قد تنطبق هذه المقولة بشكلٍ كبير على ما نعيشه حالياً في ظلّ ما فرضه علينا الفيروس الذي نمسك عن ذكر اسمه في هذا التقرير. فوجوده بات مملاً. وأصبحنا نحاول الهرب منه افتراضياً، تماماً كما في الواقع.
من وحي ما نعيشه، انطلق عدد من الأغنيات التي ستبقى حتماً عالقة في الأذهان، في ظل وباء لا يزال ضيفاً ثقيلاً على المدن وناسها. اللبنانيون قالوا إن بيروت لم تكن هادئة هكذا حتى خلال الحرب الأهلية، والسوريون يعيشون في صمت لم تعرفه دمشق "في أشد أيام الحرب وطأة".
"الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل".
ظهرت أُغنيات لـ"تُطبطب" علينا ربما. تتميّز بـ"حنّيّتها"، وبساطتها تعدّ غالباً قوّتها. تقول بعض كلمات إحداها: "كيفك بالبداية؟ مقضي وقتك كيف؟".
قد يصعب ترتيب هذه الأغاني. لكن المؤكد أن غالبيتها ستُضيف "شيئاً ما" إلى الأرواح المُتعبَة.
رسالة حبّ
"عم تخطر عَ بالي بالحجر الصحّي
بيخطرلي إكتبلك وعم برجع محّي
كيفك بالبداية؟ مقضي وقتك كيف؟
شو وضع الوقاية وشو وضع التنظيف؟
على رغم المسافة بالي معك محجور
بهالزمن الخرافي بهالعمر المهدور
ولو فرط هالكون بتبقى بقلبي هون
بعرف عم تضجر لحالك كرمالي ضحي"
كتب هذه الكلمات ولحّنها الشاعر والمؤلف الموسيقي اللبناني ريان الهبر وغنّتها المطربة اللبنانية شانتال بيطار تحت عنوان "بالحجر الصحّي". انتشرت الأغنية بشكل واسع على حيطان مواقع التواصل ربما لأن الحب "فائض" فيها، وهو ما نحتاجه في هذه الأحوال الصعبة على غير صعيد.
في حديث مع رصيف22، قال الهبر إن سبب انتشار الأغنية يعود إلى أن "الكلمات واللحن وأداء شانتال المرهف والسهل كانت قريبة من قلب المتلقي، وإن لم يكن يفكر بحبيبه، بل بشخص يحبّه فلا بد من أن يتساءل: ماذا يعمل هذا الشخص في هذا الوقت؟ هل ينتبه إلى نفسه؟".
ولفت الهبر إلى أن الغالبية العظمى تتشارك المشاعر نفسها في هذه المحنة. لذلك كانت الأغنية "قريبة من القلب". وكشف أن جزءاً من الفكرة جاءت من تجربة شخصية عقب بُعده عن زوجته العالقة في دبي حالياً، إذ لم يستطع السفر إليها من بيروت، كما لم تستطع هي العودة بسبب إغلاق المطارات.
وبعد نحو عشرين يوماً من أداء شانتال المقطع الأول من أغنية "الحجر الصحي" بفيديو قصير، وبعد تلقي ردود الأفعال، أطلق الهبر بالتعاون مع برنامج "صباح الخير يا عرب" في 22 أبريل/نيسان الأغنية كاملة ومُوزعة موسيقياً.
جولة على أبرز الأعمال الفنيّة التي وُلدت من وحي ما نعيشه... وحديث مع أصحابها
كسر العزلة القسرية
في عداد الذين قرروا خوض تجربة الغناء عن بُعد، على أمل تخفيف حدّة العزلة التي لا يزال البعض يحاول اعتيادها، أعضاء الأوركسترا السورية "أورنينا" التي كان لرصيف22 حوار مع قائدها المؤلف الموسيقي شفيع بدر الدين المقيم في لوكسمبورغ والذي أسس الأوركسترا مع نخبة من الموسيقيين/ات السوريين/ات في الشتات.
استهل بدر الدين الكلام قائلاً: "عقب الأسبوع الأول من الحجر بدأت تصلنا مقاطع مصورة لشرفات الإيطاليين المحجوزين في منازلهم. كانت نوافذهم معابر اجتماعية ترمم ما أمكن من عزلتهم. بدت واضحةً أهمية الفنون في دعم الحالة النفسية والاجتماعية للناس في هذا الظرف. وعلى ما يبدو أدرك الجميع الدور المفيد للفنون، فثمة دور للأوبرا أتاحت عروضها المسجلة لعموم الناس، كذلك فعلت بعض مؤسسات عروض السينما وغيرها. في هذا الإطار ابتدع الموسيقيون فكرة العزف معاً وإن عن بعد!".
"بدت واضحةً أهمية الفنون في دعم الحالة النفسية والاجتماعية للناس في هذا الظرف".
ولفت إلى أن أوركسترا "أورنينا" واكبت سريعاً هذه الحركة، وقررت تقديم عمل موسيقي يساعد الناس في عزلتهم القسرية. وتابع: "طبعاً لم تكن المهمة سهلة خاصة أن الأمر جديد ولا نعرف ماهية التقنيات المستخدمة على وجه الدقة، إلا أن الصعوبات ذُللت بفضل التقنيات الحديثة ووسائل التواصل".
وأضاف: "الإشكال الأهم هو رسم خطة عمل دقيقة لتنفيذ المشروع. وهذا ما قمت به مع موسيقيين وإداريين في الأوركسترا ثم بدأنا التنفيذ. بكل تتأكيد كان لا بد من لائحة قواعد عامة لكل الموسيقيين والمغنّين حتى نحصل على الحد الأدنى من مستوى الصوت والصورة، والأهم السرعة الإيقاعية والمزامنة...".
وأكّد أن "التجربة كانت مهمة ومفيدة جداً على الصعيدين المهني والإنساني من خلال علاقتنا بجمهورنا".
ونشرت الأوركسترا في 4 نيسان/ أبريل أغنية "يا حلو يا مسليني" ضمن مشروع "خليك بالبيت". وبعدما لاقت الأغنية انتشاراً واسعاً، طرحت أغنية "يا مال الشام" في 19 نيسان/ أبريل بأصوات عدد أكبر من الفنانين والفنانات. قال بدر الدين إن ما يميّز هوية الأوركسترا الصوتية في تقديم التراث الموسيقي الشرقي هو أنها تقوم دائماً بقراءة جديدة للعمل الموسيقي الذي تقدمه من خلال الإعداد والتوزيع الموسيقيين.
وتابع: "هذا النوع من العروض مرتبط بالظرف الحالي، ولا نعرف هل يستمر طويلاً أم لا. نأمل استعادة الناس حياتها العادية. وإذا اقتضت الحاجة إلى الترفيه والمساعدة فلن نتردد في لعب دورنا".
وختم بأن لا مجال للمقارنة بين العرض الحي والعمل المسجل، لافتاً إلى أن العروض الحية تبقى الأهم بالنسبة إلى الموسيقيين والمتلقي. وأضاف: "وحدة الفضاء الفيزيائي الذي يجمع الموسيقيين والجمهور يتجاوز الحيز الجغرافي، إذ يتحول إلى شبكة تواصل رهيبة تقوم بتبادل أثر كل صوت، وكل زفرة. هي شبكة تنقل العواطف والأفكار إلى كل أفراد هذا الفضاء، الذي يتوحد بمن فيه ويشكّل كائناً واحداً بالغ الحساسية والجمال".
من السهل أن ننسى التفكير في الآخرين
كذلك لحّنت وغنّت المطربة الفلسطينية ناي البرغوثي مقاطع من قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش "فكّر بغيرك"، في 22 نيسان/أبريل الجاري، ورافقها عزفاً على القانون الفنان خليل خوري.
تقول كلمات قصيدة درويش:
"فكّر بغيرك، وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك، لا تنس قوت الحمام.
فكّر بغيرك، وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك، لا تنس من يطلبون السلام.
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك، من يرضعون الغمام.
وأنت تعود الي البيت، بيتك، فكر بغيرك، لا تنس شعب الخيام.
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك، ثمة من لم يجد حيزاً للمنام.
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك، من فقدوا حقهم في الكلام.
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك، قل: ليتني شمعة في الظلام".
وظهرت في الفيديو المصوّر للأغنية عبارات مثل:
"عزيزي العالم، هل عرفت شعور فراق حبيب؟" - العراق.
"عزيزي العالم، ما رأيك بحظر التجول والسفر؟" - فلسطين.
"عزيزي العالم، هل حزنت على إغلاق مطعمك المفضل؟" - اليمن.
تقول ناي في حوار مع رصيف22 إنها شعرت خلال هذا الوقت العصيب بحاجتها إلى "فعل شيء للتعبير عن نفسها كفنانة ولتعزيز مفهوم التضامن العالمي، فانتهى بها الأمر إلى استخدام كاميرا هاتف ذكي وإمكانات ضئيلة لإنجاز هذا العمل".
وتابعت: "اخترت هذه القصيدة لارتباطها بوضعنا القائم. من السهل أن نغرق في التفكير بمشاكلنا ومخاوفنا وننسى غيرنا، كالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي، والمحرومين من الحقوق الإنسانية، وشعبنا في غزة بعد تعرضه لمنع السفر والحجر ومنع التجول سنوات مديدة، والقائمة طويلة. لذلك استخدمت 13 صورة من مناطق مختلفة من العالم لتذكرنا بأن نفكر بغيرنا".
وأشارت إلى أن الهدف الوحيد من هذا المشروع هو "الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس في جميع أنحاء العالم لربط نضالنا ضد الاضطهاد بمواجهتنا هذه الجائحة الفتاكة".
وختمت: "في هذا العمل دمجت اللحن الملتزم بصوت القانون النقي وارتجال غنائي يستخدم تكنيك الصوت كآلة، فضلاً عن إلقاء الراحل الكبير محمود درويش والصور العالمية التي تخاطبنا كلنا أينما كنا. هنا تكمن أهمية العمل".
"من السهل أن نغرق في التفكير بمشاكلنا ومخاوفنا وننسى أن نفكر بغيرنا: الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وشعبنا في غزة بعد منعه من السفر والتجول سنوات مديدة، والقائمة طويلة"
"كنت ناوي..."
"كنت ناوي أغير حياتي بـ2020
كنت ناوي ألفّ العالم قبل الـ30
كنت ناوي أترك البلد وأسافر ع الصين
كنت ناوي أتجوز حبيبتي الوحيدة ياسمين
بس طلعلي فيروس..."
بالكوميديا الساخرة، قرر الستاند أب كوميديان الفلسطيني عدي خليفة أن يحكي كيف "قضى" الفيروس على مخططات العام.
أضرّ الفيروس خليفة شخصياً، كما أضرّ الملايين في جميع أنحاء العالم. قال لرصيف22: "العروض التي كان من المفترض إحياؤها في الصيف أُلغيت كلها". لذا قرر إنجاز أغنية تتحدث عنه وعن الآخرين كي يشعروا ببعض "الارتياح" لأن الجميع في القارب نفسه.
وأراد أيضاً الإشارة إلى خطورة الفيروس، خاصةً في الجزء الأخير من الأغنية برغم أنها كوميدية، وهو: "الله يستر من اللي جاي يا بني آدمين، الله يعدي السنة على خير، قولوا آمين".
ولفت إلى أنه شاء مزج الكوميديا والموسيقى معاً. قال: "من إيجابيات الفيروس أنه أنصف البشر في عالم غير منصف، وجعلنا نرتّب أولوياتنا وندرك أن لا شيء مضموناً. المصيبة تكمن عودة عالمنا إلى ما كان عليه".
يعمل خليفة حالياً على "ساعة ستاند أب كوميدي" باللغتين العربية والإنجليزية، على أن يطرحها في غضون أسبوعين.
"نصحانة خمسة كيلو"
من الأعمال الكوميدية الاجتماعية التي انطلقت من وحي الحجر المنزلي أغنية "5 كيلو" لرسامة الكاريكاتور والمغنية الفلسطينية أمل زياد كعوش التي أهدتها إلى "كل حدا ضرسه طيّب وبيعرف طعمة تمّه، كل حدا بيحبّ يطبخ وكل حدا اكتشف مهاراته بالطبخ خلال فترة الحجر الصحّي وعم يبدع!"، وهي من تأليفها وتلحينها.
يقول ختامها:
"نصحانة خمسة كيلو! هذا شيء مش قليل
إني أنصح خمسة كيلو يا حبيبي
هل أنت في فريقي من جماعة شطّ ريقي؟
إن جاوبت "كلّا" يعني فش نصيبِ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...