شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
السعودية التي أحببتها كفلسطينيّة… وما زلت

السعودية التي أحببتها كفلسطينيّة… وما زلت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 14 مايو 202003:19 م

حين عُدت إلى فلسطين في أواخر عام 2008 وأنا ابنة ثلاثة عشر، أحمل حقيبة ذكرياتي على ظهري، وأستأنس بها في غرابة حياة المخيّم، بدأت حينها أكتشف أشياء كثيرة في نفسي لم أكن أعرفها يوماً، ابتداء من لهجتي المختلطة ما بين المدينة والمخيّم، وبعض الكلمات التي التقطتها من السعوديين وأصدقائي من المصريين، السوريين، السودانيين واليمنيين.. إلخ، وبراءتي التي لم أجدها بشكل كبير بين زميلاتي في الصف نفسه، والمواقف الكثيرة التي أصرّت أن تذكّرني بأنني غريبة عنهن، وأنني لا أفهم التعقيدات الكبيرة التي يفرضها علينا المجتمع، في الوقت الذي أعود فيه إلى فلسطين "بلد التحضّر" كما كنت أنتظر، بعد أن عشت أعواماً طويلة في السعودية، البلد الأكثر تشدّداً كما كنت أظن.

بدأت الحكاية حين ركبت دراجة ابن عمّتي وأنا ابنة الصف الثامن الإعدادي، فبعد أن خرجت بها إلى شوارع المخيّم كما اعتدت أن أفعل دائماً بين أحياء المجمع السكني التابع للشركة، في مكّة المكرّمة التي عمل بها والدي لأعوام طوال، حينها صفّق الأولاد خلفي واستهجنوا فعلتي تلك، وبدؤوا يتحدّثون عن "العيب" بأن تقود الفتاة دراجة، وعوملت حينها كامرأة ناضجة بينما كنت أنظر لنفسي كطفلة شغوفة بالحياة، هذه الخرافة التي لم يخبرني بها والداي، ولم ينتقدني عليها من كبرت برفقتهم من الأولاد والفتيات، أبناء الجيران من مختلف الدول العربية، الأتراك والأشخاص من دول شرق آسيا، حين كنا نقود دراجاتنا بين المنعطفات إلى أن ترتطم الرُكب بالشوارع الإسمنتية وتنزف دماؤنا، لم تكن تلك الشوارع تفرّق بيننا كما تفعل الحارات هنا، وكنا بعلو صوتنا نصرخ في المرمى المسيّج بالأحجار حين تسدّد صديقتي الكرة في مرمى أحد الأولاد، ولم يكن ذلك متاحاً في كل المناطق السعودية أيضاً، بل أعتقد أنها كانت متاحة في المجمّعات السكنية فقط.

حين جئت إلى فلسطين، كانت الفتيات في عمري قد توقفن منذ زمن عن لعب الغميضة والسبع أحجار وصيّاد السمك... كن يتحدّثن عن الحب والمنافسة لاكتساب الكثير من العلامات الصفية، وكبرت بهذا معهن، لكننا حتى اللحظة حين نتسامر أنا وشقيقتي ليلاً ويشدّنا الشوق، نظل نردّد بأن فينا من السعودية ما يجعلنا نبدو كما نحن عليه اليوم

وكم لعبنا السبعة أحجار والخريطة أيام آخر الأسبوع، وتسلّقنا شجر اللوز الصحراوي الذي لا ينبت في فلسطين، وشاركنا الأولاد بلعبة بيت بيوت... ذكريات كثيرة عشناها حتى في ساحات الحرم المكي، حيث كنا نرتدي أحذية التزلج "السكيت" بين الصلاة والأخرى، قبل أن تزجرنا الجارة فنرتدي الحجاب ونصطف بين جموع المصلين مستمتعين بصوت الشيخ عبد الرحمن السديس، وكنا ندفن العصافير حين تموت، وأذكر أننا ذات يوم قررنا أن نصلي عليها صلاة الميت، وكان لدينا كنوز نخبّئها مثل "الطباشير"، تلك التي كانت تخلقها الأمطار حين تمتزج قطراتها بـ "النحاتة البيضاء" التي خلّفها العُمّال بعد انتهائهم من أعمال بناء، ننتظرها لتجف ونرسم بها الحجلة أو الخريطة.

وحين جئت إلى فلسطين، كانت الفتيات في عمري قد توقفن منذ زمن عن لعب الغميضة والسبع أحجار وصيّاد السمك، ولم يكنّ يعرفن ما هي لعبة الخريطة، كن يتحدّثن عن الحب والمنافسة لاكتساب الكثير من العلامات الصفية، وكبرت بهذا معهن، لكننا حتى اللحظة حين نتسامر أنا وشقيقتي ليلاً ويشدّنا الشوق، نظل نردّد بأن فينا من السعودية ما يجعلنا نبدو كما نحن عليه اليوم، أو لربما اكتسبنا الود من ألفة الجار، فقد كان طبق الحلوى يلف من بيت إلى بيت، طبق سوري، فلسطيني، أردني، باكستاني وآخر مصري وأصناف سعودية أيضاً، وكانت والدتي تعدّ المعجنات في أمسياتنا التي لا أزال أشم رائحتها، وكنت أختار بدوري أطباقاً أخرى مما تعدّه الجارات أو الخالات، كما كنت أناديهن.

كما كانت جدّتي تقول: "الدم عمره ما بصير مي"، ودمنا واحد رغم اختلافنا، فهل نسمح للمندسين بأن يبطلوه، وللسّاسة بأن يحوّلوه إلى ماء عكر؟

في الآونة الأخيرة، بينما أتابع أخبار السعودية، أغضب من بعضها وأفخر بأخرى، أحبها حيناً وأشتاق إليها حيناً، رغم أني من تخلّى عن إقامتي لكي أؤسس حياة هنا، خوفاً من أن أظل مشتتة بين المكانين، ولم أشك للحظة أن صديقاتي السعوديات يشتقن لي كما أفعل، لكنني ظننت أنها كانت صداقة طفولة فلم أبحث عنهن كما يجب.

قبل عامين فتحت هاتفي ووجدت رسالة من صديقة لي كانت معي في المدرسة الابتدائية، اسمها غدير، لقد أخبرتني بأنها أنشأت حساباً زائفاً على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لأن صديقة لنا أخبرتها بأنني أملك واحداً، وكانت تحاول منذ أعوام الوصول إلي... لقد جعلت قلبي يزهر لدرجة أني بكيت وأنا أتذكر كيف كن يخبرنني، في كل مرة أسافر فيها لزيارة بلادي فلسطين: "لا تسافرين على فلسطين ما نبغاكي تموتين"، وكن دائماً يسألنني عن محمد الدرة، الطفل الذي استشهد بينما كان والده يحتضنه في أحداث الانتفاضة الثانية، كنت أحصل على علامات عالية في الصف ومع ذلك لم ينبذنني.

ولأني لطالما استأت من سندويشة الزيت والزعتر التي ظلت والدتي تعدّها لي بشكل يومي، فقد كانت معلّمتي، واسمها نادية، تستبدلها أحياناً بسندويشة ابنتها حين تلاحظ استيائي، وتقول لي مداعبة: "الزعتر يقوي الذاكرة، أبغى بنتي تكون ذكية مثلك"، وفي مرّة أذكر أني لبست ثوباً مطرّزاً بالأحمر كان لونه كُحليّاً، وكنت ابنة الصف الثاني، حينها نشدت "على صوت الحجر"، أغنية صاحبت أحداث الانتفاضة الثانية أيضاً، وحينها بكت المعلّمات، ولا يغيب عن ذاكرتي وجه معلّمة اسمها "هنادي" ركضت باكية مبتعدة عن أمامي، وكنت غالباً ما أكون عريفة الصف، أو عريفة الحفل، وفي الصف السادس غنّيت "هل يا تُرى حان الوداع"، ولا أنكر أن صوتي كان نشازاً لكنّ معلّماتي كُن يؤمنّ بي، لقد كنت واحدة منهن ولم أتعرّض للتنمر آنذاك، ولا أعرف كيف تحوّلت الأحداث إلى هذه الدرجة!

عشتُ طفولة حقيقية، في بلد أحببتها وأحبتني بكل مساوئها ومساوئي، إيجابياتها وإيجابياتي، ورأيت من أهلها خيرهم قبل شرّهم، لم يكونوا يوماً ضد القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن نشملهم بهذه الصفة، وأن ننتقي إساءاتهم لننشرها بينما نغض الطرف عن المدافعين عنا والممجدين لنا ولقضيتنا العربية

عشتُ طفولة حقيقية، في بلد أحببتها وأحبتني بكل مساوئها ومساوئي، إيجابياتها وإيجابياتي، ورأيت من أهلها خيرهم قبل شرّهم، لم يكونوا يوماً ضد القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن نشملهم بهذه الصفة، وأن ننتقي إساءاتهم لننشرها بينما نغض الطرف عن المدافعين عنا والممجدين لنا ولقضيتنا العربية الراسخة، فمثلما تحمل قلوب الضغينة لنا فإن أخرى تحمل الودّ، ومثلما يحاول البعض تشويه قضيتنا فإن البعض الآخر يدافع بشراسة عنها، وهذا الخلاف لن يمحي تاريخاً من الأخوّة، ولا عُمراً من الذكريات.

ربّما من المشاهد التي لا يمكن أن أنساها، في موسم الحج كانت الخيمة المخصصة للفلسطينيين أكثر الخيم حظّاً، سواء من الاهتمام بالترتيب وتزويدها بكافة الخدمات، أو من خلال الطرود الغذائية والمستلزمات الأخرى، وكنت بكل فخر أقول للعسكري السعودي: "أنا من فلسطين"، ليحملني عالياً فرحاً بأنه التقى بطفلة فلسطينية!

وكما كانت جدّتي تقول: "الدم عمره ما بصير مي"، ودمنا واحد رغم اختلافنا، فهل نسمح للمندسين بأن يبطلوه، وللسّاسة بأن يحوّلوه إلى ماء عكر؟ أما أنا فسأظل أنتمي للشعبين فقط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image