كتب ألبير كامو في صحيفة "combat" السرية، في أغسطس 1944: "مرة أخرى يتم شراء العدالة بدم الرجال"، لكن سليمان رشدي يعيد الكرة الإنسانية إلى كامو المفعم بالحماس ضد النازية في ذلك الوقت، قائلاً في "الآيات الشيطانية": "العنف هو نبيذ الدم الذي يجب ألا نشربه بعد الآن"، وبين الحرية والعدالة المدفوع ثمنها دماً كبيراً والدماء التي تسيل على مذبح "طهارة" المحاربين وبين "نجاسة" دم حيض النساء، ثمة تاريخ كامل من المعاني المتباينة التي تظهر للعيان أو تردم تحت ركام التحريم، فلم يأخذ الدم هذه الصفات المتفاوتة عبر التاريخ؟
تتابع الصحفية البريطانية روز جورج في كتابها "Nine pints" وهي كمية الدم الذي يحتويه جسد الإنسان بالمقاييس الإنكليزية، مسيرة الدم عبر التاريخ، وهي لا تمتحن الخصائص الفريدة وغير المعتادة لهذه المادة المذهلة فقط، لكنها تتبع ارتباطها أيضاً بالحياة والموت، الأرض والتراب، المعاني والتضحية، تكتب: "إن هذا السائل الأحمر اللامع يحتوي أيضاً على الماء والملح، مثل البحر الذي ربما جئنا منه". هنا قراءة للكتاب على ضوء قراءة الكاتب جيروم جروبمان في صحيفة نيويورك تايمز.
الدم المضحى به
لم تكن الشعوب القديمة تعرف شيئاً عن الكريات الحمراء والبيضاء ولا الصفيحات الدموية، لم تكن تقسم الدم إلى زمر ومجموعات لكنها كانت مفتونة بالدم، كان الدم يبدو لهم شيئاً سرياً وغامضاً لا يرى إلا عند النزيف من جرح أو الولادة، لذا أصبح رمزاً للموت والحياة، كصورة بوجهين متعاكسين تماماً، وجه باسم والآخر باكي، وجه محيي ووجه مميت، لذا ظهر الدم في العديد من التقاليد الدينية، بمثابة نوع من المقايضة بين البشر والآلهة، حتى من قبل الديانات الإبراهيمية وظهور أسطورة افتداء إسماعيل، عند المسلمين، أو إسحق عند اليهود، "بكبش عظيم"، تأتي الكلمة في الإنكليزية من اللاتينية "sacrum-facer" وهي تعني إما جعل المدنس مقدساً أو القيام بلفتة مقدسة، أما في العربية فتأتي من زمن "الضحى" وهو وقت القيام بالواجبات المقدسة على ما يبدو، وبكل الأحوال يبدو ذلك نوع من الاستبدال، استبدال حياة بحياة، أو دماً يصحّ أن يسفح بدم يجب أن يستمرّ، حيث يعطي الإنسان من ماله، او حياته، أو عائلته، كما في التضحيات الوطنية على سبيل المثال، للآلهة لتقوم بالصفح عنه.
التضحية يجب أن تتضمن تدمير المضحّى به تماماً، سفك دمه على المذبح أو البقعة المقدسة، يجب أن يجري الدم ليعتبر الأمر تضحية وإلا فلا قيمة للمضحّى به
والملاحظ أن التضحية يجب أن يتضمن تدمير المضحّى به تماماً، سفك دمه على المذبح أو البقعة المقدسة، يجب أن يجري الدم ليعتبر الأمر تضحية وإلا فلا قيمة للمضحّى به، ورد عن عائشة أن النبي قال: "ما عمل بن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض"، رواه الترمذي وابن ماجه.
جاء في كتاب أحكام الأضحية لمحمد بن صالح العثيمين، أن من شروط صحة الأضحية أن يجري الدم منها بقوة، عملاً بحديث الرسول: "ما أنهر الدم وجرى اسم الله عليه فكلوه"، وأيضاً مما جاء في القرآن، فصلّ لربك وانحر، ومن النحر إجراء الدم على الأرض، لكن من شروط التضحية أيضاً لضمان "نقائها" وقبولها من الرب المضحى له بها، كما تورد الصحفية روز، التأكد من خلوّ اللحم من الدم ولوكان مقداراً بسيطاً، فلتحليل اللحوم شرط آخر غير النحر من العنق هو وجوب تصفية دمها تماماً كأنه دنس، فإهراقه شيء وتناوله شيء آخر، وتتشابه في ذلك العقيدتان اليهودية والإسلامية في رفض أكل الدم، ووجوب تصفية الذبيحة من دمها، لكن عقيدة أخرى بينهما/ هي المسيحية جعلت من فكرة القيام بذلك ركناً رئيسياً من أركانها، ففي العشاء الأخير للمسيح أخذ الخمر والخبز وقال لتلاميذه: هذا جسدي فكلوه وهذا دمي فاشربوه، وأصبحت ذكرى القربان المقدس الركن الأساسي للمسيحية المبكرة، حيث تم افتداء المسيحيين وتعميدهم بدم المسيح حرفياً، وكأنها استعادة لعبادة الدم القديمة.
الدم والطب القديم
كان الأطباء العرب، بتأثير من جالينوس وأبقراط والمدرسة اليونانية القديمة، يظنون أن سوائل الإنسان تتألف من أربعة أخلاط تتوافق مع العناصر الأربعة، مثل الدم والصفراء والسوداء والبلغم، واعتقدوا أن الاختلال في توازن أحد الأخلاط على الآخر ينتج المرض، ويتم، حسب الاعتقاد السائد آنذاك، أن الدم ينتج في الكبد ويتم نقله عبر الأوردة إلى جميع أنحاء الجسم والغرض منه إيصال الحياة إلى الجسم، وبما أن الافرازات الثلاثة يتم طرحها بشكل دوري عبر الأجهزة الجسدية المختلفة، كالبراز والعرق والبول وإفرازات الأنف، فلم يتبق غير الدم الذي تتوجب معالجته عند حصول الأمراض، عبر الفصد، والذي هو إخراج كمية من الدم من أحد الأوردة أو الشرايين.
ويقول ابن سينا "إما أن يفصد لكثرة الدم أو لردائته أو كليهما"، ويحدد الأمراض التي يستفاد منها بالفصد، كعرق النسا والنقرس وأوجاع المفاصل والأورام وغير ذلك، وهناك طريقة مشابهة، طالما يكون الغرض هو استخراج ما يدعى بالدم الفاسد" وذلك عبر استخدام العلقات، أو الديدان التي تمتص الدم، وتبدي مؤلفة الكتاب روز دهشتها المتناهية من وجود أكثر من ستمائة نوع للعلق، وتذكر أن ثمة رسوم على جدران مقابر فرعونية تظهر إله الشفاء وهو يحمل علقة، كدليل على استخدام هذه الطريقة منذ أكثر من 3000 عام، كما تذكر أن الأمر لم يكن على النحو الذي يبرره الطب الحديث بتخفيف الأورام إنما الأمر روحاني إلى حد ما، حيث تمثل عملية طرد الدم الفاسد نوعاً من التطهير والخلاص من "الشر" الكامن داخل الجسد.
كما تذكر بعض المعتقدات القديمة المماثلة لطرد الفساد من الجسد وذلك عبر استبدال الدم الفاسد بدم آخر طاهر لأطفال على سبيل المثال، بأمل استحضار براءتهم الشابة وطاقتهم اليانعة عبر شرب دمائهم، وقد استمرت هذه المعتقدات لفترة طويلة، كما تذكر روز ، حتى قبل الثورة العلمية، لتقطير واستخراج "روح الدم" كدواء سحري يعيد الشباب المفقود.
الدم الفاسد وطهارة النساء
لفترة طويلة نظر إلى فقدان الدم أو النزيف على أنه خطر على حياة صاحبه، لكن في بعض المعتقدات والثقافات التي لا تزال شائعة حتى اليوم، يمثل النزيف خطراً أيضاً على المجتمع ككل، كما في حالة الحيض مثلاً، حيث تذكر روز زيارتها إلى إحدى القرى الهندوسية النائية في غرب نيبال، حيث يطلق على النسوة الحائضات اسم "تشاو" والتي تعني "امرأة حائض لا يمكن لمسها"، حيث تعزل الحائض في غرفة خاصة أو منزل بعيد، ولا يمكنها لمس أي شيء، حتى أنها يجب ألا تأكل الحليب أو الزبدة فلربما تمرض البقرات التي تقوم بإنتاجها، بل يرمى لها الأرز المسلوق فقط من مسافة آمنة "بالطريقة التي يطعم بها الكلب".
ويمكن معرفة المزيد عن الحوادث المشابهة التي تحدث حالياً في الهند، عبر مقال "عن الثقافات العنصرية ضد الحائض"، المنشور في رصيف22.
تذكر روز أنه في وقت ليس ببعيد، كان يعتقد في أميركا أن اتصال المرأة الحائض باللحم ممكن أن يتسبب بإفساده، كما أن النساء بالقرب من الحدود بين باكستان وأفغانستان يقضين فترة حيضهن في معبد منعزل، لكن لهذه القوة التدميرية فائدة ما أيضاً، تقول: "كتب بليني الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي) كان بإمكان النسوة الحائضات إيقاف البذور عن الإنبات والتسبب بذبول النباتات وجعل الفاكهة تسقط عن الأشجار، لكن لهذه القوة التدميرية فائدة أيضاً فقد كانت الحائض قادرة على قتل سرب من النحل أو إيقاف البرد والبرق، ويمكن استخدامهن كنوع من المبيدات الحشرية: إذا تعرّت امرأة حائض وسارت في حقل ذرة فسوف تسقط الحشرات واليرقات والديدان المؤذية".
كتب بليني الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي) كان بإمكان النسوة الحائضات إيقاف البذور عن الإنبات والتسبب بذبول النباتات وجعل الفاكهة تسقط عن الأشجار، لكن لهذه القوة التدميرية فائدة أيضاً فقد كانت الحائض قادرة على قتل سرب من النحل أو إيقاف البرد والبرق، ويمكن استخدامهن كنوع من المبيدات الحشرية: إذا تعرّت امرأة حائض وسارت في حقل ذرة فسوف تسقط الحشرات واليرقات والديدان المؤذية"
في الإسلام لا يجوز للحائض أن تصلي أو تصوم، وإذا صلّت أو صامت فحرام عليها، لقول الرسول: "أليس إذا حاضَتِ لم تُصلِّ ولم تَصُم"، رواه البخاري، ويحرم عليها الجماع أيضاً والمكوث في المسجد، كذلك الأمر في اليهودية، حيث يحظر على الرجل مجالسة الحائض حتى، فتعتبر نجسة "كل من مسها يكون نجساً حتى المساء"، سفر اللاويين.
الكثير من التعابير المختلفة التي تعطي أحياناً استعارات متناقضة لهذه المفردة "الدم"، تمّ استخدمها وحقنها بالعديد من المفاهيم التي تتراوح بين المقدّس والمدنس، كما بين العنصري والإنساني، وما زال الإنسان، رغم التقدم العلمي الهائل، يحمل تلك النظرة المليئة بالقداسة والشعور بالخطر من هذه المفردة ومن هذا السائل، الذي يتدفق في جسده دون حاجة لابتهالات، ويبقى "الدم يجرّ الدم" كما يقول شكسبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون