اضطرت وزارة الصحة التونسية نهاية شهر مارس/ آذار الماضي، لدفن امرأة توفيت بفيروس كورونا في مقبرة في محافظة بنزرت شمال البلاد، باستعمال القوة العامة والغاز المسيل للدموع، وذلك بعد أن حاول الأهالي منع عملية الدفن بسبب تخوفاتهم من تسرب الفيروس إلى محلاتهم لقربها من المقبرة.
وفي منطقة مجاز الباب، التابعة لمحافظة باجة، شمال غرب البلاد، رفض الأهالي أيضاً دفن رجل سبعيني توفي بعد إصابته بالفيروس في مقبرة قريبة من منازلهم، ما دفع محافظ الجهة إلى اتخاذ قرار بدفن المتوفي في جنح الظلام، في مقبرة بمنطقة تستور، بعد أن بقي حوالي 4 أيام في ثلاجة الموتى، وفي صفاقس أيضا تعطلت عملية دفن شاب لأكثر من 6 أيام.
ولم يقتصر التذمر على الأموات فقط، فقد عانى أهالي مرضى كورونا من معاملات الجيران والأقارب السيئة لهم، بعد علمهم أن أحد أفراد العائلة مصاب بالمرض أو مشكوك في إصابته.
"حاول الجيران طردي من المنزل"
"لم أكن أتوقع أن يُوثق جاري لحظة نقل ابني إلى مركز العلاج في سيارة الإسعاف التي خصصتها وزارة الصحة لمرضى كورونا بهاتفه، وينشرها عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، يقول محرز (56 عاماً) لرصيف22، متحدثاً عن تعامل جيرانه معهم بعد ثبوت إصابة ابنه بكوفيد- 19.
"يعمل ابني موزع مواد غذائية في إحدى الشركات الخاصة في تونس، التقط العدوى أواخر شهر مارس/آذار أثناء قيامه بعمله، لأنه يتنقل يومياً بين عشرات المحلات ويلتقي بعشرات الأشخاص"، يقول محرز.
ويتابع محرز الذي يعيش في إحدى الأحياء الشعبية في العاصمة تونس: "بدأت علامات المرض تظهر على ابني فعزل نفسه في غرفته، واتصل بالرقم الأخضر الذي وضعته وزارة الصحة، في البداية تم أخذ عينة لتحليلها في المختبر وبعد ثبوت إصابته بالفيروس، تمّ نقله في سيارة إسعاف خاصة إلى مستشفى العزل".
يروي محرز بنبرة صوت حزينة بداية أزمته مع جيرانه، ليقول: "منذ أن وقفت سيارة الإسعاف أمام منزلنا، بدأ مسلسل الهرسلة والنبذ والأسئلة الموجعة من جيراننا، وزادت حدتها بعد ثبوت إصابة ابني بالفيروس، لقد حاولوا طردي من منزلي".
"فور وصول سيارة الإسعاف تجمهر جيراني أمام الدرج حاملين هواتفهم لتوثيق اللحظة المؤلمة، وكأنهم يشاهدون مباراة كرة قدم. لا أعرف ماهي غايتهم ولماذا لم يحترموا مشاعرنا عندما كنا على وشك الانهيار"
لم يكتفِ جيران محرز بمقاطعته وعدم مساعدته، بل إنهم حاولوا طرده من منزله، متهمين إياه بأنه لم يلتزم بالحجر الصحي، وفق قوله، لكنه يؤكد أنه لم يغادر منزله إلا بعد انتهاء مدة الحجر التي حددها الأطباء بـ 14 يوماً.
اختنق صوت محرز وهو يستحضر ما حدث له مع جارته بداية شهر رمضان، يحكي: "خرجت بداية الشهر الكريم لشراء بعض المؤونة والخضر، فاعترضتني جارتي، وعندما هممت بإلقاء التحية عليها غيرت طريقها وتجاهلتني، حينها أحسست وكأنني أنا وعائلتي من نشرنا الوباء في البلاد".
رغم التنمر والرفض الاجتماعي، ينتظر محرز بفارغ الصبر عودة ابنه إلى المنزل، فقد بدأ يتماثل للشفاء تدريجياً، ووضعه الصحي في استقرار، يقول: "رغم كل الألم هناك نقطة أمل، فابني يتعافى من الفيروس اللعين، وسيعود قريبا إلينا، هكذا يقول الأطباء".
"جيراني لم يرحموني"
"الجار للجار رحمة"، والرحمة انقطعت بين الجيران في زمن كورونا"، تقول مريم (31 عاماً)، لرصيف22.
استخلصت مريم هذه "العبرة" من تجربتها "المريرة" مع جيرانها زمن فيروس كورونا المستجدّ، فأختها كانت من بين المشكوك في إصابتهم بالفيروس منتصف شهر أبريل/ نيسان الماضي.
تحكي مريم لرصيف22 تجربتها: "أعيش مع أختي وأمي في عمارة قديمة على وجه الكراء في العاصمة، التزمت بالحجر الصحي الشامل رفقة والدتي منذ أن بدأ الفيروس بالانتشار في بلدي، لكن أختي كانت مُضطرة للذهاب إلى عملها يومياً، فهي تعمل في مخبز ولم تكن معنية بالحجر".
وتتابع مريم: "أصيبت إحدى زميلات أختي بفيروس كورونا، فاضطرت السلطات لإغلاق المخبز، وإخضاع جميع العاملين به للتحاليل المخبرية للتأكد من عدم التقاطهم للعدوى، دخلت أختي في الحجر الصحي الذاتي بمنزلنا، وتم أخذ عينة تحليلية لها".
قدمت سيارة الإسعاف إلى منزل مريم لأخذ عينة تحليلية لأختها العشرينية، فسيطر الخوف على جيرانها، تقول: "فور وصول سيارة الإسعاف، تجمهر جيراني أمام الدرج حاملين هواتفهم لتوثيق اللحظة المؤلمة، وكأنهم يشاهدون مباراة كرة قدم. لا أعرف ماهي غايتهم ولماذا لم يحترموا مشاعرنا عندما كنا على وشك الانهيار".
"تجمهر جيراني أمام الدرج حاملين هواتفهم لتوثيق اللحظة، وكأنهم يشاهدون مباراة كرة قدم".
وتكمل مريم: "كانوا ينظرون إلينا كمتهمين في قضية فساد أو في تجارة المخدرات، وتحول الأمر إلى حديث جميع من في العمارة وحتى في العمارات المجاورة، كل يوم يأتي الجيران إلى بابنا لسؤالنا عن نتيجة التحليل".
"قالت جارتي لي حرفياً: إما تطلعيننا على نتيجة التحليل المخبري الذي أجرته أختك وإلا سنضطر لإخراجك وعائلتك من العمارة، ولكن حينها مازالت نتيجة التحليل لم تصدر بعد، أقسمت لها لكنها لم تصدقني".
كانت الصدمة عندما اتصل بمريم صاحب الشقة، وطلب منها المغادرة في أسرع وقت، حتى قبل صدور نتيجة التحليل المخبري.
"بعد 3 أيام من العذاب والتنمّر الاجتماعي، صدرت نتائج تحليل أختي وجاءت سلبية".
تضيف مريم بنبرة حزن وألم: "نعيش في الشقة منذ عام 2018، وكنا نعتقد أن جيراننا سيكونون سندنا في مأساتنا وبلسم جراحنا وآلامنا، لكنهم فشلوا في أول امتحان لهم، نفكر جدياً في الانتقال إلى شقة جديدة فور انتهاء أزمة الوباء. حقاً لا يمكننا مواصلة العيش هنا بعد التشهير والضغط الذي تعرضنا له".
"لا ينظرون إلى وجهي"
"لوهلة أحسست وكأنني أنا الوباء، فالجميع يرفض النظر في وجهي أو حتى إلقاء التحية... يتحاشون المرور أمام منزلنا "، تقول سالمة (55 عاماً)، لرصيف22.
عاشت الخالة سالمة وعائلتها تحت ضغط التنمر الاجتماعي والنبذ لأسابيع طويلة، وذلك بعد أن تأكدت إصابة ابنتها بفيروس كوفيد-19.
تروي سالمة تجربتها مع هذا الوباء الذي بث الرعب في قلوب جميع سكان العالم: "عادت ابنتي منتصف شهر مارس/ آذار الماضي من فرنسا حيث كانت تدرس هناك في إحدى الجامعات، كان حينها الفيروس في ذروة انتشاره في بعض الدول الأوروبية، فطلبت من ابنتي الدخول في حجر صحي ذاتي كإجراء وقائي".
وتتابع: "دخلت ابنتي في حجر صحي ذاتي في غرفتها، رغم أن تونس حينها لم تبدأ في تطبيق إجراءات الوقاية المتبعة للوقاية من فيروس كورونا، وبعد حوالي 6 أيام بدأت علامات المرض تظهر على ابنتي، فتم أخذ عينة للتحليل المخبري، وجاءت النتيجة إيجابية".
"انتشر الخبر بين جيراني وأقاربي بسرعة، وانهالت علينا الأسئلة الغبية، والاتصالات الهاتفية، هاتفي لم يهدأ، وطرق باب منزلي لم يتوقف، فالجميع يسأل، والجميع يريد معرفة التفاصيل"، تقول سالمة.
وتضيف سالمة بنبرة صوت عالية ومتوترة: "بعد أن تأكد جيراني من أن ابنتي تحمل الفيروس ولن تخضع للعلاج في المستشفى، بل سيتم متابعة حالتها وهي في منزلنا، أصبحوا عدوانيين معنا، واتصل بعضهم بشرطة النجدة لنقل ابنتي من المنزل".
خضعت سالمة وعائلتها للحجر الصحي الذاتي بينما تم في وقت لاحق نقل ابنتها إلى مستشفى تمّ تخصيصه لمرضى كورونا في "سوسة"، بعد أن تعثرت حالتها الصحية، بحسب ما أكدته لرصيف22.
وتكمل: "بعد 14 يوماً من الحجر الصحي الذاتي خرجت لشراء بعض الأدوية لكنني فوجئت بنظرة قاسية من جيراني، وأحسست برفضهم لي من نظراتهم، وطريقة تعاملهم معي، عند عودتي من الصيدلية تقاطع طريقي مع جاري لكنه غير طريقه محاولاً أن يتحاشاني، لكنني صرخت في وجهه وقلت له: لست وباء أنا جارتكم وأختكم".
"عند عودتي من الصيدلية، تقاطع طريقي مع جاري لكنه غيّر طريقه محاولاً أن يتحاشاني، لكنني صرخت في وجهه وقلت له: لست وباء أنا جارتكم وأختكم"
وفي نهاية تجربة الأسرة مع ابنتها المصابة، تقول سالمة: "شُفيت ابنتي تماما من فيروس كورونا وعادت إلى منزلها وهي الآن بصحة جيدة وتخضع للمتابعة الطبية، لكن تبقى هذه التجربة من أسوأ التجارب التي عشتها طيلة حياتي".
"كورونا وصمة اجتماعية"
يقول عبد الله العرضاوي، المختص في علم الاجتماع، لرصيف22: "إن إحساس الناس بالخطر دفعهم إلى تغيير سلوكهم، وقواعدهم العقلية واللاعقلية، إضافة إلى تغيير تعاملهم حتى مع أقرب الناس إليهم".
ويضيف العرضاوي: "الناس أصبحوا ينظرون لكل من يحمل الفيروس ولعائلته بكونهم أعداء، ويشكلون خطراً عليهم حتى وإن كانوا جيرانهم".
ويشير العرضاوي إلى التغير الاجتماعي الذي طرأ على حالة "الوصم"، وارتباطه بالوباء في تونس: "الوصم الاجتماعي لطالما كان موجوداً في المجتمعات منذ الأزل البعيد، حيث كان مرتبطا ًبالإجرام والسلوكيات السلبية، لكنه اليوم أصبح مرتبطاً أيضاً بفيروس كورونا".
يوضح العرضاوي رأيه أكثر: "الجميع أصبح يخاف من الفيروس المجهول الذي عجر الأطباء والعلماء عن إيجاد لقاح له، وحاولوا خلق ميكانيزم للدفاع الاجتماعي يتجاوز المعقول والأخلاق".
"كورونا تحوَّل إلى وصم اجتماعي يلاحق المصابين وعائلاتهم".
"اليوم إذا أراد أحد الإساءة لصديقه مثلاً ينعته بكورونا، فالمرض تحول إلى وصم اجتماعي يلاحق خصوصاً المصابين بهذا الفيروس وعائلاتهم، وهذا أمر خطير وجب التصدي له".
ويستحضر العرضاوي بدوره حادثة وقعت في العمارة التي يسكنها: "حاول سكان العمارة التي أسكن فيها طرد جارنا القادم من إحدى الدول الأوروبية، ورفضوا خضوعه للحجر الصحي الذاتي في شقته، قدموا شكاية لدى مركز الأمن لإخراجه من منزله".
"إلى جانب ذلك، فإن بعض التونسيين رفضوا دفن الموتى بفيروس كورونا في المقابر القريبة من منازلهم، فهم وصل بهم الأمر إلى تدنيس لحظة الموت، ظناً منهم أنهم بهذا التصرف سينجون من الإصابة بالفيروس"، يقول العرضاوي.
ويذكر أنه في تاريخ 14 مايو/ أيار الجاري، أعلنت وزارة الصحة التونسية عدم تسجيل إصابات جديدة بفيروس كورونا في تونس، وذلك لليوم الخامس على التوالي (صفر إصابة).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...