ظلت المسائل المتعلقة بالبحث في صفات الله وأسمائه، متأرجحة بين ميداني العلوم الشرعية والعلوم الفلسفية، فإذا كانت العلوم الشرعية الصرفة قد تناولت تلك المسائل بشكل ديني بحت، يؤمن بالتفسير الحرفي للنص، فإن علم الكلام على الجهة المقابلة قد تناولها من خلال رؤية مرنة، تعمل على التوفيق بين العقل والنقل، وتهدف للحفاظ على الانسجام بين قدسية النصوص من جهة، وموافقيتها لمعاني التوحيد المطلق من جهة أخرى.
أصل الإشكال: بين تنزيه المؤولة وتشبيه المثبتة
أكد الدين الإسلامي على مبدأ التوحيد المطلق لله، وشفع ذلك التأكيد بتنزيه المقام الإلهي، ونفي أي صورة من صور المشابهة أو المماثلة التي من الممكن أن تنعقد بين الذات الإلهية من جهة وأي من المخلوقات من جهة أخرى.
من هنا، فإن تياراً قوياً من التيارات الثقافية التي نشأت داخل النسق الإسلامي، قد جعل من تنزيه الله وتوحيده، شغله الشاغل وهمه الأكبر. هذا التيار يمكن أن نسميه باسم تيار المؤولة، وذلك لأن أصحابه قد اعتمدوا على تأويل أي نص يمكن أن يُقدح من خلاله في تنزيه الذات الإلهية.
يمكن القول إن أهم المذاهب المكونة لذلك التيار، قد انحصرت في المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وثلاثتهم من المذاهب المعتبرة داخل الإطار الواسع الفضفاض، المعروف باسم "أهل السنة والجماعة"، وهو الإطار الذي تشكلت حدوده بعد انتصار الأمويين، وتأسيس دولتهم في أربعينيات القرن الأول الهجري.
المذاهب الثلاثة، اعتمدت على بعض الآيات المحكمة في القرآن الكريم، والتي يُفهم منها عدم مشابهة الخالق لأي مخلوق، ومنها على سبيل المثال، الآية رقم 11 في سورة الشورى، والتي تصف الله بأنه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، والآية رقم 4 في سورة الإخلاص، والتي تصفه "لم يكن له كفواً أحد".
على الجهة المقابلة، فإن فريقاً من أهل السنة والجماعة، وهم المعروفون بالحنابلة أو أهل الحديث، قد قدموا القراءة الحرفية للنص المقدس، ورفضوا الاعتماد على التأويل، فقادهم ذلك إلى نوع من أنواع التشبيه.
وإذا كان القول بالمجاز -وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة- هو أهم الأسلحة التي اعتمد عليها المؤولة، فإن أهل الحديث في القرون المتأخرة، عملوا على إبطال حجج المؤولة، من خلال نفي وجود المجاز في القرآن، وكان من أهم من قال بذلك كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وفي ذلك يقول الثاني في كتابه "الصواعق المرسلة": "وإذا عُلم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيماً شرعياً ولا عقلياً ولا لغوياً، فهو اصطلاح محض وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين".
هذا الخلاف بين الفريقين –المؤولة والمثبتة- تسبب في ظهور رؤيتين متعارضتين لفهم صفات الله، أولهما تأويلية، منزهة لله، وثانيهما حرفية، وقعت - رغم حرص الآخذين بها على النفي- في فخ التشبيه.
إذا كان السؤال حول مكان وجود الله، سؤالاً مهماً في السجال العقائدي بين الفريقين –المؤولة والمثبتة- فأن السؤال حول صورة الله، لم يكن أقل منه أهمية
على العرش في السماء أم لا يحويه مكان: أين الله؟
كان السؤال حول مكان وجود الله، أحد أهم الأسئلة المُلحّة في سياق النزاع والتخاصم بين الفريقين، ذلك أن أهل الحديث، احتكموا للدلالات الحرفية للنصّ المقدس، فاستشهدوا بما ورد في صحيح مسلم، أن النبي قد سأل جارية جاء بها سيدها ليعتقها، فقال لها: "أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله"، فقال لسيدها: "اعتقها فإنها مؤمنة".
من هذا الحديث، فهم أهل الحديث أن الله موجود في السماء، ومن الآية رقم 5 من سورة طه "الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى"، فهموا أنه جالس فوق العرش، لتتكون الصورة الإجمالية على الشكل التالي: الإله يستوي على عرشه العظيم في السماء العليا.
من العبارات المشهورة المرتبطة بتلك الصورة، قول الإمام مالك بن أنس، والذي يذكر فيه أن "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وهي العبارة التي يسوقها الكثير من أتباع تيار أهل الحديث للتأكيد على وجوب فهم النصوص على ظاهرها دون سؤال أو مناقشة.
في سياق آخر، فأن تيار المؤولة قد رفض تلك الصورة الذهنية بشكل قاطع لما فيها من تشبيه وتجسيم، فعلى سبيل المثال، قدم أبو منصور الماتريدي في كتابه "تأويلات أهل السنة"، تفسيراً مختلفاً لكلمة الاستواء الواردة في الآية الكريمة، عندما قال إن الاستواء المذكور هو "الاستيلاء عليه وأن لا سلطان لغيره ولا تدبير لأحد فيه".
أما العالم الأشعري، أبو بكر ابن فورك، في كتابه "مشكل الحديث"، فقد فسره على نحو مقارب، بقوله: "استواءه على العرش سبحانه ليس على معنى التمكن والاستقرار، بل هو على معنى العلو بالقهر والتدبير وارتفاع الدرجة بالصفة، على الوجه الذي يقتضي مباينة الخلق".
فيما يخص المكان، فقد رفض علماء المؤولة القول بأن الله في السماء، فعلى سبيل المثال يذكر عبد الرحمن ابن الجوزي الحنبلي، والذي اشتهر بخلافه مع الحنابلة في الأصول واتفاقه معهم في الفروع، في كتابه "دفع شبه التشبيه": "الواجب علينا أن نعتقد أن ذات الله تعالى لا يحويه مكان ولا يوصف بالتغير والانتقال".
أما العالم الأشعري الكبير، الحافظ ابن عساكر، فيفصل الحديث عن تلك المسألة في كتابه "بيان اعتقاد أهل السنة"، بقوله إن الله "موجود قبل الخلق ليس له قبل ولا بعد، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف، ولا كل ولا بعض، ولا يقال متى كان، ولا أين كـان ولا كيف، كان ولا مكان، كون الأكوان، ودبر الزمان، لا يتقيد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان".
الكلام والساق واليد: كيف نفكر في صورة الله؟
الكلام والساق واليد: كيف نفكر في صورة الله؟
إذا كان السؤال حول مكان وجود الله، سؤالاً مهماً في السجال العقائدي بين الفريقين، فأن السؤال حول صورة الله، لم يكن أقل منه أهمية.
تيار أهل الحديث، اعتمد في الإجابة على هذا السؤال، على مجموعة من الآيات والأحاديث النبوية، من أهمها، ما أورده كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما: "أن الله خلق آدم على صورته..."، وهو الحديث الذي ورد في روايات أخرى "أن الله خلق آدم على صورة الرحمن".
ابن تيمية، أكد على أن الصورة المقصودة هي صورة الله نفسه، فقال في كتابه "نقض أساس التأسيس": "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في الحديث عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك...". ليس ذلك فحسب، بل أن ابن تيمية قد صحح الحديث الذي ورد فيه على لسان الرسول، وصف صورة الله: "رأيت ربي في المنام في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء".
ورغم أن الكثير من العلماء قد انتقدوا تصحيح ابن تيمية لهذا الحديث، لأن به تشبيهاً واضحاً للخالق، إلا أن كلام ابن تيمية نفسه في كتابه "تلبيس الجهمية" يتضح منه محاولته للوقوف موقفاً وسطاً في المسألة، إذ يؤكد في هذا الكتاب على أن الاعتقاد بإمكانية رؤية الله في المنام على تلك الصورة، لا تلزم أن تكون هي نفسها صورته الحقيقية، بل هي نوع من أنواع التشبيه الذي ينشأ في نفس الإنسان وتختلف عن الحقيقة، ومثله مثل رؤيا يوسف التي رأى فيها الشمس والقمر والكواكب يسجدون له، ذلك أن يوسف بالتأكيد لم ير تلك الأجرام في صورتها الحقيقية، بل رآها في صورة رمزية.
في السياق نفسه، ذهب ابن تيمية في كتابه "مجموع الفتاوى"، إلى أن كلام الله الوارد في مواطن متعددة من القرآن الكريم، ككلامه مع موسى مثلاً، كان بصوت، فقال: "وليس في الأئمة والسلف من قال: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة...".
وبالطريقة نفسها، قال بعض أهل الحديث، في تفسير الآية رقم 42 من سورة القلم: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ"، بأن الساق المقصودة في الآية هي ساق الله، معتمدين في ذلك على ما ورد عن الصحابي عبد الله بن مسعود في قوله في تفسير تلك الآية: "يكشف عن ساقه تبارك وتعالى"، وأيضاً ما أورده البخاري في صحيحه من القول المنسوب للرسول: "يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً".
أما فيما يخص الآية رقم 10 من سورة الفتح: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً"، فقد ذهب العديد من علماء أهل الحديث إلى كونها يداً حقيقية لله.
من هنا، فلم يكن من الغريب أن نجد عالماً أشعرياً كبيراً، مثل القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، في كتابه "العواصم من القواصم"، يتعجّب أشد التعجّب من طريقة ومنهج أهل الحديث في فهم صفات الله تعالى، إذ يذكر قولهم في وصف صورة الله: "إن أراد أحد أن يعلم الله، فلينظر إلى نفسه، فإنه الله بعينه، إلا أن الله منزه عن الآفات، قديم لا أول له، دائم لا يفنى". كما ينقل في كتابه عن أحد أعلام الحنابلة في القرن الخامس للهجرة، وهو القاضي أبو يعلى، المعروف بابن الفراء، قوله متحدثاً عن أوصاف الله: "ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة".
تلك الرؤية التشبيهية لله، تم انتقادها من جانب الكثير من المؤولة، والذين ذهبوا إلى أن الصورة الواردة في حديث خلق آدم، إنما تعود على آدم، لا الله، كما رفضوا حديث الشاب الأمرد الذي صحّحه ابن تيمية، واعتبروه من الأحاديث المنكرة التي لا يمكن أن ينبني عليها أي اعتقاد سليم.
أما فيما يخص صفة الكلام، فأن أغلب الأشاعرة قد قالوا إن كلام الله ليس ككلام البشر، بحرف وصوت، ولكنه نوع من أنواع الكلام النفسي، الذي يوجده الله، ثم يعطي لبعض المخلوقات القدرة على تفهمه، ومن ذلك ما حدث مع جبريل والنبي موسى.
وفي السياق نفسه، رد المؤولة على أهل الحديث في مسألتي الساق واليد، فقالوا إن الساق الواردة في الآية تشير إلى الشدة، وقد ورد في تفسير ابن كثير، أن الصحابي عبد الله بن العباس قد فسّر "يوم يكشف عن ساق" بقوله "عن يوم كرب وشدة" وهو يوم القيامة، وما يقوّي من ذلك التفسير، أن التراكيب اللغوية العربية المعروفة قبل الإسلام، كانت تستخدم الساق في هذا المعنى، إذ كان من المعروف أن العرب تقول: كشف هذا الأمر عن ساق، إذا صار إلى شدة، وتقول: شمرت الحرب عن ساقها، إذا اشتدت.
أما اليد، فقد أولها المؤولة على كونها مجاز عن القوة، وقد ذكر ابن جرير الطبري، هذا المعنى في تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، فقال: "... قوّة الله فوق قوّتهم في نصرة رسوله، لأنهم إنما بايعوا رسول الله على نُصرته على العدو".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع