبكون أقل من غيرهم لعدة أسباب عاطفية.

فبعض الأفراد لا يواجهون الكثير من الأحداث العاطفية المؤثرة في حياتهم، أو أنهم يقومون بتقييم هذه الأحداث العاطفية بشكل مختلف، أو ببساطة هم أكثر قدرة على التحكم في دموعهم، إلا أن البكاء النادر لا يعني أن الشخص "وحش"، بل أن السجل العاطفي للأحداث الجديرة بالبكاء قد يختلف من شخص للآخر.

وبالنسبة للبعض، قد يكون البكاء أمراً صعباً، حتى عندما يكون هناك سبب وجيه لذرف الدموع.

في حين أن البعض يظن أن البكاء هو مجرد علامة من علامات الضعف، إلا أن ذرف الدموع هي من أفضل الطرق للتعبير وإعادة بناء المشاعر، وتبديلها من الغضب والإحباط إلى عواطف أكثر اتزاناً

من هنا ينصح الأطباء بطلب المساعدة من المعالج النفسي إذا كان عَجْز المرء عن البكاء يُثير قلقه، بحيث قد يرغب الشخص المعني في فحص حياته العاطفية لجعل البكاء يأتي بشكل طبيعي، بخاصة وأنه غالباً ما تكون هناك أسباب معقدة تجعل شخصاً ما يعاني من عدم القدرة على البكاء، وبالتالي يتعين على أي شخص يعاني من صعوبة في البكاء أن يخضع لاختبار طبي لاستبعاد أي أسباب فيزيولوجية.

الحزن الذي لا يتم التنفيس عنه بواسطة الدموع، قد يجعل الأعضاء الأخرى في الجسم "تبكي" و"تئن"

فقد يترعرع الكثير من الأشخاص الذين تعلموا قمع دموعهم في بيئات صعبة للغاية، ربما عانى بعضهم من سوء المعاملة في مرحلة الطفولة، أو من مواقف جعلتهم يشعرون بالعجز، ومن المحتمل أن العديد منهم قد تعرضوا للخيانة وكان عليهم التعامل مع التداعيات التي تلت ذلك، هذه الأسباب قد تجعل البعض يقرر قمع أحاسيسه وكبت دموعه، وذلك من باب الدفاع عن النفس، فيجعل نفسه محصناً حتى لا يضطر للإصابة بخيبة أمل جديدة، إلا أن المشكلة التي تكمن في وضع جدران تحيط بالقلب، هي أنها لا تحصره.

ففي حين يبدو أن هذه الجدران تحافظ على الشخص "آمناً" من العواطف غير المرغوب بها، لكن القلب يكون بهذه الحالة غير قادر على التعبير عن العواطف، فتتحول هذه الجدران إلى قفص يصعب التحرر منه بسهولة.

في نهاية المطاف، إن العجز عن البكاء قد يكون مرتبطاً بعدة أسباب لا تنذر بالخطر، إلا أنه حين يكون مصاحباً مع عدم القدرة على الشعور بأي شيء آخر، فحينها قد يكون إشارة إنذار لمواجهة الإنسان لأشرس أنواع الاكتئاب، وفي حين أن البعض يظن أن البكاء هو مجرد علامة من علامات الضعف، إلا أن ذرف الدموع هي من أفضل الطرق للتعبير وإعادة بناء المشاعر، وتبديلها من الغضب والإحباط إلى عواطف أكثر اتزاناً، فالحزن الذي لا يتم التنفيس عنه بواسطة الدموع، قد يجعل الأعضاء الأخرى في الجسم "تبكي" و"تئن".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image