"خافت صديقاتي من زيارتي بعد التحرر من سجون الاحتلال، حتى لا تسحب تصاريح عمل أزواجهن في الداخل الفلسطيني"، بهذه الكلمات بدأت الأسيرة المحررة، سهام البطاط، حديثها عن أصعب المواقف التي تعرَّضت لها بعد التحرر، فالسجن لم يقتصر فقط على سرقة سنوات من عمرها، حبيسة جدرانه، بل قد يمتدّ إلى عمرها كله.
"زوجي رحل وابني أسير"
اعُتقلت سهام البطاط (60 عاماً) 3 مرات، أولها عام 2012، وآخرها عام 2019، وهي أم لثلاثة أبناء، منهم ابنها الوحيد الأسير، هيثم البطاط، المحكوم بثلاثة أحكام بالمؤبد، والتي مُنعت من زيارته لأنها أسيرة سابقة، وفي كل مرة يُسمح لها بزيارته يتمّ اعتقالها، والتحقيق معها.
تصف سهام لرصيف22 حياتها بعد التحرر، بأنها "من أصعب المراحل التي لازالت تعاني منها"، تقول: "المجتمع لا يتقبَّل الأسيرة، والجميع يبتعد عنها، أقرب الناس لها يخافون منها، وتعاملهم معها يتغيَّر، حتى أنني سمعت منهم الكثير من الكلام مثل: ليش إنت من دون كل الناس يعتقلوك، أكيد عاملة شيء غلط".
"ما جرحني كثيراً هي كلمات سمعتها من بعض الناس حين قالوا لي: ما في شخص سيقبل الزواج بك، ما حدا بتقبل تكون زوجته دخلت السجن، عيب بنت مثلك صغيرة تدخل السجن"
ولن تنسى سهام واقعة آلمتها كثيراً، عندما اعتُقلت، كانت ابنتاها وحيدتين في البيت، فزوجها متوف وابنها أسير، تقول: "عندما تم اعتقالي في المرة الثانية عام 2015، كنت في أسوأ حالاتي، كنت قلقة على بناتي، وكل هذا لم يشفع أو يغفر لي، فالمجتمع لا يتقبل الأسيرة، والمجاملات الاجتماعية هي الطاغية على التعامل معي، مع الحرص والحذر الشديدين في ذلك، بالإضافة إلى الغمز واللمز الذي كنت أراه بعيونهم".
عندما خرجت سهام من السجن مؤخراً، عادت لحيّها بعد منتصف الليل، تتذكّر بحزن وأسى شديدين: "خرجت من تحقيق السجن، ودخلت في تحقيق آخر مع الناس".
"رد فعلهم على اعتقالي مهين"
في عام 2015، ومن مدخل الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، اعتُقلت مها شتات، وهي في سن الـ15 عاماً، وتم الاعتداء عليها بالضرب قبل التحقيق، ونقلت إلى سجن هارون، تحكي مها: "عند خروجي من سجون الاحتلال، وبالرغم من أن نفسيتي كانت سيئة جداً، إلا أن المجتمع لم يرحمني، فرد فعل بعض الأشخاص كان مهيناً جداً".
تذكر مها أكثر الكلمات التي سمعتها، وجرحتها بعد خروجها من سجون الاحتلال، تقول لرصيف22: "أكثر كلمات ما زلت أتذكرها، خصوصاً عندما أنهيت الثانوية العامة، ورغم أنني عانيت الأمرين في هذه المرحلة، ومن ابتعاد بعض صديقاتي عني من جهة أخرى، إلا أن كل هذه الأمور كنت قد تحملتها، لكن ما جرحني كثيراً هي كلمات سمعتها من بعض الناس حين قالوا لي: ما في شخص سيقبل الزواج بك، ما حدا بتقبل تكون زوجته دخلت السجن، عيب بنت مثلك صغيرة تدخل السجن".
"أنا فخورة بدخولي السجن".
وتضيف مها: "اعتبروا دخولي السجن جرماً عظيماً، أو فعل بيوطي الراس، ولا يُنظر لي بسببه كفتاة طبيعية، لكن هذا شرف كبير لكل الفلسطينيات، وأنا فخورة بذلك، ولولا دعم واحتواء أهلي، فكانوا المظلة التي أحتمي بها، لما تزوجت من شاب كريم يخاف علي، يحترمني ويقدرني".
تعلّق مسؤولة ملف الأسرى والشهداء عضو "إقليم فتح"، نجوى عمرو، أن ما يقارب 70% من الأسيرات غير متزوجات، بسبب نظرة المجتمع لهن، أو بسبب القضايا التي سُجنَّ بسببها، منهنَّ من تكون قضيتها اجتماعية.
وتوضح عمرو أكثر لرصيف22: "مثلاً تذهب إحداهنّ إلى الحواجز، وتشتبك مع جنود الاحتلال، حتى تتمكَّن الهروب من أهلها، ومن الضغوطات الاجتماعية التي تتعرض لها، فتجد أنّ السجن هو أفضل مكان لها، وهذا طبعاً غير صحي، لأن عواقبه وخيمة فيما بعد عليها، أما الأسيرات المتزوجات بالفعل، فإن أزواج بعضهن ينفصلون عنهن، أو لا يكملون السنة بعد خروجهن، وفي حالات أخرى يتزوجون عليهن وهن داخل السجن، أو يكون سبب الزواج الطمع المادي، بسبب راتب الأسيرة التي يزيد حكم سجنها عن 3 سنوات".
تجاوز صدمة الأسر
تعتني بعض المؤسسات بالأسيرات الفلسطينيات وهن داخل المعتقل، لكن بعد خروجهن يقتصر الأمر فقط على تكريمهن بدروع الحرية.
تقول الأسيرة المُحرَّرة صفاء أبو سنينة، والتي اعتُقلت عام 2018: "صحيح أن هذا يعود لشخصية الأسيرة نفسها، وقدرتها على التخلص من آثار السجن؛ لكن الأصل أن يتم متابعة الأسيرة من ناحية نفسية".
وتحكي صفاء لرصيف22 عن تجربتها: "بعد تحرري شعرت أني بحاجة للاهتمام بالجانب النفسي، فحضرت ورشات مختصة بالمجال النفسي للأسيرات، والتي عُقدت في مدينة رام الله، لكن لم أحظ بأي اعتناء من هذا المجال محلياً".
ظلت صفاء مقتنعة أنها بحاجة لدعم نفسي ومعنوي، فاستشارت أخصائيين نفسيين، وتؤكد أنها ما زالت بحاجة لمساعدة نفسية: "أعتبر أنني تجاوزت صدمة ما بعد الأسر بنسبة 70%، ولكن ليس جميع الأسيرات مثلي، فأنا كنت محظوظة عندما تلقيت الاهتمام والدعم من عائلتي وأهلي، فغيري يحتاج هذا الاهتمام والدعم كما أحتاجه أنا".
"المسؤول الأول عن كل ما مررت به الاحتلال الإسرائيلي".
وتثمّن صفاء دعم أسرتها لها، فتحكي أنه على الرغم من ظروف الأسر التي كانت صعبة جداً، ومرور الكثير من الأحداث التي تمنت فيها أن تكون قريبة من أهلها وعائلتها، إلا أن احتضانهم لها وهي بالأسر وبعد تحررها، كان قوياً جداً، وعوَّضها عن كل الذي سبق، في النهاية، المسؤول الأول عن كل ما مرتّ به من ظروف هو الاحتلال الإسرائيلي.
بينما تحاول صفاء تخطي أزمة الأسر بمساعدة أهلها كانت الأسيرة المحررة صباح فرعون تمضي قدماً بعملها ودراستها، فتقول لرصيف22: "بعد ما خرجت من الأسر، حاولت جاهدة تخطي كل الصعوبات التي مرت بي، كنت أعمل في مشغل خياطة قبل الأسر، عدت للمشغل فترة بسيطة، ثم تركت العمل به لأنني قررت أن أكمل دراستي في مجال القانون".
وتضيف فرعون: "أول ما خرجت من السجن سمعت كلمات اللوم والعتاب، مثلاً: شو استفدتي من كل هالحكي، شفتي شو صار فيكي، شغلة مش حلوة إنك تنحبسي، وطبعاً سؤالهم الدائم: ليش انحبستي؟".
وتروي صباح ذكرى أخرى، في اليوم الذي خرجت فيه من معتقلها، وعند رؤيتها لأطفالها واحتضانها لهم، قالوا لها: "الحمد لله إنك رجعت لنا يا ماما"، لكن تقول صباح إن ابنتها الصغيرة قالت لها كلمة، ظلت عالقة في عقلها: "إذا بيرجعوا ياخذوك يا ماما أو يحبسوك بموت، ونحن ما بنقدر على بعدك".
مستقبل الأسيرات القاصرات
في عام 2018، وفي إحدى الفورات في سجن الدامون، وهو الوقت الذي يسمح به للأسيرات بالخروج من الزنازين المغلقة، كانت الأسيرة المحررة سوزان العويوي، تتمشى مع إحدى صديقاتها من الأسيرات الكبيرات في العمر، تقول سوزان لرصيف22: "دائماً ما كانت تستوقفني كلمتها عندما علّقت على الأسيرات صغيرات السن اللواتي يتراكضن في الساحة للتسلية: البنات الصغار عايشات في السجن ولا عبالهن، ليسوا مثلنا قلقات على أولادنا وأزواجنا وأشغالنا. فأجبتها دون تفكير: نحن تعلّمنا وتوظّفنا وتزوجنا وأنجبنا، صحيح إنه قلقنا دائم وألمنا كبير، لكن أنجزنا مهمات أساسية بحياتنا، أما هنّ، ماذا ينتظرهن بعد الحرية، في حقيقة الأمر إن مستقبلهم مجهول".
"المجتمع لا يتقبل الأسيرة، والمجاملات الاجتماعية هي الطاغية على التعامل معي، مع الحرص والحذر الشديدين في ذلك، بالإضافة إلى الغمز واللمز الذي كنت أراه بعيونهم"
انضمت الأسيرة المحررة هيفاء أبو صبيح، للعمل في مشروع "بدي أحكي"، المعني بتمكين الأسيرات بعد الاعتقال، حيث تمكنت من أخذ إفادات، وتوثيق روايات عدة أسيرات محررات مثلها.
تقول أبو صبيح: "من خلال تجربتي وتوثيقي لروايات أسيرات، يعود تأقلم الأسيرة بالمجتمع للوسط الذي تعيش فيه، والأهم شخصيتها، وكيف يمكنها أن تفرض نفسها بمختلف مناحي الحياة".
وتضيف أبو صبيح أنه من خلال تجربتها، قابلت أسيرة اعتقلت في بداية الثمانينيات، فكان سؤال الناس لها: "هل أنت عذراء؟"، فعدم الوعي بظروف الأسيرات وحياتهن داخل السجون يلعب دوراً كبيراً في تشكيل المفاهيم الخاطئة حولهنّ.
وعن حياة القاصرات بعد إطلاق سراحهن من الأسر، تشير سهير فراج، مديرة مؤسسة "تام" أو "تنمية وإعلام المرأة"، وهي إحدى ثلاث مؤسسات شريكة في مشروع "بدي أحكي"، إلى أن الأسيرات من مدينة القدس بعد تحررهن يغبن عن المشهد تماماً، وذلك بسبب أن "الأهل يمنعونهن عن أي نشاط، والسبب الأهم هو خوفهنّ من سحب هوياتهنّ، خصوصاً القاصرات، وأهلهن يحاولون تزويجهن بأي طريقة، ويرجع جزء منهن للدراسة، وبعضهن، لكثرة الضغوطات الاجتماعية، يفضلن العودة للسجن".
وتنهي فراج حديثها لرصيف22 مشددة على ضرورة تغيير نظرة المجتمع السلبية للأسيرات باعتبارهن سجينات بناءً على قضايا اجتماعية، وليس بناءً على دافع وطني أو قضايا سياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.