انتشرت السجالات والنقاشات في الآونة الأخيرة حول النبي إدريس، وذلك بعدما صرح الشيخ علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي مصر السابق، بأن "وجه تمثال أبو الهول في مصر، هو وجه سيدنا إدريس"، وذلك خلال حديثه في أحد البرامج التلفزيونية، وهي المقالة التي رفضها العديد من علماء الآثار والتاريخ القديم، الذين طالبوا بعدم الخلط بين الدين وعلم التاريخ.
في الحقيقة، تحظى شخصية إدريس بقدر كبير من الجدل في الأنساق الدينية والفلسفية القديمة، إذ ظهرت شخصيته في صور متعددة بحسب كل دين أو ثقافة، فهو أخنوخ في اليهودية والمسيحية، وإدريس عند المسلمين، وتحوت أو أوزير عند المصريين القدماء، وقد عرفه المندائيون باسم دنانوخت، واليونانيون القدامى باسم هرمس، فيما شاع اسمه في الفلسفات الغنوصية المشرقية باسم هرمس الهرامسة أو مثلث العظمة.
تحظى شخصية إدريس بقدر كبير من الجدل في الأنساق الدينية والفلسفية القديمة، إذ ظهرت شخصيته في صور متعددة بحسب كل دين أو ثقافة، فهو أخنوخ في اليهودية والمسيحية، وإدريس عند المسلمين، وتحوت أو أوزير عند المصريين القدماء، وقد عرفه المندائيون باسم دنانوخت، واليونانيون القدامى باسم هرمس، فيما شاع اسمه في الفلسفات الغنوصية المشرقية باسم هرمس الهرامسة أو مثلث العظمة
أخنوخ: ممثل الجيل السابع الذي سار مع الله
ورد ذكر أخنوخ في سفر التكوين، وهو السفر الأول من أسفار العهد القديم، فبحسب ما ورد في الإصحاح الخامس من هذا السفر، فأن أخنوخ قد مثل الجيل السابع من البشرية، فهو أخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن أدم. وقد وردت الإشارة إليه على نحو مقتضب، إذ جاء في هذا الإصحاح: "وعاش أخنوخ خمساً وستين سنة وولد متوشالح، وسار أخنوخ مع الله بعدما ولد متوشالح ثلاث مئة سنة وولد بنين وبنات، فكانت كل أيام أخنوخ ثلاث مئة وخمساً وستين سنة، وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه".
يُنسب لأخنوخ اثنان من الكتب الأبوكريفية –وهي الكتب التي لم تعترف بها المجامع الدينية اليهودية والمسيحية- ويعرفان بسفري أخنوخ الأول والثاني، وقد ذهب أغلب الباحثين إلى أن الكتابين قد تم تدوينهما في القرن الثاني أو القرن الأول قبل الميلاد.
الكتابان يمتلئان بأخبار المسيا/ المسيح المنتظر، أحداث نهاية العالم وتفاصيل رحلة أخنوخ إلى السماء. ومن بين القصص المهمة التي وردت في الكتاب الأول، أن مجموعة كبيرة من الملائكة، ويسميهم الكتاب الملائكة الساقطين، قد نزلوا إلى الأرض، فتعارفوا إلى البشر وعلموهم العلوم المحرمة والسحر، وتزوجوا من النساء وأنجبوا منهن الجبابرة الذين مارسوا كل أنواع الشرور وقتلوا الناس وعاثوا في الأرض فساداً، ولما ضجت السماء بشكوى بني الإنسان، أنزل الله ضرباته بالملائكة الأشرار، فأرسل الطوفان في عهد نوح ليغسل الأرض من كل الشرور والآثام، بينما أرسل الملائكة الأبرار إلى الأرض، فاقتادوا الملائكة الساقطين إلى محبسهم الذي سيمكثون فيه حتى يوم الدينونة.
بحسب ما ورد في الكتاب، فأن الملائكة الساقطين قد ندموا على ما فعلوه، فطلبوا من أخنوخ أن يكتب لهم كتاباً يصف ندمهم ليعرضه على الله حتى يصفح عنهم، وبالفعل يكتب أخنوخ الكتاب، ويصعد إلى السماء فيعرض الكتاب على الله، ولكن الله يرفض الصفح عنهم، ويتجول أخنوخ في السماوات واصفاً ما يشاهده هناك من أشكال الملائكة والنار وغير ذلك من الأشجار والجبال والوديان وأسرار الخلق.
تلك الأوصاف العجيبة التي ارتبطت بأخنوخ في الكتابات الأبوكريفية، والتي انتشرت بين اليهود وتسربت شيئاً فشيئاً إلى التلمود والشروح الدينية، تسببت في شيوع القول بأن أخنوخ لما رُفع إلى السماء، صار جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السماوي، إذ حوله يهوه إلى ملاك عظيم يُعرف باسم الميتاترون، وهو ملاك قريب من الله ويجلس بالقرب من عرشه ومهمته هي كتابة أعمال الناس.
وفي السياق نفسه، دخلت شخصية أخنوخ للكابالا (التصوف الروحاني اليهودي) من خلال الرمزيات المحيطة به، إذ ارتبطت شخصيته بالكواكب والأجرام السماوية، واعتُقد أنه يرمز لأيام الأسبوع السبعة لكونه يمثل الجيل السابع من البشرية، فيما جرى الربط أيضاً بين عمره، 365 عاماً، وعدد أيام السنة الشمسية.
في المعتقد المسيحي الذي يقول بالـ"باروسيا" (المجيء الثاني للمسيح في نهاية الزمان) يسبق نزول أخنوخ نزول المسيح، ويكون هذا النبي هو المقاتل الأول للوحش الوارد ذكره في رؤيا يوحنا، ولكنه سيهلك في تلك المواجهة.
وفي القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، قام الفيلسوف اليهودي الشهير، الرابي سعديا بن جاؤون بن يوسف الفيومي، الذي عاش في ظل الحضارة الإسلامية، بالعمل من خلال تفسيره للتوراة بالعربية، على إيجاد مقاربة بين ما ورد في سفر التكوين عن أخنوخ من جهة، ووجهة النظر الإسلامية الشائعة من جهة أخرى، ففسر ما جاء عن أخنوخ بقوله: "ولما سلك أخنوخ في طاعة الله توفي وقبضه الله"، ونلاحظ هنا أنه لم يستخدم كلمة "مات" ذات الدلالة القاطعة، بل استخدم "توفي" وهي نفس الكلمة التي ذكرها النص القرآني في سياق الحديث عن رفع عيسى بن مريم إلى السماء.
يتحدث الطبري عن إدريس فيقول: "ولد ليرد أخنوخ –وهو إدريس- فنبأه الله عز وجل... وأنزل عليه ثلاثون صحيفة. وهو أول من خط بعد آدم وجاهد في سبيل الله، وقطع الثياب وخاطها"... إدريس من الكتاب المقدس عند المندائيين إلى أساطير مصر القديمة واليونان إلى تفاسير القرآن
إدريس: صاحب المكان العالي الذي قابل الرسول يوم المعراج
ورد ذكر النبي إدريس في القرآن الكريم في الآية رقم 85 من سورة الأنبياء: "وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين"، كما ذُكر في الآيتين 56 و57 من سورة مريم، إذ جاء فيهما: "واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً، ورفعناه مكاناً علياً".
ويتفق معظم المؤرخين والمفسرين المسلمين، ومنهم ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، وأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، وابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"، وعبد الرحمن بن خلدون في تاريخه، على أن أخنوخ الوارد ذكره في العهد القديم، هو نفسه النبي إدريس المذكور في القرآن الكريم.
على سبيل المثال، يتحدث الطبري عن إدريس فيقول: "ولد ليرد أخنوخ –وهو إدريس- فنبأه الله عز وجل... وأنزل عليه ثلاثون صحيفة. وهو أول من خط بعد آدم وجاهد في سبيل الله، وقطع الثياب وخاطها...".
وفي سياق محاولة تبرير المكانة العالية التي نالها إدريس، ينقل الطبري في تفسيره عن ابن عباس: "أن إدريس كان خياطاً فكان لا يغرز إبرة إلا قال سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي، وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه". وبحسب ما جاء في كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم، أن نبي الإسلام قد التقي بإدريس في السماء الرابعة، وذلك خلال رحلة المعراج.
ومن الجدير بالذكر، أن التفاسير الإسلامية قد اختلفت بخصوص فهم رفع إدريس لمكان عليٍّ، إذ ذهب البعض إلى أنه قد رُفع إلى السماء ولم يمت في الأرض كباقي البشر، فهو لا يزال حياً في السماء مثله في ذلك مثل عيسى، بينما ذهب البعض الآخر إلى إنه قد رُفع إلى السماء الرابعة ثم أتاه ملك الموت فقبض روحه هناك.
على أن الملاحظة المهمة تبدو في ما يذكره ابن كثير من كون بعض العلماء المسلمين قد مالوا للقول بأن إدريس ليس هو أخنوخ، بل نبي آخر من أنبياء بني إسرائيل، وذلك اعتماداً على ما ورد في حديث الإسراء والمعراج، من أن النبي لما مر بإدريس، فأن الأخير قد رحب به قائلاً: "مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح"، وكان من المفترض –لو كان إدريس من آباء البشرية الأوائل- أن يقول له، كما قال آدم وإبراهيم: "مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح"، ولذلك مال البعض لاعتبار أن إدريس هو نفسه النبي إيليا –إلياس، وما يدعم من هذا الطرح، أن الاثنين قد ورد القول بصعودهما وعروجهما إلى السماء.
هرمس: صاحب الحكمة المتعالية والمتون الفلسفية ذائعة الصيت
الجدل القائم حول أخنوخ/ إدريس لم يبق متقوقعاً داخل الحيز الكتابي الإسلامي، بل خرج منه ليتعاطى مع مجموعة متعددة من الديانات والفلسفات والثقافات الإنسانية على مر القرون.
على سبيل المثال، ظهرت صفات أخنوخ، ولاسيما درايته الواسعة بالكتابة والمعرفة في الحضارة المصرية القديمة، التي عرفت الإله تحوت، صاحب المعارف العظيمة، والذي كان يشغل وظيفة الكاتب ومساعد الإله أوزير، إله العالم الأخر.
"الإنسان قادر علي الصعود إلى السماء دون أن يترك مكانه في الأرض"... عن قدرة الإنسان على التفوق والارتقاء الروح
أيضاً، يظهر أخنوخ في كتاب "الكنزاربا" وهو الكتاب المقدس عند المندائيين، في شخص دنانوخت الذي كان عارفاً للكتب المقدسة التي نزلت على آدم، وتنزلت عليه هو شخصياً ثمانية كتب من عند الله، وعند قراءته للكتاب الثامن ظهر له أحد الملائكة العظام واصطحبه معه في رحلة بين الكواكب والنجوم والجنة. وقد ورد وصفه في الكتاب بأنه "الكاتب الحكيم، حبر الآلهة، الفخور المتكبر". وفي موضع آخر وصف بأنه "فقيه الدين الحكيم ودواة كتاب الآلهة والفخور والمترفع"، وذلك بحسب ما يذكر الباحث رشيد الخيون في كتابه "الأديان والمذاهب بالعراق".
أما في الميثولوجيا اليونانية، فقد ظهر أخنوخ في صورة الإله هرمس، الذي هو واحد من آلهة الأوليمب، ورسول الآلهة، والمسؤول عن نقل أرواح الموتى للعالم السفلي، ومما اختص به حذاءه المجنح الذي لطالما منحه القدرة على الطيران والارتفاع.
المؤرخ اليهودي ابن العبري في القرن السابع الهجري، حاول في كتابه "تاريخ مختصر الدول"، أن يُجمل الأقوال المختلفة في أخنوخ/ هرمس، فقال: "وقيل إن الهرامسة ثلاثة: الأول هرمس الساكن بصعيد مصر الأعلى وهو أول من تكلم في الجواهر العلوية وأنذر بالطوفان وخاف ذهاب العلوم ودرس الصنائع فبنى الأهرام وصور فيها جميع الصناعات والآلات ورسم فيها طبقات العلوم حرصاً منه على تخليدها لمن بعده... الثاني هرمس البابلي سكن كلواذا مدينة الكلدانيين وكان بعد الطوفان وهو أول من بنى مدينة بابل بعد نمرود بن كوش. الثالث هرمس المصري وهو الذي يسمى طريس-ميجيسطيس أي المثلث بالحكمة لأنه جاء ثالث الهرامسة الحكماء...".
لقب "ثلاثي العظمة"، من بين الألقاب المشهورة التي أطلقت على هرمس، وانتشرت بين المفكرين والفلاسفة، وهناك اختلاف حول سبب هذا اللقب، فقد قيل إنه قد لقب به بسبب تأكيده على وصف الله بثلاث صفات ذاتية، هي الوجود والحكمة والحياة، كما قيل إنه لقب بذلك بسبب كونه قد جمع النبوة والملك والحكمة.
من هنا، فإن العديد من الباحثين قد ذهبوا إلى أن شخصية أخنوخ/ هرمس هي في حقيقة الأمر مزيج وخليط ما بين مجموعة من الشخصيات التاريخية التي ظهرت في فترات متباعدة، ومن ذلك ما ذكره المفكر المصري يوسف زيدان في كتابه "دوامات التدين"، عندما ذهب إلى أن هرمس هو "مزيج أسطوري قديم من شخصيات حقيقية وخيالية" ومنها الإله تحوت المصري، ويوداسف الفارسي، وأمونيوس السقاص، وهو فيلسوف سكندري عاش في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وبلنياس الحكيم السكندري.
في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، ظهرت في الإسكندرية الصحف المعروفة باسم "متون هرمس"، والتي سرعان ما تمت ترجمتها وانتشرت بين المثقفين الأوروبيين عبر العصور، باعتبارها نصوص الحكمة المصرية القديمة.
وبحسب ما يذكر كل من تيموثي فريك وبيتر غاندي، في كتابهما "متون هرمس، حكمة الفراعنة المفقودة"، أن هذه المتون قد ذكرت الكثير من النبوءات والإرشادات وبعض المحاورات الفلسفية بين هرمس والإله، وكيفية خلق الروح والإنسان والمخلوقات، والقوة المكنونة في البروج والأجرام الفلكية، وطبيعة الموت والخلود والسبيل إلى معرفة الخالق.
ومن بين النصوص المهمة التي وردت في تلك المتون، ما جاء في أهمية العقل: "قد يعرف الإنسان ذاته فيعرف الكون... ويختلف عن غيره من المخلوقات الحية الأخرى من حيث أنه يمتلك عقلاً، وبالعقل يمكن أن يتوحد مع الكون...".
وما جاء في قدرة الإنسان على التفوق والارتقاء الروحي: "والإنسان يفوق ملائكة السماء في الكلام بلا خوف، أو على الأقل يكافئها، حيث أن الملائكة لن يخرجوا عن حدودهم السماوية ليهبطوا إلى الأرض، لكن الإنسان قادر علي الصعود إلى السماء دون أن يترك مكانه في الأرض".
أيضاً، تناولت المتون عقائد وحدة الوجود، والتي كانت معروفة عند الفلاسفة المشرقيين منذ القدم، إذ ورد فيها: "سوف يلاقيك آتوم –الإله الأول عند المصريين القدماء- في أي مكان، فانظر باحثاً عنه، في أزمنة وأماكن لا تتوقع أن تجده فيها. سواء أكنت يقظاً أو نائماً، مسافراً على البر أو في البحر، ليلاً أو نهاراً، صامتاً كنت أو متحدثاً، ذلك أن آتوم هو الكل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ اسبوعينمقال رائع فعلا وواقعي