انتظرت ريهام دخول والدها عليها في صباح يوم ربيعي من شهر يونيو في عام 2017، ليستكملا حوارا حول ملابسها، وأفكارها، التي لم تعد تعجبه، ولكن اقتحم رجلان غريبان عليها الغرفة.
ريهام بحسب روايتها لرصيف22، صرخت، بكت، قيدوها، حقنوها وحملوها بمعاونة أشقائها ووالدها، وخرجت أمام الجيران بحالتها تلك إلى مصحة للعلاج النفسي.
"أمي أكلت جسدي وبصقته"
كانت البداية لريهام، ابنة العائلة المتدينة والطبقة المتوسطة، في عام 2015، حيث تغيَّرت أفكارها، تقول: "واجهت أهلي أن أفكاري اختلفت، وخلعت الحجاب، وحدث صدام كبير بيننا، وفي أحد الأيام تشاجرتُ مع أمي، وأكلت من جسمي".
تضيف ريهام بصوت مبحوح: "أمي أكلت من لحم إيدي وكتفي وصوابعي، دخل لحمي في فمها، ثم بصقته على الأرض، كنت بصرخ بشدة وحاول إخواتي تخليصي منها، ونجحوا".
وفي أحد الأيام كانت على موعد عاطفي لم يعجب العائلة، تحكي ريهام: "دخلت آخد شاور، وخرجت بالبرنص، لقيتهم واخدين اللابتوب والموبايل وشايلين المراية، اتخانقنا وفجأة لقيت نفسي بتربط عريانة بحبل تخين، غمضت عيني وحطيت رأسي على الكنبة ولزقت وشي فيها، مش عاوزة أشوفهم ولا أسمعهم ولا أتكلم، كنت بصرخ بس، بعدها دخلوني أوضتي ولبسوني وسابوني يومين من غير أكل".
قرأت ريهام "تذكرة" دخولها للمصحة النفسية، والتي عبأها والدها، وكتب فيها: "ماسونية وباعمل حاجات غريبة وبجرح نفسي في البيت، مع إن العلامات الوحيدة على جسمي هي اللي أمي عملتها"
طلبت منها خالتها أن ترتدي ملابسها حتى تتحدث مع والدها، وبعد دقائق وجدت اثنين من الرجال خدروها، وأخذوها عنوة، فتحت عينها في صباح اليوم التالي لتجد نفسها في المصحّة، حافية وترتدي الفستان ذاته منذ أمس، تقول: "الأيام أصبحت ثقيلة ولا تمرّ ولا أحد يجيب عن أسئلتي".
قرأت ريهام "تذكرة" دخولها والتي عبأها والدها وكتب فيها: "ماسونية وباعمل حاجات غريبة وبجرح نفسي في البيت، مع إن العلامات الوحيدة على جسمي هي اللي أمي عملتها".
مكثت ريهام عاماً داخل مصحة "ر" في القاهرة، لم تخضع خلاله سوى لتقييم واحد فقط، بحسب روايتها، وكان يقال لها إنها ستظل به حتى تمام شفائها من مرضها، الذي صُنّف بـ: "اضطرابات في الشخصية".
رغم مخالفة ذلك للقانون، إذ يعد جريمة "احتجاز" قد تصل عقوبتها إلى السجن بحسب المحامي رضا الدنبوقي، مدير مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، في تعليق لرصيف22، إلا أن ريهام أكدت أن أحداً لم يواجهها بأي مرض، بل بقيت في أشد الغرف انعزالاً، وهي للمريضات "الأكثر خطورة"، غرفة بها حديد على النوافذ، وممنوع الدخول، الخروج، الاختلاط بالغير، استعمال الهاتف أو وجود ورقة، قلم أو كتاب.
"شوهوا وجهي ونفسي"
"من أسرة بسيطة فقيرة"، هكذا وصفت منار اسم مستعار (24 عاماً)، طالبة في كلية الآداب، حالة أسرتها من مدينة المنصورة، التي تبعد عن العاصمة القاهرة حوالي ساعة ونصف بالسيارة، تقول منار: "كنت بتعرّض لمعاملة سيئة من صغري، كنت بصرخ كتير من كتر الضرب، وقتها فكروا إني مجنونة، أخدوني لدكتور نفساني، وأخدت أدوية كانت بتسببلي تشنجات كتيرة وحالة إعياء وخمول."
منار، فتاة بيضاء، هادئة الملامح، تحب الغناء والموسيقى. كانت في الصف السادس الابتدائي حينما أُرغمت على ارتداء الحجاب، وفي الثانوية قررت نزعه، إلا أنها تلقت إهانات وضرب ومعاملة سيئة من أهلها.
"شوه وجهي بأظافره بعد خلعي للحجاب حتى لا ينظر إلي أحد".
في مراهقتها أعجبت بشاب، وحينما علم والدها جرّح وجهها بأظافره، وبحسب قولها: "شوه لي وجهي بضوافره عشان محدش يبصلي".
"كل همهم الناس مش ربنا"، ينهرها أهلها أنها ستجلب العار للعائلة لأنها بدون حجاب، رغم أن العائلة ليست متدينة، تقول منار: "يوم 14 فبراير الماضي، اتخانقت مع ماما لأنها حرقت هدومي عشان شايفاها ضيقة وعريانة، انفعلت بشدة وهددتهم بحرق هدومهم عشان يحسوا باللي حسيت بيه".
ذهبت منار لتنام بغرفتها وفي اليوم التالي، فتحت عينها ووجدت أمامها اثنين من الرجال، وبجوارهم طبيب في يده حقنة: "لم أقاوم، ادوهاني وكنت بتحرك وواعية بس كأني في حلم"، في اليوم التالي وجدت نفسها في غرفة ضيقة ذات شبابيك صغيرة ومرتفعة، تقول: "روحت مصحة (ر) في المنصورة، وأول حاجة طلبتها أنام، المشرفة قالتلي: مفيش نوم، النوم هنا بمواعيد".
"ممنوع الخروج، ممنوع نشوف الشمس، باب العنبر لما بيتفتح كنت بجري عليه".
تصف منار الحياة داخل المصحة "ر" في المنصورة قائلة: "ممنوع الخروج، ممنوع نشوف الشمس، باب العنبر لما بيتفتح كنت بجري عليه مش عشان أهرب والله، عشان أشم هوا، والمشرفة تدفعني بإيديها، وتوقعني على الأرض، ماكنتش بعيط، اللي بتعيط أو ترفض أوامر المشرفات بيعاقبوها إنها تغسل وتكنس وتمسح الحمامات، كانت بتاخد جلسات كهرباء أو حقنة مخدرة، أوضتي كان فيها حالتين إدمان وحالتين نفسي، كنت بصحى ألاقي اللي بتصرخ جمبي، واللي تتشنج كنت بحط المخدة فوق راسي وأفضل نايمة".
"أطباء يعملون بأهوائهم"
يعلق المحامي رضا الدنبوقي، لرصيف22، أنه بحسب مبادئ الأمم المتحدة لتحسين العناية بالصحة العقلية، لا يجوز أن يكون النزاع الأسري أو المهني، أو عدم الامتثال للقيم أو المعتقدات الدينية، عاملاً مقرراً في تشخيص المرض العقلي، لكن بعض الأطباء يخالفون ذلك، ويقيمون المرضى وفقاً لأهوائهم، ولأننا في مجتمع مليء بالازدواجية والتناقض، فإن الأطباء جزء منه، وتقييمهم تجاه الفتيات يكون نابعاً من ذلك، وقد لا يعطي التقييم نفسه للذكر، إذا قرر ألا يكون متديناً أو أقام علاقات جنسية.
منار أكدت أن الطبيب لم يجلس معها سوى عند دخولها وخروجها، وقال في المرة الأولى: "أنتي متبرجة في لبسك وعنيدة وعاوزة تولعي فيهم وتموتيهم"، وعقبت قائلة: "أنا لو كنت عاوزة أعمل حاجة، كنت ولعتلهم في البيت ولا ولعت فيهم من زمان".
"أنتي متبرجة في لبسك، وعنيدة، وعاوزة تولعي فيهم، وتموتيهم".
دكتور وائل فؤاد، عضو المجلس القومي للصحة النفسية والمدير السابق لمستشفى الخانكة، أكد لرصيف22 أن المجلس يرسل حملات مراقبة وتفتيش على كل المصحات الحكومية والخاصة، ويلتقي المرضى، ويقرأ سجلات كل مريض أو عينة عشوائية، ثم يناقش مدير المصحة.
خرجت منار من المصحة بعدما وعدت عائلتها بتنفيذ كلامهم: "يوم ما رجعت بكيت يومين متواصلين، لكن من ساعتها وانا تعبانة على طول وخايفة، وكل ما الباب يخبط، أحس أنه في ناس جاية تاخدني"، هكذا تقول الشابة العشرينية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فكلما عاندت منار عائلتها أو اعترضت على طريقة التعامل معها هددوها بالمصحة، وتصف الأمر بـ"الكابوس".
"دخلت المصحة مرتين"
"أنا دخلت المصحة مرتين مجبرة بسبب هويتي الجنسية"، تقول ملك الكاشف، وهي ناشطة في حقوق العابرين جنسياً في مصر، لم يكن الطريق سهلاً أمامها لتصبح الآن "ملك"، كانت في جسد غير جسدها، هكذا كانت متأكدة، "كنت بلبس لبس بنات وأحط مكياج والناس ابتدت تتكلم، وقتها قرروا إنهم يدخلوني مصحة نفسية، وفي يوم ضربني أخويا وبابا وابن خالتي، وخدوني المصحة".
بدون موافقتها لمرتين، مكثت في الأولى داخل مصحة "ج" بالقاهرة 20 يوماً، وفي الثانية رغم معرفتها قبلها بيوم، لكنها أيضا أُجبرت لتمكث 4 أيام.
"بعض الأهالي يتعاملون مع بناتهم أنهم "ملكية خاصة" ويستخدمون المستشفيات النفسية ضدهن حينما يكون سلوكهن غير متوافق مع المجتمع، كأن يريدن الاستقلال أو خلع الحجاب"
تقول ملك (20 عاماً) بعد سنوات من هذه التجربة: "دخلت المصحة وسألني الدكتور عن صحة كلام أهلي، قولتله آه لأني حاسة إني بنت ومش مقتنعة إني راجل، وفي أحد الزيارات لحد من العائلة طلبت منها تقنعهم إني أخرج، وإني مش هعمل الحاجات اللي بتضايقهم، وخرجت".
أثناء وجود ملك في المصحة، كانت تتناول عقاقير بحسب قولها: "كانت بتخليني أقول حاضر وطيب ونعم"، وفي المرة الثانية قضت مدة قصيرة، أنقذها طبيب ظنت عائلتها أنه مجنون، تحكي ملك لرصيف22: "جاء دكتور من المصحة وقال: العبور الجنسي ليس مرض يستحق دخولي مصحة نفسية، وأنه بيتابع حالات زي دي، وقتها قالوا عنه دكتور مجنون وأخدوني".
"آباء يكذبون وأطباء يتواطؤون"
أشارت دكتورة ألفت علام، استشاري العلاج النفسي، إلى أن بعض الأهالي يتعاملون مع بناتهم باعتبارهن "ملكية خاصة"، ويستخدمون المستشفيات النفسية ضدهن حينما يكون سلوكهن غير متوافق مع المجتمع، كأن يريدن الاستقلال أو خلع الحجاب، فيتعاملون مع الأمر على أنه يستوجب المصحّة النفسية.
وأضافت علام لرصيف22: "بعض الأهالي يتواطؤون مع أطباء لهم نفس توجههم، وفي دكاترة بيقولوا للبنت إنها اللي عملت في نفسها كده ومحتاجة تتلم شوية وتتحجب"، مؤكدة أن هناك تمييزاً واضحاً بسبب النوع: "البنات أكتر من الولاد".
"في دكاترة بيقولوا للبنت إنها اللي عملت في نفسها كده ومحتاجة تتلم شوية وتتحجب"
وأكدت استشاري العلاج النفسي أن المشكلة ليست في القوانين، لكن في تطبيقها، فالمزاج والأهواء الشخصية لبعض الأطباء هي التي تحكم، ولا يستطيعون وضع فاصل بين مهنتهم وأفكارهم، وحتى لا نتهمهم وحدهم، فبعض الأهالي يعطون معلومات مغلوطة للمستشفى، مثل أن البنت تتعاطى الحشيش أو تسرقهم، حتى يتعاطف الأطباء.
واقترحت علام تكثيف التفتيش من المسؤولين عن حالات الفتيات، وأن يخصص المجلس القومي للمرأة خطاً لتلقي شكاوى من الفتيات اللاتي يتعرضن لذلك، وأن يكونوا ملجأ لها، كذلك حملات توعية للأهل بتقبل بناتهن.
أما الدكتور فؤاد، مدير الخانكة السابق، فيقول: "على هؤلاء الفتيات أن يثبتن ما حدث، سواء إساءة معاملة أو اساءة استخدام للسلطة، والتقدم بشكوى للمجلس القومي للصحة النفسية، وعلى الشاكية أن تجلب أوراقاً وتقارير تثبت صحة شكواها".
وبحسب الدنبوقي فإن هؤلاء الأطباء، في حالة ثبوت ذلك عليهم، فقد خالفوا المادة 53 من الدستور، كما خالفوا قانون رعاية المريض النفسي رقم 71 لسنة 2009، لتأديب الفتيات لمخالفة التقاليد الاجتماعية، كما خالفوا وثيقة آداب المهنة، ونصوا جميعاً على ألا يكون عدم الامتثال للقيم الأخلاقية، الاجتماعية والمعتقدات الدينية السائدة في المجتمع، عاملاً مقرراً في تشخيص المرض العقلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...