لم يكن غريباً عليّ بدء مسلسل "ليالينا 80"، بمشهد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، كثيرون من صناع السينما والدراما اختاروا هذا المشهد افتتاحية لأعمالهم التي ناقشت حقبة الثمانينيات، أو تنامي جماعات التطرف، وآخرون لجأوا إلى الحدث كإعلان لبداية قصة، مثل ما حدث في "دكان شحاته".
لكن هذا لم يمنع من أن التناول هذه المرة اختلف، ففي حين أن أعمالاً سابقة صورت أن المصريين أصابهم الشلل في هذا اليوم بسبب الحدث غير المسبوق، لكن هذا لا يمنع أن هناك مصريين في هذا اليوم لم يكترثوا بمقتل رئيسهم، وانصرفوا لشؤون حياتهم اليومية، وهذا ما حدث في مسلسل "ليالينا" المصري لرمضان 2020، الذي سلط الضوء على الفئة من الشعب التي ذهبت لتتابع أعمالها اليومية، وتشتكي الغلاء وضنك المعيشة، بل وبعضهم عبّر عن حبه، كما حدث بين أبطال المسلسل في أول حلقة، وظل خبر اغتيال رئيسهم بالنسبة لهم ليس أكثر من خبر عابر.
أؤمن أن لكل جيل نظرته السياسية المختلفة عما سبق، وحقبة الثمانينيات بالنسبة لي "مظلومة" فنياً، خاصة بعد رحيل محمد خان وعاطف الطيب، وهما مخرجا أهمّ أفلام تلك الحقبة، لكنهما اعتمدا على التوثيق أكثر من التحليل، وحين قرأت تصريحاً لإياد نصار أن مسلسل "ليالينا 80" هو قراءة تاريخية لتلك الحقبة، تحمست أكثر للمشاهدة.
ولربما مشهد انصراف الناس لشؤونهم اليومية يوم اغتيال الرئيس، ليس فقط الاختلاف الوحيد الذي لاحظته للسردية السينمائية العامّة لهذه الفترة، فالمسلسل الذي يدور في إطار اجتماعي وقصص متشابكة بين الأبطال، تشمل رَصْد أهم مشاكل الواقع، وسواء قصد القائمون على العمل أم لم يقصدوا، فإن العمل به كثير من الإيماءات السياسية، التي جعلتني، كمشاهد، قادراً على نسج رؤية سياسية لهذا العمل وتلك الحقبة " المظلومة".
أؤمن أن لكل جيل نظرته السياسية المختلفة عما سبق، وحقبة الثمانينيات بالنسبة لي "مظلومة" فنياً، خاصة بعد رحيل محمد خان وعاطف الطيب، وهما مخرجا أهمّ أفلام تلك الحقبة، لكنهما اعتمدا على التوثيق أكثر من التحليل، وحين قرأت تصريحاً لإياد نصار أن مسلسل "ليالينا 80" هو قراءة تاريخية لتلك الحقبة، تحمست أكثر للمشاهدة
ولعل أول تلك الإيماءات هو تسليط الضوء على شركات المضاربة بالدولار التي انتشرت في مصر، واعتمدت على تحويلات المصريين من الخارج وقتها، وعمل بها كثير من أبناء الطبقة الوسطى أملاً في ثراء سريع، وهي قضية لم يتم التركيز عليها مقارنة بشركات توظيف الأموال التي تناولتها معظم الأعمال السينمائية لتلك الفترة.
وجود مصنع "بونبون" يعمل به عدد من أبطال المسلسل ليس بعيداً أيضاً عن الإيماءات السياسية، بل والتعبير عن السياسة الاستهلاكية التي انتشرت في مصر بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1974، وإن كان عدد من أفلام السبعينيات قد ركزّ على عمليات التهريب والثراء السريع بسبب فساد "الانفتاح"، مثل فيلم "أهل القمة"، جاء هذا "المصنع" في مسلسل "ليالينا 80" استكمالاً لذلك، فالقطاع العام تدهور وصناعة السلع الاستراتيجية تراجعت، ولم يبق لمصر سوى مصانع "بونبون"، وتلك الصورة ترسّخت بتركيز مخرج العمل على المطاعم السريعة التي دخلت مصر وقتها، والتي أصبحت جزءاً من حياة الأجيال الجديدة.
تتبلور الرؤية لي أكثر باختيار مخرج العمل، أحمد صالح، أن يبدأ مسلسله بتعرّض اثنين من أبطاله الشباب، والممثلين لطليعة هذا الجيل، لحادثة يوم اغتيال السادات، فيتعرض "راضي" لكسر قدمه وتفقد "جميلة" بصرها، وبداية لم أجد أي داع لتلك الحادثة في الدراما.
إلا أنه مع مشاهدة المزيد من الحلقات، لم أمنع نفسي من تصور أن تلك الحادثة هي بمثابة تعبير عن حال مصر في ثمانينيات القرن الماضي وعن جيلها الذي وُلد في الستينيات تحت شعارات "القومية العربية"، وآمن بأنه يستطيع أن "يرمي إسرائيل في البحر"، قبل نكسة يونيو 1967 التي أفاق منها سريعاً، فانتصر في حرب أكتوبر 1973، ليتعرض لأكبر انتكاساته باتفاقية سلام مع إسرائيل ودعوة للارتماء في أحضان أمريكية.
أليست كل تلك "الضربات" كفيلة بأن تجعل جيلاً عمره 21 عاماً غير قادر على الرؤية أو تحديد مساره، خاصة أن من تولى الحكم بعد السادات رجلاً ليس له علاقة بالضباط الأحرار، وكل ما يعرفه هذا الجيل أنه كان قائداً لسلاح الطيران ليس أكثر.
وإن كانت "جميلة" التي فقدت بصرها تعبّر عن مصر التي فقدت الرؤية، فإن السلام المنفرد مع إسرائيل يشبه تماماً الحادثة التي تعرض لها "راضي"، حيث فقد "قدمه" كما فقدت مصر أشقاءها.
وبالرغم ما تحمله كلمة استقرار من معان طيبة، لكنني أراها "فخاً" يلجأ إليه كل رئيس يحاول الهروب من مسؤوليته، فالاستقرار يعني أيضاً بقاء الحال على ما هو عليه، وهو ما فعله "مبارك" في جريمة أخرى كان يجب محاسبته عليها، فهو ترك "جيلاً" بالكامل يتخبط
نحن أمام جيل "أعرج وكفيف" تسوده صناعة استهلاكية ويتجه بعضه للمضاربة في "الدولار"، وآخرون حائرون، من يبحث عن عمل ومن يبحث عن زواج أو طريق للثراء السريع، تلك الرؤية التي استخلصتها من مشاهدة "ليالينا 80" جعلتني أسخر من نفسي قليلاً، فحتى سنوات قريبة، كنت مقتنعاً بالمقولة التي ترددت كثيراً بعد 25 يناير، وتوضّح أن أول 10 سنوات للرئيس المخلوع "مبارك" هي الأفضل، وأن الفساد بدأ بعد ذلك.
مرددو تلك المقولة، وعلى رأسهم الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، كما أوضح قبل رحيله في برنامج "مصر إلى أين"، اعتمدوا أن تلك السنوات كانت استقراراً ولملمة ما يمكن، بعد اغتيال رئيس وانتشار جماعات إرهابية، لكن السؤال هل فعلاً كانت "استقراراً" أم "توهان" وبداية تخلي الدولة عن مواطنيها، وفقدان جيل لرؤيته وقدرته على السير؟
وبالرغم ما تحمله كلمة استقرار من معان طيبة، لكنني أراها "فخاً" يلجأ إليه كل رئيس يحاول الهروب من مسؤوليته، فالاستقرار يعني أيضاً بقاء الحال على ما هو عليه، وهو ما فعله "مبارك" في جريمة أخرى كان يجب محاسبته عليها، فهو ترك "جيلاً" بالكامل يتخبط، حتى أنني حين وصلت لأكثر من نصف حلقات المسلسل، ومازال أبطاله تائهين، كلّ يحارب في معركته ولا ينتصر، تساءلت: هل هذا ضعف في السيناريو؟ لكن، لربما هذا فقط ما أراده القائمون على العمل، أن "نتوه" مع أبطال المسلسل ونعيش "ليالينا" كما عاشه هذا الجيل، فـ"نتوه" معهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...