رغم اتفاق جميع الأديان الإبراهيمية على وجود شخصية دينية مقدسة تُعرف بالمسيح، إلا أن الكثير من التفاصيل المختلفة والمتضاربة قد أحاطت بتلك الشخصية الجدلية الغامضة، ليتسبب ذلك في ظهور سيناريوهات مختلفة لقصة المسيح في كل نسق من الأنساق الدينية الإبراهيمية.
أحد أهم تلك الاختلافات، كان المتصل بمصير المسيح عقب انتهاء فترة وجوده الأرضي، إذ أُثير السؤال حول مكانه، وإذا كان قد توفي كغيره من البشر أم رُفع إلى السماء؟ هذا فضلاً عن السؤال المتكرر عن دوره في أحداث نهاية العالم ويوم الدينونة.
في اليهودية: ملك موعود لم يولد بعد
عرفت اليهودية فكرة المسيح، أو المشيح، في الفترة التي أعقبت انقسام مملكة إسرائيل الموحدة إلى مملكتين، يهوذا وإسرائيل، وما استتبع ذلك من هزيمة اليهود على يد كل من الآشوريين والبابليين في القرن السادس قبل الميلاد، إذ تسببت الحاجة المُلحّة لاستعادة أمجاد العصر الذهبي لليهود، ممثلةً في عهد كل من الملك داود وابنه الملك سليمان، في تعلّق العقل اليهودي بفكرة المسيح الملك، الذي سيحقق السلام الدنيوي لبني إسرائيل بعد طول معاناة: "فيسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي، ويعلف العجل والشبل معاً، وصبي صغير يسوقهما. ترعى البقرة والدب معاً، ويربض أولادهما معاً. والأسد يأكل التبن كالثور، ويلعب الرضيع على حجر الأفعى، ويضع الفطيم يده في جحر الأرقم. لا يسيئون ولا يفسدون، في كل جبل قدسي، لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب، كما تغمر المياه البحر"، وذلك بحسب ما ورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر أشعيا.
عرف التاريخ اليهودي ظهور العديد من الرجال الذين أدعى كل منهم أنه المسيح، ورغم تكذيبهم جميعاً، إلا أن الاعتقاد في المسيح قد ظل قائماً عبر القرون، وفي القرن الثاني عشر الميلادي، وضع موسى بن ميمون، وهو من أهم رجال الدين اليهود في العصور الوسطى، لائحة بأصول المعتقد اليهودي، وسماها "المبادئ الثلاثة عشر"، وقد نص المبدأ رقم اثنا عشر منها على "الاعتقاد بوصول المسيح وعهد المسيح". وفي كتابه "ميشناه التوراة"، ينفي ابن ميمون أن يكون يسوع الناصري الذي يؤمن به المسيحيون، هو نفسه المسيح الموعود، فيقول موضحاً: "كل الأنبياء أجمعوا على أن المسيا سوف يخلص إسرائيل وينقذه وبأنه سيجمع المشتتين ويقيم الوصايا، بينما سبّب الناصري ضياع إسرائيل بحد السيف وتفرق من تبقى منهم في كل مكان، كما أنه غيّر التوراة وتسبب بحصول خطأ فظيع بعبادة إله إلى جانب عبادة الرب".
ومن هنا، فأن اليهود حتى اللحظة الراهنة، ينتظرون ظهور مسيحهم الموعود من نسل الملك داود، ويعتقدون أن هذا الظهور سيمنحهم السيادة والنفوذ على جميع الأعداء.
في اليهودية، هو ملك موعود لم يولد بعد، في المسيحية، هو ابن الله الجالس على يمينه، وفي الإسلام، هناك خلاف حوله بين التراثيين والمعاصرين... عن مصير المسيح عقب انتهاء فترة وجوده الأرضي
في المسيحية: ابن الله الجالس على يمينه
يؤمن المسيحيون كافة بأن المسيح الموعود هو يسوع الناصري المولود من مريم العذراء، ويعتقدون أنه هو نفسه الذي جاءت به البشارات في الكتب اليهودية المقدسة.
بحسب ما تعتقده الأغلبية الغالبة من الطوائف والفرق المسيحية عبر التاريخ، فأن يسوع قد صُلب بمعرفة الرومان، في موضع يُعرف بالجلجثة خارج أسوار أورشليم القديمة، وذلك بناء على تحريض مباشر من كهنة اليهود الذين رموا يسوع بالكذب والدجل.
يؤمن المسيحيون أن صلب يسوع قد وقع يوم الجمعة، وأنه قد قام من الموت يوم الأحد، ثم ارتقى إلى السماء بجسده بحضور أحد عشر من تلاميذه بعد 40 يوماً من قيامته. وفي ذلك ورد في الإصحاح الرابع والعشرين في إنجيل مرقس: "ثم إن الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء"، ليجلس على يمين العرش.
وبحسب المعتقد المسيحي التقليدي، فإنه من المتوقع عودة المسيح مرة أخرى إلى الأرض، فيما يُعرف باسم المجيء الثاني للمسيح أو الظهور الثاني، والذي يُعرف أحياناً بـ "باروسيا".
في رؤيا يوحنا، وردت بعض تفاصيل تلك العودة المنتظرة، والتي من المتوقع أن تحدث في نهاية الزمان: "هو ذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض"، كما ورد في الإصحاح السادس عشر من إنجيل متى، ارتباط عودة المسيح بيوم الدينونة، الذي سيشهد قيامة جميع الأموات: "فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله".
من المهم هنا الإشارة إلى أن هناك بعض الفرق المسيحية التاريخية التي خالفت الكثير من التفاصيل المرتبطة بالمسيح، من ذلك النصارى، وهم فرقة من المسيحيين انتشرت بشكل محدود في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، وروجوا للقول إن المسيح لم يُصلب، بل أن سمعان القيروانيّ الذي حمل صليب المسيح هو من صُلب مكانه. وفي ذلك يقول زعيمهم باسيليدس الإسكندري: "وسمعان هو الذي صُلب جهلاً وخطأ، بعدما تغيّرت هيأته فصار شبيهاً بيسوع، بينما تحوّل يسوع إلى هيئة سمعان وأخذ يسخر من الرؤساء".
أيضاً، انفردت جماعة شهود يهوه، بتحديد ميعاد عودة المسيح إلى الأرض في عام 1914م، واعتمدت في ذلك على مجموعة من الحسابات والتأويلات المعقدة لبعض النصوص الواردة في الكتاب المقدس، وخالفت الجماعة عموم المسيحيين باعتقادها أن عودة المسيح سوف تكون غير منظورة وغير محسوسة، وليس لها شكل مادي أو متجسد.
في الإسلام: خلاف حول نزول المسيح بين التراثيين والمعاصرين
يؤمن المسلمون أن المسيح هو عيسى بن مريم، ويعتقدون أنه النبي والرسول الذي بُعث لبني إسرائيل في القرن الأول الميلادي، وقد وردت الكثير من أخباره في القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
الاعتقاد الإسلامي التقليدي يذهب، مخالفاً الاعتقاد المسيحي، إلى أن الله قد أنقذ المسيح قبل صلبه، وأن اليهود والرومان قد صلبوا رجلاً آخر بعد أن "شُبّه لهم"، أما عيسى فقد رفعه الله إلى السماء، وذلك بحسب ما يُفهم من سياق الآية 55 من سورة آل عمران: "إِذْ قال الله يا عيسى إني مُتَوَفِّيكَ ورافعكَ إلي ومُطهِّرك من الذين كفروا..."، والتي فسرها ابن جرير الطبري في كتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" بقوله: "أي قابضك من الأرض حياً إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك".
أكدت الكثير من الأحاديث النبوية على رفع عيسى إلى السماء، وقالت بنزوله في أخر الزمان، ومن تلك الأحاديث ما أورده مسلم بن الحجاج في صحيحه: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها".
واستناداً لمجموعة من الأحاديث والآثار، ذهب العديد من المؤرخين والمفسرين، ومنهم ابن كثير الدمشقي في كتابه "البداية والنهاية"، إلى أن عيسى سوف ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه سوف يقتل المسيح الدجال، وينضم إلى جيش المهدي المنتظر، ويصلي خلفه.
ورغم أن تلك المعتقدات قد حظيت باتفاق من جانب جماهير المسلمين، سنة وشيعة، إلا أن هناك بعض الفرق التي رفضتها، ومنهم الإباضية الذين ذهبوا إلى أن المسيح قد مات، مثله مثل غيره من البشر، فعلى سبيل المثال، يذكر أحد أعلامهم وهو نور الدين أبو محمد عبد الله بن حميد السالمي، في كتابه "معارج الآمال": "اعلم أَن نبينا لا نبي معه ولا بعده، فما رواه قومنا من نزول عيسى لم يصحَّ عند أصحابنا رحمهم الله تعالى".
أيضاً، ظهرت بعض الآراء السنّية المعاصرة الرافضة للقول بنزول عيسى مرة أخرى في آخر الزمان، فعلى سبيل المثال، ذكر رجل الدين اللبناني محمد رشيد رضا، في تفسير المنار: "ليس في القرآن نص صريح على أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هي عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين".
وتابعه في ذلك، الشيخ المصري محمود شلتوت، شيخ الأزهر، إذ كتب في مجلة الرسالة: "أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها، وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض".
أما المفسر التونسي الطاهر بن عاشور، فقد خالف في كتابه "التحرير والتنوير" الأغلبية العظمى من التفسيرات القرآنية التراثية، في تفسيره لجملة "إنِّي مُتَوَفِّيكَ"، عندما قال: "ظاهرُ معناه إني مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأن أصل الفعل توفى أنه قبضه قبضاً تاماً واستوفاه. فيقال: توفاه الله أي قدّر موته"، ومن ثم فقد أكد على موت المسيح.
في البهائية والقاديانية: تجلي المسيح في شخص المؤسس
على الرغم من كون الأديان الثلاثة الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، قد استحوذت على النصيب الأعظم من الحضور الإبراهيمي في العالم المعاصر، إلا أن كلاً من البهائية والأحمدية القاديانية قد تمكنت من فرض حضورها أيضاً على الساحة الدينية، ما يستلزم معه المرور على نظرة كل منهما للمسيح.
فيما يخص البهائية، يذهب البهائيون إلى حقيقة صلب المسيح، فقد ورد في كتاب الأقدس: "ما مررتُ على شجر إلّا وخاطبه فؤادي يا ليت قطعت لإسمي وصلب عليك جسدي هذا ما نزّلناه في كتاب السّلطان ليكون ذكرى لأهل الأديان إنّ ربّك لهو العليم الحكيم...". ومع ذلك يذهب البهائيون للتوفيق بين الرؤيتين المسيحية والإسلامية فيما يخص مسألة الصلب، بالادعاء بأن الصلب كان صلباً للجسد فقط، وإن روح المسيح قد رفُعت إلى السماء، حتى نزلت مرة أخرى في شخص مؤسس البهائية، حسين علي النوري المازندراني، والمعروف باسم بهاء الله.
يقول بهاء الله في كتابه الأقدس، موجهاً خطابه إلى المسيحيين، وموضحاً كونه هو نفسه المسيح: "قل يا ملأ الأبناء احتجبتم باسمي عن نفسي ما لكم لا تتفكّرون كنتم ناديتم ربّكم المختار باللّيل والنّهار فلمّا أتى من سماء القِدم بمجده الأعظم ما أقبلتم وكنتم من الغافلين... قل قد جاء الأب وكمل ما وعدتم به في ملكوت اللّه هذه كلمة الّتي سترها الابن إذ قال لمن حوله أنتم اليوم لا تحملونها فلمّا تمّ الميقات وأتى الوقت أشرقت الكلمة من أُفق المشيئة...".
أما فيما يخص القاديانية الأحمدية، والتي يُنظر لها في الكثير من الأحيان على كونها ديانة منشقة ومنحرفة عن تعاليم الإسلام، فقد اهتم مؤسسها ميرزا غلام أحمد، بوضع تصور لمصير المسيح وسيرة حياته في كتابه "المسيح الناصري في الهند".
ينطلق التناول القادياني لمصير المسيح من الآية 157 من سورة النساء: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم..."، إذ يقول غلام أحمد إن المسيح قد أصيب بحالة من الإغماء فوق الصليب، فظن اليهود أنه قد قُتل، فتركوه وعادوا إلى منازلهم.
المعتقد القادياني، الذي يفسّر تسمية عيسى بالمسيح، بسياحته وتجواله في البلاد، يؤكد على أنه بعد إنقاذه من الموت، خرج المسيح من فلسطين، وبدأ رحلة طويلة وصل في نهايتها إلى منطقة البنجاب في شمال الهند، وفيها لقي قبائل بني إسرائيل الذين نفاهم نبوخذ نصر إلى تلك الأصقاع بعد السبي البابلي في 597 ق.م، وابتعدوا عن دين الله واعتنقوا البوذية، فجمعهم ودعاهم إلى الدين الحق، فأسلموا على يديه، وعُرفوا بالأفغان والكشميريين.
ويذكر غلام أحمد أن المسيح تولى الملك والزعامة، وضُربت العملة النقدية باسمه، حتى إذا ما حانت لحظة وفاته، دُفن في مدينة سريناغار، والتي يعني اسمها قرية الجمجمة.
وينفي مؤسس القاديانية الأحمدية عودة المسيح آخر الزمان، فيقول: "وأما الظن بأنه سيعود إلى هذه الدنيا ثانيةً ليحرز العز والمجد، فما هو إلا وهم لا أساس له، كما هو مخالف لمقصد الكتب الإلهية، وليس ذلك فحسب، بل ينافي أيضاً سنن الله الطبيعية القديمة منافاةً شديدة، كما أنه زعم لا يدعمه دليل"، ومن هنا فأنه يسمي نفسه بالمسيح الموعود، ويعلن أنه هو المهدي المنتظر، والمجدد التي لطالما بشّرت به النصوص المقدسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...