منذ سنوات، وفي كل يوم من أيام رمضان، تجد كلثوم، ربة منزل (47 سنة)، من الدار البيضاء، نفسها مضطرة لتحضير وجبة غذاء لابنها سرّاً، لا تعلم بقية الأسرة شيئاً عن هذا الأمر.
تقول كلثوم: "لا يمكنني أن أرى ابني يتحمل الجوع والعطش، لذا أحرص يومياً على تحضير وجبة غذاء سراً عن إخوته ووالده، أحملها إلى غرفة موجودة على سطح البيت ليتناولها دون أن يراه أحد".
تشعر كلثوم بضيق بالغ من إجبار الأمهات، من جيرانها وعائلتها، أبناءهن على الصيام، وتسعى لأن تؤدي دوراً في "التخفيف عن معاناة المفطرين".
تقول كلثوم لرصيف22: "لا أريد أن تكون عائلتي من العائلات التي لا تتقبّل اختلاف وحرية أبنائها في اختيار المعتقد الذي يريدونه، أريد أن أكون تلك الأم التي تترك أبناءها يعيشون الحياة كما اختاروها، وليس كما اختارها لهم المجتمع، أحاول دائماً وفي كل شهر رمضان أن أخفّف شيئاً من الضغط الرهيب الذي يعيشه المفطرون".
"أخاف أن يعرف زوجي"
تعيش كلثوم كل رمضان قلقاً بالغاً أن يفتضح أمر ابنها بين أفراد الأسرة، وتتساءل مع نفسها: كيف سيبرر لهم موقفه، وهل سيتقبلونه؟ حتى لو تقبلوه، ماذا عن المجتمع الذي لديه "حساسية من المفطرين"، وماذا عن القانون الذي يعاقب على ذلك؟
"بعد محاولات كثيرة لإقناع ابني منذ سنوات مراهقته بالالتزام بالصيام، وحثّه على أن غالبية المغاربة يرفضون قضية الإفطار في رمضان، إلا أنه ظل متشبثاً بأفكاره، وحالي هذا أتقاسمه مع العديد من الأمهات اللواتي يحاولن التستر على أبنائهن وبناتهن من قسوة المجتمع، لمجرد أنهم لا يصومون رمضان"، تقول كلثوم.
"أريد أن أكون تلك الأم التي تترك أبناءها يعيشون الحياة كما اختاروها، وليس كما اختارها لهم المجتمع، أحاول دائماً وفي كل شهر رمضان أن أخفّف شيئاً من الضغط الرهيب الذي يعيشه المفطرون"
وتشدد كلثوم على أن ما يحتاجه المجتمع المغربي اليوم هو "التربية على التسامح مع الآخر المختلف"، وتربية الأجيال الصاعدة على أن "الممارسة الدينية هي ممارسة اختيارية، وأن الإيمان لا يمكن أن يزعزعه شخص فاطر أو لا يمارس نفس الشعيرة".
"أحمي ابني"
تتعمد رقية أن تترك بقايا الطعام موضوعاً على طاولة المطبخ لابنها الذي قرر منذ سنوات ألا يصوم رمضان.
تقول رقية (45 سنة)، ربة منزل من الرباط، لرصيف22: "منذ خمس سنوات لاحظت أن ابني لا يصوم رمضان، لم أفاتحه في الموضوع ولم أسأله عن الأسباب، باعتباره لم يفاتحني هو، ومنذ ذلك الحين وأنا أترك له بقايا الطعام حتى يجد ما يأكله دون أن أجعله ينتبه أنني أعلم بأمره، حتى لا أضعه في موقف محرج، وأفضل أن يبقى الأمر على ما هو عليه، لأنني أنا شخصياً لا أعرف ماذا أقول له لو فاتحني في الموضوع، وكيف سأناقشه، وكيف سأقنعه وبماذا سيقنعني؟ ما يهمني حالياً هو حماية نفسيته ومعنوياته".
وتعتبر رقية أن هذا ما تفعله غيرها من الأمهات، وهو دورهن الاجتماعي حيال أبنائهن، تقول: "هدفنا نحن الأمهات في هذا الموقف هو أن نحمي أبناءنا من قسوة المجتمع الذي لا يرحم، فأنا إذ أغضّ الطرف وأعتبر المسألة مسألة اختيار شخصي لا علاقة له بالتربية أو الأخلاق، فالمجتمع يعتبرها فضيحة ولعنة، وكثير من الناس تجدهم يلعنون من يفطر في رمضان، ويرددون كلمة: لعنه الله".
تحكي رقية: "وضع ابني دائماً يذكرني بمشهد رمضاني لا يمكنني أن أنساه أبداً، حينها كنت مراهقة في طريقي إلى المدرسة، عندما شاهدت خمسة شباب يمسكون بأحدهم وينهالون عليه بالضرب والركل حتى أوقعوه أرضاً، وآخرون ينهالون عليه باللعن والسباب، لكونهم وجدوه يأكل في نهار رمضان، إلى أن جاء رجل وأبعدهم عنه، وقال لهم إنه مريض نفسي. في البداية ظننته سارقاً، حينها تساءلت مع نفسي: هل لأنه فاطر فقط فعلوا ما فعلوه به، وماذا سيحصل لو تعرض كل فاطر لمثل هذه الملاحقة، أكيد ستسيل دماء وستزهق أرواح، مع العلم أن ديننا لا يشجع على التعامل بمثل هذه القسوة، وهذا هو المشهد الذي أخاف أن يتكرر مع ابني لو كُشف أمره".
المشهد الذي روته رقية يعيد إلى الأذهان الاعتداء الذي تعرّضت له إيمان، من قبل سائق حافلة للنقل، العام الماضي، بالسب والضرب واتهامها بالإلحاد، بدعوى إفطارها لرمضان علناً داخل الحافلة.
وقبلها، شهدت مدينة تطوان شمال المغرب، حادثة اعتداء لفظي وجسدي على فتاة ألمانية مغربية بعمر 19سنة، بعدما هاجمها شبان غاضبون أثناء شربها كأس عصير برتقال في نهار رمضان، صيف 2017.
"صدمتني ابنتي"
قررت عائشة أن تصوم رمضان هذا العام في بيت ابنتها التي تعمل مصممة أزياء، إذ لم تكن تتوقع الأم في يوم من الأيام أن ابنتها لا تصوم رمضان.
تقول عائشة، في عقدها الخامس، لرصيف22: "صدمت بحقيقة أن ابنتي التي نشأت في بيئة محافظة، قررت التمرد على معتقد الآباء والأجداد والمحيط، واليوم تذكرت عندما كانت في مرحلة الجامعة، وكانت تسكن معنا في بيت واحد، كنت كلما أجدها تأكل في رمضان تتظاهر أنها في فترة حيض".
"هدفنا نحن الأمهات في هذا الموقف هو أن نحمي أبناءنا من قسوة المجتمع الذي لا يرحم"
تختلف عائشة مع ابنتها، فهي ترى بضرورة الصيام في شهر رمضان، ولا تشجعها على الإفطار، تقول: "لكن في النهاية أحمد الله أنها مستقلة في السكن ومستقلة مادياً، ما قد يساعدها على ممارسة حريتها الفردية دون إشكال يذكر، لأن المجتمع لا يرحم، ويربط هذه الأمور بانحلال أخلاقي وقلة تربية، ما يجعل المفطر داخل المجتمع منبوذاً وغير مرحب به".
ويذكر أن القانون المغربي يجرّم الإفطار علناً في رمضان، إذ تنصّ المادة 222 من القانون الجنائي، على السجن بين شهر وستة أشهر، وغرامة مالية بين 12 درهماً و120 درهماً (ما يعادل 1.4 دولار و14.1 دولار)، لكل من يجاهر بالإفطار في رمضان.
ومنذ سنة 2009 والمغرب يشهد جدلاً واسعاً حول المجاهرة بالأكل في رمضان، وذلك بعدما خرجت "الحركة البديلة من أجل الحريات الفردية"، المعروفة باسم حركة "مالي"، للمطالبة بإلغاء الفصل 222 من القانون الجنائي، والذي يعاقب على المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان في الأماكن العمومية، دون عذر شرعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين