قررت شركة IBM في فرنسا عام 1955، صناعة أول حاسوب فرنسي في مشغلها Corbeil-Essonnes، حينها كان فرانسوا جيرارد، مدير قسم التسويق، يبحث عن اسم لهذا الجهاز الجديد عوضاً عن IBM 650. نظرياً، بما أن الجهاز كان مسؤولاً عن العمليات الرياضية وتبادل البيانات، فكان الاسم المنطقي للوهلة الأولى هو calculatrice بالصيغة المؤنثة، كون الموظفات أثناء الحرب العالمية الثانية كن يقمن بعمليات الحساب وتبادل المعلومات المختلفة، لكن جيرارد قرر أن يكتب إلى صديقه جاك بيريت، أستاذ الفيلولوجيا في جامعة السوربون، ليسأله عن الاسم المناسب الذي اقترحه وهو Ordinateur بصيغة المذكر، أجاب بييرت، أن الكلمة ذات أبعاد دينية وطقسية، وللخروج من ذلك، يقترح أن تكون بالصيغة المؤنثةordinatrice ، جيرارد لم يستمع إلى جواب أستاذ السوربون، وبقيت الكلمة مذكّرة.
هذه الحكاية ليست إلا واحدة من آلاف الأمثلة المرتبطة باللغة، وتحيّزها شديد الوضوح والغرابة في بعض الأحيان، وهذا ما تناقشه الكاتبة البريطانية كارولين كريادو بيريز في كتابها "نساء خفيات- فضح تحيز البيانات في عالم مصمم للرجال"، والذي تناقش فيها اختفاء البيانات المرتبطة بالنساء، كونهن لسن محط الاهتمام الأول، سواء على صعيد العمل، الصحة، التصميم أو الأنظمة الرقمية.
تشير بيريز في الكتاب إلى أن البيانات الكبرى، تلك التي تشكل التاريخ، كاذبة، هي تستثني نصف سكان الكوكب، أي النساء، ولا تأخذهم بعين الاعتبار، وتسلم بأن "الحقائق التاريخية" ليست إلا قواعد وضعت من قبل "رجال بيض" يرون كل مختلف أو نسوي أعمى بالأيديولوجيا، هوياتي، ويسعى فقط لاستعراض نفسه.
المقصود باختفاء البيانات هو إهمال الإحصائيات، حتى المعاصرة منها، للجهد والعمل النسوي، بوصفه مجانياً أو خفياً، بل أن ماركس لم يذكره إلا مرتين في حاشية في رأس المال، لكن هذا الاختفاء يحال إلى سببين، الأول مرتبط بالامتيازات التي يمتلكها الرجال والتي تجعل أسماءهم لامعة، كحالة الموسيقا الكلاسيكية التي يهيمن على أسمائها الرجال، فالأمر لا يتعلق فقط بالنوعية حسبما تقول، بل بالشروط التي أدت إلى استمرار هذه الأعمال ورواجها، وهذا يتعلق بانتشارها وعزفها في الأماكن العامة، أو دفع النقود من أجل طباعتها أحياناً، أي حتى لو كان الباب مفتوحاً للجنسين، شرط اللعب والإنتاج مرتبط بالامتياز الرجولي، أو ما يسمى "محددات الاختيار الموضوعية"، وهنا تعني موضوعية أنها تلائم الرجال، لأنهم واضعو قواعد اللعب، وهم من عرّفوا الخاسر والرابح، ما جعل أسماءهم تلمع وتشكل أنطولوجيات الموسيقا الكلاسيكية.
الغياب الثاني مرتبط بالحالة أو الوضعية، كحالة غوغل التي حبلت مديرتها التنفيذية شيرلي ساندبيرغ، ولم تكن تعلم معاناة المرأة الحامل في العمل إلا عندما حملت، واضطرت لأن تركن سيارتها في مكان أقرب إلى باب الشركة، لتخفف من ألم المشي، السؤال الذي طرحته في كتابها لاحقاً، هو أن الأمر لم يتغير إلا عندما حملت هي، في حين أن العشرات من الموظفات في الشركة عانين من الأمر، ولم يصبح "ظاهراً" في الإحصائيات المرتبطة بفعالية العمل إلا عندما عانى من المشكلة من يجلس في أعلى الهرم الوظيفي، إذ قامت غوغل بعدها بتغيير امتيازات ركن السيارات للمرأة الحامل، وذلك للتخفيف من جهدها.
درجة حرارة المكاتب في مساحات العمل في الولايات المتحدة مضبوطة منذ الستينيات على أساس استقلاب رجل بعمر الأربعين، ووزنه سبعين كيلو غراماً، هذه الصيغة تتجاهل معدل استقلاب النساء المرتفع والذي قد يصل إلى 35%، ما يعني أن المكاتب أبرد بنسبة 5 درجات محسوسة بالنسبة للنساء... من أشكال التحيز ضد النساء التي لا ندركها
أسطورة المترياركية أو الأمومية
تشير بيريز إلى أسطورة المترياركية، الأمر الذي يبدو مستهجناً، و تقول إنه بالرغم من التغير في القوانين وأنظمة التمثيل وأعداد النساء في المساحات المختلفة، إلا أن الأمر أعقد، كون قواعد اللعب نفسها موضوعة لأجل امتيازات الذكور، وتضرب مثال البحث الأكاديمي، بالرغم من ارتفاع أعداد الباحثات ومشاركتهن، إلا أن الإدارات العليا ما زالت محصورة بالذكور، تبدو الأرقام والإحصائيات في البداية عادلة، هناك نساء بشكل متزايد في الأكاديميات، لكن ما زالت عقود التثبيت بغالبيتها للذكور البيض، وتشرح ذلك بقولها، إن التثبيت يرتبط بعدد الدراسات التي ينجزها الباحث وينشرها، وبالرغم من أن "العمى المتبادل" في عملية التقييم- أي أن الباحث والمقيم لا يعرفان بعضهما البعض- يتيح نشر أبحاث النساء دون تمييز، إلا أن المشكلة ما زالت قائمة، إذ يظهر التمييز حين نعلم أن جدية البحث وأثره المهني مرتبط بعدد المرات التي يتم فيها الاقتباس منه، وهنا نكتشف أن الأبحاث المكتوبة من قبل نساء هي الأقل اقتباساً، ما يهدد قيمة البحث نفسه، بناء على آراء وخيارات اللاعبين الآخرين في المجال الأكاديمي، وهنا تظهر أسطورة المترياركية، فالأمر يتجاوز موضوع الكوتا والتمثيل، ويعود إلى الهيمنة القياسية للذكورة بوصفها الطبيعية والمنطقية.
بالرغم من ارتفاع أعداد الباحثات و مشاركتهن، إلا أن الإدارات العليّا ما زالت حصراً على الذكور، تبدو الأرقام والإحصائيات في البداية عادلة، هناك نساء بشكل مُتزايد في الأكاديميا، لكن ما زالت عقود التثبيت بغالبيتها للذكور... "نساء خفيات- فضح تحيز البيانات في عالم مُصمم للرجال"
التمثيل الرقمي من الإيموجي إلى ويكيبيديا
نقرأ في الكتاب عن نظام التشفير العالمي للنصوص والرموز، والذي نظرياً لا يمتلك تجنيساً، أي أن الكود المكتوب للإيموجي الخاص بشخص يركض مثلاً يُكتب كالتالي "runner"، دون تحيز، وتقوم بعدها كل شركة باختيار الرمز المناسب لها، لكن عام 2016، اكتشفت الشركة إشكالية، إذ أن المخدمين، كفايسبوك وغوغل وأندرويد، حين استخدام هذا الكود يضعون تصاميمها الخاصة، والغالبية كانت رموزاً تحيل إلى رجال، فقرر القائمون على نظام التشفير العالمي تغيير ذلك، لتصبح "running man" و"running woman" وذلك للإشارة إلى الاختلاف وإتاحة الفرصة لظهور الأشكال المؤنثة أثناء التواصل، والأمر ينسحب على كل المهن والصفات لا فقط العدائين.
تتابع بيريز حديثها، لتخبرنا عن أزمة التسمية والتشفير وتراكم ذلك ضمن "البيانات الكبرى" وكيفية تراكم البيانات في العالم الرقمي، إذ تخبرنا أنه حين البحث عن المنتخب البريطاني على غوغل، تظهر النتائج على ويكيبيديا لتشير إلى فريق الذكور لا الإناث، في حين أن فريق النساء اسمه "فريق كرة القدم البريطاني للنساء" وذلك لأن تصنيف الرجال حاضر حتى لو لم يذكر في الاسم، مثال آخر، الجميع يعلم أن المنتخب الأمريكي لكرة القدم لم يفز أبداً بكأس العالم، هذه المعلومة متداولة في الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام، والبحث على غوغل يظهر ذلك، لكن منتخب النساء فاز ثلاث مرات، السبب أن جملة "المنتخب الوطني الأمريكي" تشير فقط إلى فريق الرجال.
الكتاب مليء بحكايات من هذا النوع، وكيف أن درجة حرارة المكاتب في مساحات العمل مضبوطة في الستينيات على أساس استقلاب رجل بعمر الأربعين، ووزنه سبعين كيلو غراماً، المثير للاهتمام أن هذه الصيغة تتجاهل معدل استقلاب النساء المرتفع والذي قد يصل إلى 35%، ما يعني أن المكاتب أبرد بنسبة 5 درجات محسوسة بالنسبة للنساء، وهذا ما أشارت له النيويورك تايمز في واحدة من المقالات.
يحاول الكتاب أن يشرح لنا ما وراء الأرقام وأساليب إنتاج الإحصائيات التي تعتمد بالأصل على ثوابت و"حقائق" متحيزة أصلاً، أو تتجاهل ما لا يتطابق مع فئة أو طبقة ما، هذه الحقائق تحكم تصميم العالم وأسلوب الحياة فيه، بما يخدم الرجال البيض، في تجاهل تام للنساء بوصفهن خفيات وجهدهن غير مهم، بل يصل الأمر إلى غياب الإحصائيات الخاصة بهن ضمن العديد من القطاعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...