بصوتها القوي، والذي يحمل قلقاً واضحاً، وفي أحيانٍ أخرى يبدو إيذاناً بخطاب، تنشد فيروز: "بيي راح مع هالعسكر، حمل سلاح راح وبدّر". ثم تزداد حدة الصوت، وتعلن بنبرة غنائية لا تخلو من التباهي: "بيي علّى، بيي عمّر، بيي حارب وانتصر بعنجر".
جميع اللبنانيين يعرفون الأغنية، وربما الكثيرون من العرب أيضاً. في وعي الجيل الذي سمع الأغنية لأول مرة، غالباً لم يكن هذا مديحاً للأب وللأبوية. كان من ضمن الأدبيات الرحبانية التقليدية: احتفاء طبيعي بالقرية اللبنانية، وبالعسكر والذاهبين إلى العسكرية بوصفهم آباء ينتسبون إلى "القرية"، ويتقدمون في موقعهم هذا على الآخرين، لأنهم عسكر، أي مخوَّلين الدفاع عنها.
إنهم أقوى من الذين لم يحملوا السلاح. إنشاد فيروز يتجاوز الإيقاع إلى الخطاب. يخرج من الأغنية إلى الحقيقة. العسكر الذي يلقى الثناء في الأغنية هو العسكر نفسه دائماً. هو الذي كتب عنه سمير قصير "عسكر على مين" لزمان مختلف وفي مكان أقرب.
لكن "صوت" فيروز في الأغنية كان أعلى من "صورة" حذّر قصير من استعاداتها المتكررة. وهذه ليست مفارقة، والربط غير مقصود، بل هو فردي، تماماً مثل حادثة صفع الجندي لأحد الأطباء في المستشفى. مجرد حادث فردي.
فؤاد شهاب The Ultimate
تقرع مفردة "العهد" جرساً في آذان اللبنانيين، عند الحديث عن فترة ولاية رئيس الجمهورية. ورغم أن الكلمة مستخدمة عربياً، كأن يقال "عهد جمال عبد الناصر" أو "عهد زين العابدين بن علي"، إلا أن "العهد" في لبنان هو "العهد الشهابي". لم يسبق في الصحافة المحلية، أن قيل العهد اللحودي، أو العهد السركيسي، إلخ. وإنْ كان أحد ما قد اجتهد واستخدم ياء النسبة لإقامة علاقة بين عائلة الرئيس وبين عهده، فإن ذلك سيكون اجتهاداً شخصياً وليس عاماً. ما هو متعارف عليه، تقريباً، في لبنان، أن يُقال "العهد الشهابي".
فؤاد شهاب ليس أول قائد للجيش يصير رئيساً للجمهورية وحسب، بل إنه الشخص الذي رُسمت حوله هالة، ما زال صاحب الموقع يستفيد منها حتى اليوم، رغم كل التغيّرات. وليس الحديث هنا عن عهد شهاب بحد ذاته، إنما عن الصورة التي لصقت بعهد الرئيس الفرنكوفوني، والاكتفاء عن نقدها بوصفها حقبة تأسيسية لالتحاق لبنان بركب إبداعات الاستخبارات العربية. ومثلما أن صورة الفوتوغرافيا حررت الرسم من الواقعية، فإنه، بعد شهاب، تحرر الجيش من صورته كجيش لبلد محايد، وبدأت تتخذ أشكالاً أخرى.
المفارقة أن الجيش اللبناني في عهد قائده "النموذجي"، كان في طور البناء. في يوم من الأيام، كانت هناك حاجة في الجيش إلى 800 متطوع. تقدم المتطوعون. المفاجأة أن عدد المتقدمين عام 1959 كان 500 فقط، أي في زمن فؤاد شهاب نفسه. كان ذلك بعد أحداث 1958 في لبنان، التي يعدّها كثيرون "تمريناً" على الحرب الأهلية.
في الستينيات، كان عديد الجيش الأردني يبلغ ثلاثة أضعاف ونصف الجيش اللبناني، رغم أن عدد سكان لبنان كان أكبر من عدد سكان الأردن. وعادةً ما يحب بعض الباحثين هذه المقارنة أكثر من غيرها، لأسباب خبيثة، أهمها الإيحاء بأن مشكلة الجيشين، اللبناني والأردني، هي مشكلة مع الفدائيين الفلسطينيين، وليست مع دولة الاحتلال الاسرائيلي.
في 1975، عشية الحرب الأهلية اللبنانية، كان عديد الجيش اللبناني يبلغ عشرين ألفاً. في 2005، تكاثر الجيش وصار عديده 65 ألفاً. التحليل المتسرّع، وغير المنهجي، سيفترض تلقائياً أن الزيادة العددية كبيرة ومقصودة. لكن، بالنظر إلى عدد السكان في منتصف السبعينيات، كعامل ثابت قبل قياس العوامل المتغيّرة الأخرى، ولا سيما الحرب وشروط الديموغرافيا، قد لا يكون الارتفاع كبيراً إلى هذه الدرجة.
ذلك لا يلغي وجود أسباب لأن يضم الجيش الأردني في أواخر الستينيات 80 ألف عنصر، فيما يقتصر عديد الجيش اللبناني على ربع هذا العدد تماماً. وفيما كان الأردنيون يصرفون 47% من ناتجهم المحلي على الجيش، كان اللبنانيون يصرفون 17% فقط. وهذا ليس عيباً بحد ذاته، شرط أن يكون الخيار البديل ديمقراطياً، بالمعنى الطبيعي للديمقراطية، وليس للديمقراطية المشروطة.
لم تكن قوة لبنان في ضعفه، ولن يكون ضعفه في قوته، وانتهت شروط الستينيات ومفارقاتها. جاء ما هو أكثر صعوبة على الفهم: "شعب، جيش، مقاومة". هذا الشعار الذي روج له حزب الله، كمحاولة لتأكيد العلاقة الإيجابية مع الجيش، ضدّ أية محاولة للحديث عن خلاف بين الجيش والحزب. لكن الشعار في أبعاده كان أكثر من ذلك بكثير: دعوة ضمنية لتقاسم النزعات الأبوية.
هكذا، بقي النظام على حاله بعد الطائف، مجموعة مصالح وتسويات وديمقراطية يقال عنها بطرافة إنها "توافقية". والمفارقة أن كل شيء تغيّر. صار الجيش أباً. ما أراده النظام اللبناني لنفسه، أو ما قبله تحت الشروط، لم يكن جيشاً قوياً، بل صورة جيش قوي يمكن استعارتها من صعود "المكتب الثاني" في "العهد الشهابي".
"لبنان الذي لم يرد جيشاً قوياً في تاريخه، لا يجد مدنيين لرئاسته. يبدو الأمر أبوكاليبسياً، لكن الشرط مستمر في حال فهمنا تعريف النظام للجيش: الأمن أهم من الخبز"
ولعل مفردة "العهد" التي يركز عليها "العونيون"، للدلالة إلى حقبة مؤسس تيارهم، تقرع الجرس نفسه أيضاً: استعارة صور ثلاث: عون من شهاب، والجيش من الجيش، والعهد للعهد. إلا أن الجرس الحقيقي، كما تقول بعض السرديات، ليس سوى جرس الكنائس التي قُرعت حزناً في 1958.
الأمن (ليس) أهم من الخبز
العسكر الذي تتحدث عنه الأغنية الفيروزية ليس العسكر اليوم. الأبوية واحدة وتتمدد، لكن الظروف الزمنية مختلفة. ما يجمعها فقط هو الصورة. هذه الصورة تأرجحت في إطارها صعوداً وهبوطاً. أحياناً قفزت من الإطار، وصارت أكثر من صورة. لكن "صورة العسكر" في لبنان، استلزمت بناءً يتجاوز هيمنة العائلة على المجتمع، وهيمنة الأب على العائلة.
في عيد الجيش، عام 1996، قال الرئيس السابق الياس الهراوي: "الأمن أهم من الخبز". ولأنه قال ذلك، فإنه وفّر الكثير من الجهد على الباحثين عن العلاقة بين الأمرين. وفعلاً، خلفه قائد الجيش إميل لحود. وخلف لحود قائد آخر للجيش هو ميشال سليمان. وبلغ الأمر الذروة عندما عاد ميشال عون، قائد الجيش الأسبق، من منفاه إلى رئاسة الجمهورية مروراً بالبرلمان.
البلاد التي لم ترد جيشاً قوياً في تاريخها، لا تجد مدنيين لرئاستها. يبدو الأمر أبوكاليبسياً، لكن الشرط مستمر في حال فهمنا تعريف النظام للجيش: الأمن أهم من الخبز. وإن كنا نعرف أحوال الاقتصاد اليوم، كدليل إلى المعادلة، فإن الأمن الذي تحدث عنه الهراوي، كان أمن النظام، بما يضمن مصالح المهيمنين عليه، وليس أمن اللبنانيين.
بعد الحرب بقليل، كما حدث قبلها بقليل، كانت هناك ضرورة لاختراع "مجتمع" جديد، واستحداث "أب" لهذا المجتمع. وكانت العملية سياسية بامتياز. لكن في جوانبها الاجتماعية، من غير قصد، على الأرجح، كانت تستلهم وجهة نظر آلان تورين عن نهاية المجتمع، وتعمل عكسها. بالدرجة ذاتها، كانت تخلق أباً جديداً، بدلاً من قتل الأب. لطالما أراد "صناع" النظام الجديد في لبنان، على اختلاف مصالحهم، أباً جديداً، لمجتمع جديد. بالنسبة إلى هؤلاء، ولعدة أسباب، كان الأب ضرورياً أكثر من المجتمع نفسه، لأنه كان يُعَدّ لحماية نظام، وليس لحماية مجتمع.
عملياً، لم تكن هناك فوارق كبيرة بين "خدمة العلم"، أي الخدمة الإلزامية في الجيش، والتي ألغيت في لبنان عام 2005، وبين أقصى درجات التطرف في مديح الجيش. فهذه العواطف الفائضة أدت مهمتها الرئيسية وهي صرف النقاش عن وجهته الحقيقية، وهي وظيفة الجيش، وليس عقيدة الجيش، كما تُسمى في الإعلام، باللغة التي يحبّها الجيش عن نفسه، وليس باللغة التي يجب أن يتحدث عنها الإعلام عن الجيش.
"لطالما أراد ‘صنّاع’ النظام الجديد في لبنان، على اختلاف مصالحهم، أباً جديداً، لمجتمع جديد. بالنسبة إلى هؤلاء، ولعدة أسباب، كان الأب ضرورياً أكثر من المجتمع نفسه، لأنه كان يُعَدّ لحماية نظام، وليس لحماية مجتمع"
وهذا الخلل في العلاقة بين وسائل الاتصال، ورهبتها من المؤسسة العسكرية ومن العسكر، أكثر تعقيداً مما يبدو. إلا أن هناك سهولة، للإنصاف، في فهم محبة الكثيرين للجيش، ممن لا ينتبهون إلى مخاطر الهرمية ويفترضونه بديلاً وطنياً جامعاً عن ميليشيات الحرب الأهلية. ذلك رغم أن أجزاء وافرة من الميليشيات هذه دُمجت بالجيش بعد الحرب.
الحلّ ليس عسكرياً
ليس الجيش اللبناني جيشاً عربياً تقليدياً في خدمة النظام، هناك هوامش "ليبرالية" داخل النظام ما زالت تسمح بالحديث عنه. وهذا جزء من صورته. وقد يحبّها العسكر، وقد لا يحبّونها. لكن هذا ما يقوله الناس. فهو ليس مثل جيش البعث السوري أو مثل الجيش المصري. إلى ذلك، فإنه محاط بهالة شعبية تقوم على عدة أعمدة، بسبب العمل الطويل والدؤوب على صناعة صورة "محايدة" له، في بلد اعتقد أهله أن أخطر ما فيه هو الانقسام، كتسليم عنيد منهم بأن هذا الانقسام نهائي. وهذا ما يفسر غياب أي نقاش جدي عن الصراع الطبقي منذ تحول اليسار اللبناني إلى ذاكرة.
أحد هذه الأعمدة هو محبة الناس لصورة الجيش النقيضة لصورة الميليشيات في مخيّلتهم. ومنها أيضاً تعاطفهم مع الموقع الطبقي الذي ينتمي إليه جنود الجيش، حتى ما في لحظات المواجهة المباشرة مع الجيش، كمتظاهرين ومنتفضين، وإلى ما بعد لحظة الاستلاب، ومنها تعاطف مع أنفسهم، كونهم مثل الجيش، يبحثون عن حلول وعن تنظيم لعلاقة أفضل بينهم وبين شيء اسمه "المجتمع".
عندما نقول صورة فهذا ليس تقييماً. هذا ما يتذكره الناس. قد يتذكرون الجيش في السابع من أيار/ مايو 2008، وهو يراقب قتال الميليشيات على الأزقة، ثم يأتي قائده رئيساً للجمهورية بعد ذلك. وقد يتذكرونه عندما يُزَجّ به في حي الشراونة البعلبكي، ليقاتل الفقراء. وقد يتذكرونه في نهر البارد، أثناء اقتحام مخيّم للاجئين.
لقد أراد النظام للجيش أن يكون أداة دفاعية، لكن ليس عن البلاد، إنما عن صورة النظام. فالنظام هو الذي حوّل بعلبك والشمال والأطراف إلى أحزمة فقر، قابلة للانفجار، وليس الجيش. الحل ليس عسكرياً، بل هو اقتصادي واجتماعي. الأمر نفسه في المخيّمات، التي تُصوّر كعدو للجيش. وهي عدوة للفقر والمهانة، مثل الجيش. والحل ليس عسكرياً، ولن يكون كذلك في حياته.
عام 1959، احتاج الجيش 800 عنصراً، فترشح 500 فقط. اليوم، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، قد يكفي الإعلان عن الحاجة إلى 800 متطوع، ليترشح 8000. وهذه طبعاً افتراضات، ولكن هذا ما يقوله الناس الذين يعرفون صعوبة البحث عن وظائف. والحديث كله كان عن الصورة. وليس مهماً ما هي الصورة فعلاً، بقدر الزاوية التي ينظر منها الناس، أو الصورة كما هي فعلاً، لكن بعد النظر إليها من أكثر من زاوية. لقد تغيّرت صورة الجيش فعلاً. صار أباً بكامل شروط الأبوية، تماماً مثل والد فيروز الذي امتدحته الأغنية قبل عقود طويلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.