شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"مؤدبة عند الناس وعاهرة في سرير زوجي"… وجميعنا نكذب يا أمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 24 أبريل 202011:45 ص


نظرت في المرآة وبدأت أبدّل تعابير وجهي، أضحك، أعبس، أكشر، أنظر طويلاً بلا أي تعابير، ابتسم، أبكي، وفجأة اكتشفت قدرتي على التمثيل، لم تكن موهبة وإنما خبرة تراكمت مع الزمن، لم يتخرج أي من أساتذتي من المعهد المسرحي لكنهم كانوا أصحاب خبرة أيضاً.

أدوار كثيرة لعبتها عبر حياتي، حوّلتني إلى ممثلة محترفة، أبدّل الأزياء والماكياج حسب كل دور، العائلة والمجتمع يفرضان علينا أدواراً أشبه بالأدوار المسرحية التي نتقنها مع مرور الوقت وتذوب داخلنا، لنتحول من شخصية واحدة إلى مجموعة شخصيات مجتمعة، لكل منها وجه.

ورغم مرور تسعة أعوام على الثورة السورية، ومروري بكثير من البلدان والمجتمعات، إلا أني ما زلت أكسر يومياً قطعاً من أقنعة تعودت ارتداءها حتى باتت جزءاً مني.

في الطفولة، دربني أهلي أولاً على دور الطفلة المهذبة، لا أسبّ، لا أصرخ، وليس من حقي أن أغضب، وإن بكيت تنظر أمي في عيوني قائلة: "ابلعيها"، فأغصّ بدموعي، ولكن أنفّذ المطلوب بصعوبة وأبلعها، وحين نذهب لزيارة إحدى صديقات والدتي، أمثّل دور الفتاة المؤدبة نصف الخرساء، التي لا تتكلم إلا إذا سُئلت، وإنْ عرضوا عليّ شيئاً يؤكل كان عليّ أن أرفض أولاً، حتى أبرهن أني "شبعانة في بيت أهلي"، وفي حال إصرار المضيفة "الكريمة" آخذ قطعة واحدة فقط، وكنت أسأل نفسي لمَ لا يمكنني مشاركتهم بإلقاء دعابة مثلاً؟ ولم لا يمكنني أن آكل كل شيء؟

نكبر وتزيد الأدوار بالطبع، في العمل، على الملابس أن تكون حيادية تماماً، مع إخفاء معالم الأنوثة وعدم التفكير حتى باستلطاف أحد الزملاء، وعليّ انتقاء الكلمات المناسبة عند التحدث مع أي زميل، بغضّ النظر عن رأيي به، وعليّ احترام المديرة أو المدير، والنقاش معهم بعقل وتروٍّ، وتجنّب الشتم أو استخدام أي كلمة "سوقية".

في الأماكن العامة، احتراف ضبط الوجه، وتجنّب إظهار أي تعابير، مع المحاولة الدائمة لتفادي النظر في عيون الناس مباشرة، وابتسامة باردة من حين لآخر لكسر الجليد، كما يُمنع الضحك بصوت مرتفع.

مع الأصدقاء تختلف الأدوار حسب الدائرة، الأصدقاء المؤمنون بالعائلة والحياة الزوجية لهم قناع يختلف عن أولئك المنفتحين والمثقفين، كما يختلف بالتأكيد عن قناع دائرة العلاقات السطحية.

المهم أن أقنع الجميع بالدور، وعند لقاء شاب يعجبني، تعلمت أولاً ألا أكشف نفسي تماماً ولا أياً من نقاط ضعفي، الدور المطلوب هنا هو دور الفتاة القوية الذكية التي ليست بحاجة لأحد، حتى هذا الشاب، بل أذكر قول إحدى صديقاتي لي: "إذا أعجبك شاب لا تنظري إليه... تجاهليه"، وكنت أسأل نفسي وكيف سيعرف أني معجبة به؟ كيف سيتجرأ على المبادرة بالحديث بينما أتجاهله؟ وإنْ تجرأ رغم تجاهلي، فالأرجح أنه من زمرة الشبّان المشاكسين، وربما من الأسلم الابتعاد عنه، احترت في أمر ذاك القناع العقيم، ومع الوقت اتسعت معرفتي وتعلمت أقنعة أخرى تتبدل حسب الشاب.

أدوار كثيرة لعبتها عبر حياتي، حوّلتني إلى ممثلة محترفة، أبدّل الأزياء والماكياج حسب كل دور، العائلة والمجتمع يفرضان علينا أدواراً أشبه بالأدوار المسرحية التي نتقنها مع مرور الوقت وتذوب داخلنا، لنتحول من شخصية واحدة إلى مجموعة شخصيات مجتمعة، لكل منها وجه

الأجمل في لعبة التمثيل هي الأدوار المتناقضة تماماً، ففي المطعم أمثّل دور الملكة، وفي سهرة الرقص دور الراقصة، وفي السرير "الزوجي حصراً" أضاجع كعاهرة، ارتداء أي قناع يزيد بُعدي عن ذاتي وعن إحساسي الحقيقي، أفكر كيف يجب أن أكون أكثر بكثير من عيشي اللحظة كما هي، لم أكن أستمتع بكثير من الأشياء، فأنا أعيشها عبر نافذة في حائط شيّد من كل ما يجب أن يكون، هناك أدوار مسموحة في مسرح المجتمع، وأخرى ممنوعة من المحاولة والعرض، ولذا لا يندرج التفكير بتكسير الأقنعة تحت أي نص من نصوص الأدوار والقوالب المجهزة من المجتمع، وأذكر يوماً سألت فيه نفسي: من أنا؟ ماذا أحب؟ وماذا أريد؟

إجاباتي على هذه الأسئلة تتغير حسب النصّ الذي فُرض عليّ حفظه وترديده دون تفكير، ومن كثرة الأقنعة ضاع وجهي ولم أعد أعرف نفسي، تهت وتذكرت جملة كانت أمي ترددها دائماً: "الشيء الوحيد الذي لا أطيقه في الحياة هو الكذب، افعلي ما تريدين ولكن لا تكذبي".

لكننا جميعاً نكذب يا أمي، أليس التمثيل نوعاً من الكذب؟ كنت أشتم آلاف الشتائم وأنا أقود سيارتي في دمشق، وأصرخ بأعلى صوتي غاضبة من تنمّر الرجال حين يرون امرأة تقود، وألعن الساعة التي وُلدت فيها في هذه المدينة، وعند وصولي إلى الإذاعة أتنفس، أبحث بين طبقات صوتي عن أكثرها هدوءاً ورزانة، وأدخل خشبة الإذاعة بفقرة البث الحي قائلة: "أحلى صباح لكل مستمعي أحلى بلد، سوريا".

أدوار كثيرة امتهنتها قسراً لا تشبه على الإطلاق كل ما أؤمن به، مثلاً، لم أكن أريد الزواج ولكن لعبت دور الزوجة الصالحة لأن المجتمع لا يقبل المساكنة مع من تحب، ولا وجود للعلاقات خارج إطار المؤسسة الزوجية، وحين قررت الانفصال، كان عليّ أن أتحول إلى "المطلَّقة"، وأن أتحمل كل ما يترتب عليها، من نظرة شفقة إلى السؤال عن الأسباب وتحميلي اللوم، وحتى الشعور بالدونية أحياناً.

أذكر محاولاتي المختلفة في مراهقتي للتمرد على مجتمعي، حيث كنت أنظر في عيون الناس وأسهب وأبحث بين العيون عن عين تفهمني فنبتسم، أظن أن الكثير من الناس فهموا المسرحية، فهي ليست سرية، فالجميع يلعب أدواره علناً، ولكن حين أعود إلى نفسي أسأل: "ماذا تريدين حقاً؟ من أنت؟"، سؤال بدأ مع سن المراهقة ومع قمع أهلي لأغلب محاولاتي للتمرد.

أليس التمثيل نوعاً من الكذب؟ كنت أشتم آلاف الشتائم وأنا أقود سيارتي في دمشق، وأصرخ بأعلى صوتي غاضبة من تنمّر الرجال حين يرون امرأة تقود، وألعن الساعة التي وُلدت فيها في هذه المدينة، وعند وصولي إلى الإذاعة أتنفس، أبحث بين طبقات صوتي عن أكثرها هدوءاً ورزانة، وأدخل فقرة البث الحي، قائلة: "أحلى صباح لكل مستمعي أحلى بلد، سوريا"

عاد هذا السؤال مع بداية الثورة السورية، حين تكسرت الكثير من حواجز الخوف، ورغم ظني أني كنت قد بنيت شخصيتي تماماً، اكتشفت أني ما زلت بعيدة جداً عن ذلك، فقد غطتني الأقنعة التي تحمل معها ضوابط لا شكلية فقط، بل ضوابط عميقة، لتخلق داخلي شخصية الشرطية التي تراقب كل الشخصيات الأخرى لتتأكد أنني لا أخالف النص، كلمات نقولها دون تفكير تحمل معها مشاعر أعمق مما تبدو: "كرامة"، ما هي الكرامة فعلاً؟ حرية؟ كيف أكون حرة حقاً؟ هل أخسر فعلاً كرامتي إذا اعترفت لشاب بحبي له ورفضني؟ أو إن بحت في السرير عما أحبه؟ في اليوم الذي أدركت أنني أخاطر فيه بحياتي بخروجي للتظاهر وسط إطلاق النار العشوائي ومقتل أشخاص حولي، دفعني للسؤال: هل أريد الموت في سبيل الحرية، أم الحياة بكل حرية؟

ورغم مرور تسعة أعوام على ذلك، ومروري بكثير من البلدان والمجتمعات، إلا أني ما زلت أكسر يومياً قطعاً من أقنعة تعودت ارتداءها حتى باتت جزءاً مني، كما أشعر بسماكة قناع جديد لبسته طوعاً أو قسراً، لتبرير أسلوبي في الحياة ومعتقداتي وأفكاري. وحدها، لحظات التلاشي في الوجود، ونظري نحو المحيط أو السماء، يدفعاني للتفكير بمدى صغري، ومدى قدرتي على أن أكون حرة مثل موجة، مثل عصفور، وإذا كنت أنا بطلة قصتي، ألا يحق لي أن أكون كما أريد أن أكون؟ دون تمثيل دون قناع... هكذا عارية تماماً، كما ولدت؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image