العَيْنُ في المعجم الجامع هي النفيس من كل شيء والعين نبعٌ يجري والعقلُ عينُ الحكمة.
ترد كلمة العين ثلاثاً وستين مرّة في القرآن، باصرةً بصيرةً جاريةً راعية. وترد المفاهيم المرتبطة بها في غير موضع. نقرأ أن التبصّر هو الحجّة الواضحة والمعرفة اليقين، والرؤية هي الإدراك بالعين أو بالتفكّر والتعقّل، والنظر هو المشاهدة بالعين وهو الانتظار والحيْرة.
في الآية 198 من سورة الأعراف تُذكر الرؤية والنظر والبصر متجاورين، {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}.
والأعمى من غُطّي على بصره، وليس بالضرورة من فقد عينيه. نتذكر أعمى المُتنبي، الذي يُحيلُ، كاسم الشاعر، إلى أصلٍ ديني. فالأعمى هو الكافر الذي يُنكر كلام الله، فيكون أعمى حين لا يرى الآيات أو يصير أعمى يوم القيامة عِقاباً. والمؤمن، حتى حين يفقد عينه، يرى. يقول مجاهد بن جبر: "لكل إنسان أربع أعين. عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميتْ عينا رأسه وأبصرتْ عينا قلبه فلن يضرّهُ عماه شيئاً، وإن أبصرتْ عينا رأسه وعُميتْ عينا قلبه فلن ينفعه نظره شيئاً". أعمى المتنبي واحدٌ من هؤلاء الذين لا يضرّهم عماهم طالما يقدرون من خلاله النظر إلى أدبه.
الكتابة على العين
تحضرُ الأميرة "آتيه" في الجدل الطويل في بلاط الخاقان حولَ دينِ الخزر، في الصفحة الأولى من الكتاب الأحمر من موسوعة الخزر، يوردُ ميلوراد بافيتش التالي عن الأميرة: "على كُلِّ جفنٍ يُكتب في الليل حرفٌ، كالحروف التي تُرسم على جفون الخيل قبل السباق. الأحرفُ مأخوذةٌ من الأبجدية القاتلة للخزر، حيث يموتُ من يقرأ الحروف لحظة القراءة. عُميانٌ من يخطّون الحروف على جفونها كل ليلة، وفي الصباح قبل دخولها للاستحمام تمسح الوصيفاتُ الحروفَ بعيونٍ مُغمضة. هكذا كانتْ الأميرة محميةً من الأعداء أثناء النوم. والنومُ هو الوقتُ الذي يكون فيه الإنسان -حسب اعتقاد الخزر- أضعف ما يكون". على مائدة الأميرة كانت دوماً سبعة أنواعٍ من الملح، تغمسُ إصبعها في واحدٍ منها قبل كل لقمة، وللأميرة أيضاً سبعة وجوهٍ كانت تُبدلهم كل صباح كما تُبدلُ أنواع الملح الذي تستعمله، ثم تستيقظُ كل صباح بوجهٍ جديد فلا تعرفُ نفسها.
تختلف القصص عن موت الأميرة، إن لم تكن موجودةً بيننا حتى الآن. واحدةٌ من الروايات تقول إنها ماتت حين صنع الخدم لتسليتها مرآتين من الملح، لا فرق في الشكل بينهما، واحدةً منهما تعرض المستقبل والأخرى تعيد الماضي. تموتُ الأميرة، حسبَ الرواية هذه، حين تنظرُ بين رمشتين في المرايا فتقرأ الحروف القاتلة على جفونها.
في العربيّة يُقال إن الفعل الحسن ينبغي أن يُكتب على العيون بماء الذهب. ويقال أيضاً إن الأسرار تُكتب بين العيون. في إشارة إلى عين الله واختلافها عن عين الدجّال يروي البخاري عن الرسول قوله: "إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور وإن المسيح الدجّال أعورُ العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية". ثم يُكملُ عن الدجّال: "وإنه مكتوبٌ بين عينيه ’كافر’ يقرؤه كُلُّ مؤمن كاتب أو غير كاتب".
في حكايات ألف ليلة وليلة يتكررُ الاستهلال المؤلم: "حكايةٌ عجيبة لو كُتبتْ بالإبر على آماقِ البصر لكانت عبرةً لمن اعتبر". واجبٌ هُنا أن تُخاط الحكاية على طرف العين كي تظلَّ درساً لا يُنسى...
في حكايات ألف ليلة وليلة يتكررُ الاستهلال المؤلم: "حكايةٌ عجيبة لو كُتبتْ بالإبر على آماقِ البصر لكانت عبرةً لمن اعتبر". واجبٌ هُنا أن تُخاط الحكاية على طرف العين كي تظلَّ درساً لا يُنسى. يتوسعُ عبد الفتاح كيليطو في "العين والإبرة" في الحديث عن هذا الاستهلال، موضحاً أن الإحالة إلى الخياطة ليست مدعمة بالإبرة فقط بل بفعل "كتب" الذي يعني، في الوقت ذاته، الكتابة والخياطة. يتدخل أنطوان جالان، الجامعُ الأول لليالي، في الترجمة الفرنسية ليهذبها، مبتعداً عن تسمية أعضاء الجسد وأوجاعه فيختار أن يترجم الجملة في حكاية "التفاحات الثلاث" على الشكل التالي: "لو جرى تدوينُ كُلِّ ما حدث لكانتْ الحكاية مفيدةً لكلِّ الناس".
عين المعرفة
على طريق الحكمة يفقد السائرون عيناً أو اثنتين ثم يكملون راضين بالتضحية التي كانت تشغلهم بالنظر عن المعرفة.
نتخيل بورخيس في عماه جالساً بين كُتبه وقبله المعرّي الذي يفقد بصره في الرابعة، فيكبرُ ويرى أن النهار يتعثر كلما خرج الأعمى، فيصير "رهين المحبسين"، متبحراً في الشعر والعلم، تاركاً سرائر الناس مُغيبة يعلم بها علّام الغيوب، فيرى الجنة في عتمته ويكتبُ وصفاً لشجرها وحال الشعراء فيها.
عمى المعرفةِ في قصة ابن الدهان البغدادي ليست مجازاً. كان ابن الدهان عالماً باللغة والأدب وُلدَ ونشأ ببغداد، وفيها ترك كتبه منتقلاً إلى الموصل. طغى السيل على كتبه في بغداد، فأرسل من يأتيه بها. حُمِلتْ الكتب إليه وقد أصابها الماء، فأُشير عليه أن يبخرها ببخور، فاحترق قسم كبير منها أعمى دخانه عينيه.
في مواضع أخرى تكون المعرفة مؤلمة ولا تستحقُ تضحيةً بل عقاباً، فالجاهلُ سعيدٌ في جهله يتألم حينَ يُدرك أن فضوله قاده إلى مشقّةٍ لا يستطيع الرجوع منها. بعد أن يسمع الحكاية يغرزُ أوديب الدبابيس في عيونه ويُكمل مَعمياً...
في ميثولوجيا الشمال يختفي اثنان من إخوة أودين، فارسُ الحصان بالقوائم الستة وصاحبُ الذئبين والغُرابين الحائمين في لُعبة العروش، الأعظمُ والأقدمُ بين آلهة الأسر النوردية، إله الحرب والشعر والموتى. حين يعجزُ عن العثور عليهما يَطلبُ من ميمر الحارس، أن يشرب من ماء البئر، نبعُ الحكمة الموجود تحت واحدٍ من الجذور الثلاثة لشجرة العالم، ليعرف مكان أخويه. مُقابل شفةٍ من الماء يطلب ميمر عين أودين اليُمنى، يضحى أودين بعينه، عين البصر، مُلقياً بها في البئر ليقدر على الرؤية. بعد أن شرب من البئر ظلَّ مُعلقاً على الشجرة لتسع ليال وتسعة أيام، اكتسب المعرفة كلها بعدها. صار يرى كل شيء بعد أن فقد عينه. عرفَ ما حدث مع أخويه ولم يخبر أحداً، ومكنّته المعرفة السحريّة من علاج المرضى وإيقاف العواصف ودحر الأعداء، ومكنته أيضاً من جعل النساء يقعون في الحب من نظرةٍ واحدة.
في مواضع أخرى تكون المعرفة مؤلمة ولا تستحقُ تضحيةً بل عقاباً، فالجاهلُ سعيدٌ في جهله يتألم حينَ يُدرك أن فضوله قاده إلى مشقّةٍ لا يستطيع الرجوع منها. بعد أن يسمع الحكاية يغرزُ أوديب الدبابيس في عيونه ويُكمل مَعمياً.
الكتابة بالعين
للعين لُغةٌ محكية نتحدثها وتتحدثُ عنا، ولغاتٌ أُخرى يُكتبُ بها. نقول في العربيّة إن بعض الكلام ينبغي أن يُكتب بماء العين لجماله أو بلاغته أو علو قيمته، ونعرفُ قصة جان دومينيك بوبي الذي تعرض في ديسمبر 1995 لجلطةٍ دماغية استيقظَ منها بعد عشرين يوماً مُصاباً بالشلل، في حالة تسمى بمتلازمة "المنحبس"، حيث يكون المريض في حالة وعي كامل لكنه غير قادر على التحكم بعضلاته الإرادية عدا عضلات العينين. في حالة بوبي كان جفن عينه اليسرى هو العضلة الوحيدة التي يستطيع التحكم بها. استطاع بوبي عن طريق جفنه الإيسر، مع مساعدته التي تتلو عليه الحروف، تأليف كتاب "بدلة الغوص والفراشة" بعد آلاف وآلاف من الرمشات.
حديث العين التي تقرأُ وتكتب، تقتل وتحيي، طويل في العربية وغيرها. نتذكر عين حورس الحامية وعلم الحساب الذي استخدمه المصريون انطلاقاً منها، وعين العناية الإلهية على ورقة الدولار ثم نتذكر آرجوس بعيونه الألف التي لا تنام، حارسُ البقرة البيضاء المُقيدة إلى شجرة الزيتون، يقتله هرمز الرسول، وتحفظُ هيرا عيونه إلى الأبد في ذيل الطاووس.
أذكرُ أخيراً بيتاً "أراه" من أبلغ ما قال العرب في العيون، قاله ابن جني في غلامٍ له أعور بهي الطلعة: له عينٌ أصابتْ كُلَّ عينٍ/ وعينٌ قد أصابتها العيونُ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع