لم يكن رمضان يوماً شهري المفضل، والآن يأتي مع الحجر الصحي، المرابطة في المنزل ومراقبة نيسان وهو يمضي دون أن يعوضني عن الشتاء الكئيب، كل ذلك مع استمرار العزلة غير الاختيارية.
ربما لم أجلس في المنزل كل هذه الفترة منذ أيام التحضير استعداداً لامتحانات البكالوريا، أن تعاني من فرط التفكير وتحليل كل ما يمر أمامك، فالجلوس بمفردك كل هذا الوقت هو المصيبة الحقيقية، هو الخوف من نفسك، من أفكارك. قال لي صديق مرة، جرّبي ألا تفكري بشيء لساعة واحدة فقط، جربي أن يكون دماغك فارغاً، فكري باللاشيء. كانت أهم مخططاتي قبل كورونا الالتحاق بصف اليوغا وممارسة " التأمل"، فالساعة الوحيدة التي لا أفكر فيها بشيء هي في الصباح، وأنا أتأمل أضواء السقف في النادي الرياضي، لذلك أكره أن يرافقني أحد إلى هناك، هي ساعة الصفاء الوحيدة.
أن تكوني في الحجر، بعد مرور شهر، هو أن تفقدي القدرة على التواصل شيئاً فشيئاً، وكأنك مراقبة خارجية تتأمل العالم، وكلما ابتعدت زادت دهشتك من هذا العالم الغريب، ومع ابتعادك الحسّي عن أصدقائك وزملاء العمل، ومراقبتهم افتراضياً فقط، تشعرين وكأنك أمام أشخاص جدد، ترينهم عن بعد لأول مرة، بحيادية، تستغربينهم قليلاً ثم تتفهمينهم لأنك تحبينهم.
أتأمل، عبر الشاشة، صالات التعازي الافتراضية، تصريحات "ترامب" السريالية، التعليقات السنوية عن انهيار الدراما، بينما أتابع "بيكي بلايندرز" وأحنّ لشخصيات "تخت شرقي"، أبكي مجدداً في الإعادة الثالثة لفيلم أصغر فرهادي "انفصال" ولا أتأثر بمشاهد يفترض أنها تراجيدية، في مسلسل سوري "معاصر"، مع أني لم أتمكن من فهم ماذا يعاصر تحديداً؟!، أتعاطف مجدداً مع بطل "قصة زواج" في الإعادة الثانية، أتفهّم عادته السيئة في إطفاء أنوار أي غرفة يغادرها، أشتاق لأختي، وأتذكر شجاراتنا المستمرة: أنا أطفئ النور وهي تشعله.
أن تكوني في الحجر، بعد مرور شهر، هو أن تفقدي القدرة على التواصل، وكأنك مراقبة خارجية تتأمل العالم، وكلما ابتعدت زادت دهشتك من هذا العالم الغريب، ومع ابتعادك الحسّي عن أصدقائك وزملاء العمل، ومراقبتهم افتراضياً فقط، تشعرين وكأنك أمام أشخاص جدد، ترينهم عن بعد لأول مرة، بحيادية، تستغربينهم قليلاً ثم تتفهمينهم لأنك تحبينهم
أن تفصل الشاشة بينك وبين العالم، أن تتابعيه عن بعد، أن تفقدي الاتصال بما يدور في الخارج، أن تري الحياة وكأنك تشاهدين فيلماً خرجت منه للتو، بعد أن كنت أحد الممثلين الرئيسيين أو الثانويين، حتى الكومبارس يُحدث غيابهم خللاً، لا يكتمل الفيلم دون جوقة المصفقين، دون الناس المحتشدة في المعارك، دون العابرين الذين يضفون الزحام على الشوارع، وفي كل الأحوال كنت بطلة فيلمك على الأقل، أما الآن فأنت تشاهدين الفيلم ولا تدرين كيف ستقتحمينه مرة أخرى.
الوحدة أحياناً أن تراقبي السقف، أن تتحدثي معه، أن يكون الشاهد الوحيد على حماقاتك السرية وتفاصيل عزلتك التي لا تريدين أن يشاهدها أحد، هكذا يخبرني بطل الرواية التي كنت أقرؤها، يذكرني بعزيز نيسين، وكيف كانت المرايا هي الشاهدة على فضائح أبطال قصته وأحاديثهم السرية التي يجب ألا يعرفها أحد. ربما لذلك أفضّل المرايا المختبئة في باب الخزانة، المرآة صديقتي دائماً، ولكن في الحجر بردت علاقتنا، لا طاقة لي على الاهتمام بشيء، أتجاهل الشعرات الفوضوية فوق حاجبي التي تعايرني بها المرآة، وأغلق باب الخزانة في وجهها.
أن تكوني مراقبة لكل شيء إلا الوقت، أن تريه ينسل من بين أصابعك، أن تلاحقيه وتهربي منه، أن تكتبي مهامك اللاحقة والمؤجلة، ولكن لا "ديد لاين" في الأفق، لا شيء سوى دهشتك وأنت تكتشفين أنك على مشارف شهر جديد، أفكر أحياناً: لماذا اخترعنا الوقت، ولماذا تحسب الأيام الهامشية زمناً؟
في العزلة تتوطد علاقتي مع الأشياء، أتعاطف مع سترتي الربيعية المعلقة في الخزانة منذ أشهر، مع حافظة القهوة الجديدة التي لم تغادر المنزل منذ أن اشتريتها، الأحذية الرياضية التي لم أرتدها بعد، لابتوبي القديم الذي وعدته ببطارية جديدة هذا الشهر.
أما هرموناتي فتعيش أيامها الذهبية في الحجر، تحركني كالماريونيت، من قمة السعادة إلى قمة اليأس، أمضي أياماً أتمنى ألا تنتهي لفرط حماستي للأشياء، تتبعها أيام أتفهّم فيها حق الجميع في رميي من الشرفة لمزاجي السيء.
يقول نزيه أبو عفش: "وحدها الموسيقى قادرة على شفائنا من آلام الصمت"، في هذا الصمت المهيب الذي أخاف، ترافقني الموسيقى كعادتها، تحميني من ضجيج أفكاري، تأخذني بعيداً لأعيش حيوات أخرى، تلطف وقع الذكريات التي تلح في لحظات الوحدة، تخفف جلد الذات، تجعلني ألطف مع نفسي، تأخذني لحضن كل من أحب، وتساعدني لأنسى وأودع كل ما أكره.
ما الفرق بين الحياة المؤجلة إلى ما بعد الحجر، والحياة المؤجلة دائماً في روتينها الذي لا ينتهي، في تلك الدورة غير المنتهية، بين امتلاكنا للأشياء وفقدان إحساسنا بقيمتها حال حصولنا عليها، هل حنيننا اليوم لفنجان قهوة في الكافيه الصغير في الجوار، للوجبة المفضلة في أحد المطاعم أو لبيرة باردة في باب شرقي، هو مؤشر لانخفاض سقف الأحلام؟
ما الفرق بين الحياة المؤجلة إلى ما بعد الحجر، والحياة المؤجلة دائماً في روتينها الذي لا ينتهي، في تلك الدورة غير المنتهية، بين امتلاكنا للأشياء وفقدان إحساسنا بقيمتها حال حصولنا عليها، هل حنيننا اليوم لفنجان قهوة في الكافيه الصغير في الجوار، للوجبة المفضلة في أحد المطاعم أو لبيرة باردة في باب شرقي، هو مؤشر لانخفاض سقف الأحلام، أم هو عودة الشعور بالمتع الصغيرة المنسية في عجلة الحياة السريعة؟
أراقب الشارع الخالي ثم أعود إلى الشاشة لأسال "غوغل" عن اقتراحات جديدة لتمضية الوقت خلال الحجر الصحي، يسألني: "هل أنت روبوت؟"، أفكر قليلاً: ربما... أمهلني شهراً آخر في الحجر لأتأكد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينمقال أكثر من رائع. قمة الإبداع والرقي. شكرا.
Salim Abdali -
منذ 3 أياماتابع يومياتك الأليمة، وشكرا يا شاعر لنقلك هذه الصور التي رغم الالام التي تحملها، الا انها شهادات تفضح غياب الضمير الانساني!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامماذا لو أن النبي بداية منذ أواخر سنواته الشريفات وحتى اليوم كان محروماً من حقوقه في أمته مثلما أن المرأة قد حرمت حقوقها وأكثر؟ وأنه قد تم إيداعه "معنوياً" في غرفة مقفلة وأن كل من تصدر باسمه نشر فكره الخاص باسمه بداية من أول يوم مات فيه النبي محمد؟ إن سبب عدم وجود أجوبة هو انحصار الرؤية في تاريخ ومذهب أو بالأحرى "تدين" واحد. توسيع الرؤيا يقع بالعين على مظلومية محمد النبي والانسان الحقيقي ومشروعه الانساني. وجعل القرءان الدستور الذي يرد اليه كل شيء والاطلاع إلى سيرة أهل البيت بدون المزايدات ولا التنقصات والتحيزات يرتفع بالانسان من ضحالة القوقعة المذهبية إلى جعل الإنسان يضع الكون كاملاً والخليقة أمام عينيه ولا يجعله يعشق التحكم في الآخر.
إن وصف القرءان للنساء بأنهم نساء منذ طفولتهن بعكس الرجال الذين هم بنين ثم يصيرون رجالاً هو وصف بأن المرأة منذ الصغر تولد أقرب بكثير للتقوى الذي هو النضج وكف العدوان بينما للرجل رحلة طويلة في سبيل التقوى التي هي كف العدوان وليس فقط تدوير المسبحات في الأيدي.
مشروع محمد لم يكتمل لأن "رفاقه" نظروا له على أنه ملك ويجب وراثته والتعامل مع تراثه كملك. أما الذين فهموا مشروعه وكانوا أبواب المشروع الانساني فقد تم قتلهم وتشريدهم وفي أحسن الاحوال عزلهم السياسي والثقافي حتى قال الإمام علي أنه يرى تراثه نهباً أي منهوب.
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياماوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ 5 أياممبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ 6 أياملقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي