"والله لو استشهد حسين ألف مرة لكان وقعه أخف عليّ من اعتقال ميس مرة واحدة".
جاءت هذه الكلمات على لسان محمد أبو غوش، والد الأسيرة الفلسطينية ميس التي اعتقلتها قوّات الاحتلال الإسرائيلي في 29 آب/أغسطس الماضي بعد مداهمة منزلها في مخيم قلنديا شمال القدس، وهو أيضاً والد حسين، الذي استشهد في 25 كانون الثاني/يناير 2016 عقب طعنه وصديقه إبراهيم علان مجندتين إسرائيليتين.
ميس (22 عاماً، طالبة إعلام في جامعة بير زيت) ليست رقماً في سجون الاحتلال. وحسين ليس رقماً في عدّاد الشهداء الفلسطينيين. قد يُخفف الحديث عنهما الوجع الذي ولّداه في نفسَيْ والديهما. أليس التعبير عن الغضب مقاومة في ذاته؟
كثيراً ما تخبطت عائلة أبو غوش منذ اعتقال ابنتها ميس واستشهاد ابنها حسين. قد يكون من المهم هنا التمعّن بكلماتٍ قالها جندي إسرائيلي سابق يُدعى آفنير جفارياهو، وهي أن نظام الجيش الإسرائيلي يجبره على التفكير في سؤال: "كيف يمكننا البقاء؟"، لافتاً إلى أن هناك "معادلة مخطئة يتم اتباعها وهي فكرة الاستقرار. وفي المقابل جعل الفلسطينيين غير مستقرين في شتّى النواحي".
كانت ميس قد تعرّضت للتعذيب في مركز المسكوبية خلال التحقيق معها قبل أن تُنقل إلى سجن الدامون حيث تقبع الأسيرات، إذ قابلتها العائلة بـ"ظهر مُنحنٍ" نتيجة تعرضها "للشبح على طريقة الموزة والقرفصاء". والتعذيب على طريقة الموزة يتم بربط المعتقلة بكرسي الحديد وتكبيل يديها وقدميها حتى تغدو على شكل موزة ثم تُضرب وهي في هذا الوضع.
ووثّقت هيئة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين شهادة لميس جاء فيها أن "جولات التحقيق استمرت ساعات طويلة قضيتها على كرسي صغير داخل زنزانة شديدة البرودة". ونقلت الهيئة عنها أن التحقيق العسكري دام ثلاثة أيام وتخلله الصفع والحرمان من النوم.
وقالت ميس إنها حاولت مرةً الهروب من المحققات والجلوس في إحدى زوايا الزنزانة، فأمسكتها المحققة وضربت برأسها الحائط وركلتها وشتمتها. كما تعمد المحققون إحضار أخيها وذويها لابتزازها وإجبارها على الاعتراف بالتهم الموجهة ضدها. ونقلت الهيئة عنها "أن المحققين تعمدوا إدخال جرذ كبير إلى الزنزانة لإيذائها".
من المفترض أن ينتهي كابوس الاعتقال بعد ثمانية أشهر. إذ أصدرت محكمة الاحتلال في 3 أيار/مايو حكماً على ميس بالسجن 16 شهراً (بقيت منها ثمانية) وغرامة مالية قدرها 2000 شيكل (نحو 570 دولاراً أمريكياً). ووجّهت إليها تهمتين هما "الانتماء لتنظيم محظور هو القطب الطلابي التقدمي في جامعة بيرزيت، ونشاطها في قسم الإعلام داخل الجامعة" و "التواصل مع العدو، ومقابلة ناشطين من حزب الله في إطار مؤتمر حول حق العودة في بيروت عام 2018، والموافقة على العمل مراسلة صحافية لمحطة النور التابعة لحزب الله".
في ما يلي حوار رصيف22 مع محمد أبو غوش.
كيف تلقيت الحكم؟
كنا نحن وميس متوقعين حكماً يتجاوز السنتين. لكن، الحمدلله، بفضل مؤسسة الضمير (مؤسسة أهلية فلسطينية مستقلة غير ربحية تعنى بحقوق الإنسان ودعم ونصرة الأسرى ومناهضة التعذيب) وطاقم محاميها تمّ التوصّل مع نيابة الاحتلال إلى هذا الحكم.
شعوري هو مزيج من الفرحة والألم، وما يخفف علينا أن ميس قبل الحكم قالت إنها غير مهتمة بحكمهم. لكن يجب ألا ننسى أن هناك أسيرات يعانين وضعاً صحياً صعباً. ينبغي ألا ننسى قضيتهن.
كيف اعتُقلت ميس؟
في 29 آب/أغسطس 2019، نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً، اقتحم جنود الاحتلال منزل العائلة وخلعوا بابه. ثم جرى جمع أفراد العائلة في الصالة حيث كان الأطفال نائمين، وأعمارهم دون الخامسة. قام الجنود المقنعون بحملهم وإحضارهم للصالة. سأل الضابط ميس: ما اسمك؟ فأجابت: ميس. سألها: أين تدرسين؟ فقالت: لا أعلم. فتّش الجنود البيت، خاصةً غرفة ميس، وغرفة أخوتها وحطموا بعض أثاث الغرف وعبثوا بمحتوياتها. سألوا ميس عن جهاز الموبايل، فقالت إنه في التصليح وليس بحوزتها. بعد قليل استطاع الضابط معرفة مكان جهاز الموبايل وطلب من ميس أن تفتحه فرفضت. ثم طلب مني فتح جهازها فقلت له لا أعرف الرقم السري. حصل هذا كله في جو من التهديد. أخذ الجنود ميس إلى غرفتها، فشعرت أنهم سيضغطون عليها حتى تفتح الجهاز، فاعترضت على أن تكون وحدها، إذ ذاك ضربني جندي على رأسي وأجلسني بعيداً عن ميس. بعد قليل طلب المسؤول أن تنتعل ميس حذاءها وأن نودعها ثم قيّد يديها. طلبت منه ألا يعتقلها في تلك اللحظة متعهداً أن أصحبها عند الصباح إلى مقر المخابرات. فرفض. وقادوها إلى حاجز يفصل القدس عن الضفة وهو قريب من مخيم قلنديا.
(في منشور على فيسبوك، كان قد كتب عن لحظة الاعتقال: "كانت قلوبهم عندما اقتحموا البيت ترجف خوفاً، وكانت قلوبنا ترجف خوفاً عليكِ. لكن بيننا كان قلبك الأقوى وعزيمتك الأشد".)
"يوم 29 آب/أغسطس 2019، نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً، اقتحم جنود الاحتلال منزل العائلة وخلعوا بابه"... والد ميس أبو غوش يروي لرصيف22 تفاصيل اعتقال ابنته، ومقابلته إياها للمرة الأولى، وملابسات تعذيبها في سجون الاحتلال، بالإضافة إلى استشهاد ابنه حسين
هل كان لها نشاط سياسي؟
الوضع الطبيعي مع الاحتلال هو الاشتباك الفكري وغيره من الاشتباكات. وهذا حقنا كشعب محتل في أن نقاوم بأي وسيلة نراها مناسبة ما دام المجتمع الدولي والعالم لم يرجعا حقنا. ممارسات الاحتلال وجبروته وظلمه للشعب الفلسطيني من قتل وهدم واعتقال، أمور شهدتها ميس، وأقساها كان استشهاد أخيها حسين.
كانت نشاطاتها محصورة داخل أسوار جامعة بيرزيت، وهذا حق لها ولغيرها.
ماذا تقول عن استشهاد حسين؟ كيف تلقيت الخبر وما كواليس الحادثة؟
قبل استشهاد حسين (25 كانون الثاني/يناير 2016) كان الوضع الأمني مترجرجاً. كل يوم شهيد أو شهيدان، وحسين كان حاضراً في الكثير من المواجهات التي وقعت مع الجنود داخل المخيم. كان جريئاً، وكنت خائفاً أن يستشهد بسبب جرأته إذ أصيب مرتين. كان متوقعاً استشهاده لكن ليس في عملية طعن.
يوم استشهاده عند المغرب، شاهدتْ والدته وشقيقته ميس على التلفاز عملية طعن وشابين استشهدا لكن وجهيهما لم يظهرا. كانتا تعرفان ماذا يلبس حسين وعند التدقيق عرفتا أن أحد الشهيدين هو حسين. وبعد إعلان الاحتلال اسم الشهيد الآخر إبراهيم علان عرفنا أن الشهيد الثاني هو ابننا لأنه كان قد أخبرنا أنه سيذهب للقاء صديقه إبراهيم.
كانت لحسين وصية، هي أن توزع أمه الحلوى في جنازته وقد قامت بذلك. أشعر بالرضا على ابني، أما الفخر والاعتزاز فهما للشهيد نفسه.
كيف تلقيت ما نقلته هيئة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين عن تعذيب ميس؟
خلال فترة اعتقالها في المسكوبية كانت زيارتها ممنوعة طوال شهر. وحصل تعتيم إعلامي ومنع أي أحد من أن ينشر شيئاً عن التحقيق. تولت مؤسسة الضمير الدفاع عنها. كان المحامون على علم بأن هناك عمليات تعذيب لميس ولغيرها. وكان قد صدر أمر قضائي قضى بمنع النشر أو الكلام، لذا لم يعرفوا شيئاً عن التعذيب إلا بعد شهرين.
كنا نعرف أن تحقيق المسكوبية يعتمد ممارسة الضغط النفسي على المعتقل وليس الضرب. أحد المحامين حاول نقل معلومة لنا عن التعذيب. كنا على دراية بأن هناك تعذيباً. ما هو مستواه؟ لم نكن نعرف، ومؤسسة الضمير لم تستطع إخبارنا بسبب أمر منع النشر المفروض عليها.
منذ اعتقالها كان وضعي النفسي صعباً جداً. لم أستطع حتى التكلم للصحافة، ومجرد ذكر اسمها على لساني كانت عيناي تفيضان بالدموع.
حسب ما عرفنا لاحقاً، فإن محامية مؤسسة الضمير احتاجت إلى أكثر من زيارة بسبب وضع ميس النفسي المشوش، إذ كانت تريد أن تنسى ما حدث أو أنها نسيت أشياء حصلت معها. أول معلومة عن تعذيبها وصلتنا هي أن الشخص الذي فرّغ إفادتها خلال التحقيق، كان مذهولاً من روع ما حصل معها ومن قدرتها على تحمل ذلك كله.
ردة فعلي حيال ما سمعت لم تكن جديدة. منذ اعتقالها كان وضعي النفسي صعباً جداً. لم أستطع حتى التكلم للصحافة، ومجرد ذكر اسمها على لساني كانت عيناي تفيضان بالدموع.
متى كانت زيارتكم الأولى لميس؟ ما هي المشاعر التي ساورتكم حينذاك؟ وهل تروي لنا موقفاً يصعب نسيانه؟
أول زيارة إلى سجن الدامون كانت بعد أكثر من شهرين على اعتقالها. ساورتنا مشاعر لا توصف. لم أرد التحدث. أردت أن أنظر إليها وإلى عينيها.
الموقف الذي لا يُنسى كان عندما استدعتني مخابرات الاحتلال وزوجتي إلى مركز تحقيق المسكوبية للضغط على ميس. كنا في غرفة تحقيق ثم أدخلوا ميس. دار في عقلي أن الفتاة الداخلة ليست ميس، أو ربما هي، لكن ماذا فعلوا بها. كنت أريد الصراخ في وجوه المحققين، ماذا فعلتم بها، وعندما تبسمت هدأ قلبي. لن أنسى مظهرها عندما دخلت. كان مظهر إنسان مكسور ومحطم نفسياً وجسدياً.
"الاحتلال يسعى إلى إلغاء الوعي العربي وزرع اللاجدوى من المقاومة في نفوس الشباب"... والد ميس أبو غوش يروي لرصيف22 تفاصيل اعتقال ابنته، ومقابلته إياها للمرة الأولى، وملابسات تعذيبها في سجون الاحتلال، بالإضافة إلى استشهاد ابنه حسين
كنت قد كتبت على فيسبوك: "هناك فرق بين الصبر والثبات، وبين الشوق والاشتياق. قاربت على التاسعة والأربعين عاماً وخلالها لم يوجع قلبي ولم يكسر فؤادي أي شيء إلا غيابك"... هل كان وقع اعتقال ميس أصعب على قلبك من استشهاد حسين؟ وكيف؟
والله لو استشهد حسين ألف مرة لكان وقعه أخف عليّ من اعتقال ميس مرة واحدة.
قبل استشهاده، علم حسين أن هناك اعترافات ضده عند مخابرات الاحتلال. لذا كان متوقعاً اعتقاله. لكنه كان يرى في الاعتقال ذلاً ومهانة، فرفضه وفضّل الاستشهاد. عرفنا بعد استشهاده أنه كان يخبئ سكيناً تحت مخدته. كان ينوي مواجهة جنود الاحتلال إذا حاولوا اعتقاله.
والله لو استشهد حسين ألف مرة لكان وقعه أخف عليّ من اعتقال ميس مرة واحدة.
الشهيد يذهب عند ربه. وفي شرعنا الإسلامي هو حي عند ربه. لم يمت، يأكل ويشرب وهو فرح بالشهادة. أما الاعتقال عند الاحتلال، ففيه إذلال وإهانة للمعتقل خلال التحقيق. ميس عنيدة وقوية. كنت أخشى أن يحصل لها مكروه. أعرفها كما أعرف حسين. لا أحد منهما يقبل الإهانة والذل.
برأيك ما الإستراتيجية التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي؟ وما الرسالة التي توجهها إلى الاحتلال والعالم؟
الاحتلال يسعى إلى إلغاء الوعي العربي وزرع اللاجدوى من المقاومة في نفوس الشباب والعمل على تقبل وجوده.
رسالتي إلى جنود الاحتلال هي أنه مهما طال ظلمكم، فسوف ننتصر. ونحن باقون على أرضنا. أما للعالم، فأقول: عندما احتُلت فرنسا في الحرب العالمية الثانية وتشكّلت مقاومة فرنسية ضد الألمان لتحريرها، كان العالم يتغنى بالمقاومة الفرنسية وبما حققت وكذلك حصل في كثير من البلدان الأوروبية التي احتلها الألمان... نحن أصحاب هذه الأرض أبّاً عن جد وهم أتوا من كل بلدان العالم، فإما أن يقف العالم معنا ومع الحق أو يتركنا نعمل ما استطاعت أيادينا عمله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...