"علمناهم ع الشحدة سبقونا ع البواب"، هكذا قالت المتسولة مها (اسم مستعار)، ونبرة الغضب واضحة في حديثها، وعيناها تقدحان شرراً من فوق كمامتها، وهي تنظر إلى الجهة المقابلة، حيث متسولة أخرى تقف هناك مرتدية القفازات والكمامة.
مها إحدى المتسولات اللاتي أجريت معهن مقابلات لإعداد هذا التقرير، والذي جاءت فكرته من وحي مشاهدات، كشفت أن السبل الوقائية التي تدعو الحكومة الأردنية مواطنيها للالتزام بها تحسباً لعدوى فيروس كورونا، كان لها صدى وطاعة أيضاً من قبل فئة المتسولين، وكشفت أيضاً أنه من الصعب أن يلتزموا بقيود حظر التجول.
فمها مثل غيرها من زميلاتها وزملائها المتسولين، تقف على واحدة من الإشارات المرورية ترتدي كمامة صحية، وتدق بيديها اللتين ترتديان قفازات "ليكرا" على شبابيك السيارات طلباً للمال، وتقول: "بخاف يصيبني كورونا، شو مضمني اللي بيعطوني فلوس ما معهم كورونا؟!".
"بخاف يصيبني كورونا، شو مضمني اللي بيعطوني فلوس ما معهم كورونا؟!"
وعن سبب نبرة ونظرة الغضب للمتسولة الأخرى في الجهة المقابلة، أجابت مها ولهجة الثقة في كلامها، أنها من اخترعت فكرة ارتداء المتسولين الكمامات والقفازات، ولم تكن نيتها أن تشجّع منافسيها في مهنة التسول على تقليدها، ذلك أنها كانت تعتقد بأن حظر التجول المفروض على الأردن سيحد من المنافسة بين المتسولين، لا أن تكون فكرتها باتخاذ السبل الوقائية فرصة تشجع منافسيها للعودة إلى الشارع، وممارسة مهنة التسول حتى في حظر التجول.
"الحال بدون هالواسطة أصعب من قبل بكثير"، تقول مها في سياق حديثها عن تردي الحالة الاقتصادية لها ولعائلتها كمتسولين، في ظل حظر التجول في الأردن، خصوصاً وأن السماح بقيادة السيارات محدود جداً، ولفئات محددة سمحت الحكومة بمنحهم تصاريح تجوّل، "ومع هيك أجوا شحادين المنطقة وقلدوني عشان يخربوا علي"، تقول مها، وهي مستمرة باستهجان من قلدها بارتداء الكمامة والقفازات.
وعند سؤالها ما إذا استمرارها بعملها كمتسولة لا يشكل خطراً عليها، خصوصاً وأن التسول مهنة يعاقب عليها القانون، فضلاً عن أنها في الوقت ذاته تخالف قانون حظر التجول؟ أجابت مها: "أنا زيي زي هالناس ملتزمة بالأوقات المسموح فيها نكون بالشارع، أما إذا بخاف إنمسك؟ طبعاً بخاف بس بخاف أكتر يناموا ولادي جوعانين".
وعن المال الذي تكسبه خلال اليوم الواحد في أيام حظر التجول تقول: "احمدي ربك إذا قدرت أحصّل حق خبز وكم حبة خضرا لولادي، الله يرحم لما كانت يوميتي توصل مرات لتسعين دينار"، لافتة إلى أن تداعيات أزمة كورونا وأهمها حظر التجول: "تقريباً انقطع رزقي، هاد كورونا حاط راسه براس الفقرا والمسخمين اللي زيي"، تختم مها حديثها.
"احمدي ربك إذا قدرت أحصّل حق خبز وكم حبة خضرا لولادي، الله يرحم لما كانت يوميتي توصل مرات لتسعين دينار. تقريباً انقطع رزقي، هاد كورونا حاط راسه براس الفقرا والمسخمين اللي زيي"... متسولون في ظل أزمة كورونا وحظر التجول في الأردن
"ما بيقطع راسي إلا اللي خلقني، وأبوي كمان"
وعند الجهة المقابلة، حيث كانت "منافسة مها" تقف وابنها عند الإشارة الضوئية، رفضت تلك المتسولة الحديث معي، معتقدة أنني "مدسوسة من الشرطة" لأجل مراقبتها، بيد أن شاباً على الطرف الآخر، بادر عند سماع حديثي مع تلك المتسولة لإجراء مقابلة معه.
بدون أن أسأله قال الشاب، 17 عاماً، اسمه، حتى أنه أزاح الكمامة عن وجهه خلال الحديث، وعندما سألته: "طب مش خايف تمسكك الشرطة؟"، أجاب: "ما بيقطع راسي إلا اللي خلقني، وأبوي كمان"، قالها بصوت عالي وهو يضحك.
يومية ذلك الشاب كمتسول أيام حظر التجول لا تتعدى خمسة دنانير، وفق قوله، مشيراً إلى أنه يمارس مهنة التسول رغماً عنه، باعتباره الابن الأكبر لأسرته، وإذا لم يستمر بها، خصوصاً في أيام حظر التجول: "أهلي رح يناموا مو بس جوعانين وبالشارع كمان"، مرجحاً إذا ما استمر حظر التجول مفروضاً في الأردن لمدة طويلة: "حتلاقي كل الناس رح تنزل تشحد في الشوارع، الناس حيبطل معها حق ربطة خبز".
وعند سؤاله عن أسباب ارتدائه الكمامة والقفازات، قال: "بديش أجيب المرض لأهلي"، وختم وهو يضحك مرة ثانية: "معي هاي جين (كحول) كمان".
مشهد آخر رصدته في منطقة أخرى عن مكان أولئك المتسولين، حيث رأيت سيدة وابنتها تقفان أمام سوبر ماركت، تتوسلان من يخرج منه بإعطائها نقود، طبعاً أغلب من كانوا يخرجون من هناك كانوا يتجاهلون تلك النداءات، رغم أنها عالية الصوت وفيها حالة من الاستنجاد.
سألت رجلاً ممن تجاهلوا تلك النداءات، عن سبب رفضه إعطائها نقود، رد سريعاً: "هاي كذابة، ولو مش حاطة كمامة كان صورتها وبلغت عنها"، بالمقابل وخلال حديثه، شاهدت امرأة تعطي ابنة المتسولة نقوداً، وتطلب من والدتها أن تضع لها كمامة وقفازات مثلها.
"أهم شي النية"، ردت على سؤالي عن سبب منح ابنة المتسولة نقود، وقالت: "مو مهم إذا كذابة أو لا، أنا نيتي أساعد... الله يعين كل الناس".
وعندما سألتها كم كلفها ثمن القفازات والكمامة، أجابت المتسولة وهي تحاول أن تخفي وجه ابنتها وتضمه لقدميها: "والله شحدتهم شحدة كمان".
"بؤرة محتملة لانتقال فيروس كورونا"
ويعاقب من يمارس مهنة التسول وفق المادة 389 من قانون العقوبات الأردني بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة شهور، أو تقرر المحكمة إحالته إلى أي مؤسسة معينة من قبل وزير/ة التنمية الاجتماعية للعناية بالمتسولين، لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن ثلاث سنوات.
وتحصر المادة 389 مسؤولية استقصاء جرائم التسول، وإلقاء القبض على مرتكبيها، واستلام ما بحوزتهم من أموال وأشياء بوزارة التنمية الاجتماعية، إذ تنص الفقرة الرابعة من ذات المادة "لوزير التنمية الاجتماعية تكليف موظف أو أكثر لاستقصاء الجرائم الواردة في هذه المادة حول التسول وجمع الصدقات والتبرعات والقبض على مرتكبيها، ولهذه الغاية يكون للموظف المكلف صفة الضابطة العدلية".
بيد أن ملاحقة ومعاقبة المتسولين خلال فترة حظر التجول باتت من صلاحيات مديرية الأمن العام، بحسب ما أشار إليه أشرف خريس، الناطق الإعلامي باسم وزارة التنمية الاجتماعية، لرصيف22، ذلك أنه ونظراً لحالة حظر التجول التي يمرّ بها الأردن، فإن مسؤولية مكافحة المتسولين أصبحت في الوقت الحالي من اختصاص الأجهزة الأمنية، لأن المتسول، كما يضيف، شخص يخرق قانون الدفاع الذي تقضي أوامره بحظر التجول، إضافة إلى أن مديرية مكافحة التسول في وزارة التنمية الاجتماعية، وبالتعاون مع مديرية الأمن العام، هي الجهة المسؤولة عن ضبط ومكافحة المتسولين قبل قانون الدفاع.
واعتبر أن التسول، علاوة على أنه مخالف للمادة 389 من قانون العقوبات، فهو أيضاً يعد بؤرة محتملة لانتقال فيروس كورونا.
"أجد أنه من الضروري على الحكومة، وفي إطار الحُزَم الاقتصادية والمساندة التي أطلقتها هذه الفترة، أن تأخذ بعين الاعتبار فئة المعوزين والفقراء، وأن تلتف إلى أهمية شمولهم في برامج الحماية الاجتماعية التي تطلقها".. الخبير الحقوقي، أحمد عوض، في حديث لرصيف22
انكماش اقتصادي
أحمد عوض، مدير مركز حقوقي "الفينيق" للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال حديثه لرصيف22، يبين أن التسول نوعان: التسول كمهنة، يكون أصحابها محترفين ويعتبرون التسول وظيفة، وتسول الناس المحتاجين والمعوزين الذين جار عليهم الزمن وجعلهم متسولين.
وعن توقعاته ما إذا كانت تبعات أزمة كورونا الاقتصادية ستزيد من نسبة التسول في الأردن؟ قال عوض: "أجد أنه من الضروري على الحكومة، وفي إطار الحُزَم الاقتصادية والمساندة التي أطلقتها هذه الفترة، أن تأخذ بعين الاعتبار فئة المعوزين والفقراء، وأن تلتف إلى أهمية شمولهم في برامج الحماية الاجتماعية التي تطلقها".
فمستقبلاً، كما يضيف، من المتوقع أن الالتزامات والشروط الحياتية تصبح أكثر صعوبة، خصوصاً ما إذا طالت مدة حظر التجول في الأردن، وهنا أشار إلى حالة الانكماش الاقتصادي الذي وصل إليه الأردن مؤخراً، ووفق ما كشفه مؤشر صندوق النقد الدولي، حيث وصل تراجع الأردن اقتصادياً إلى 3.7%، الأمر الذي ينبه إلى حتمية تزايد أعداد البطالة مستقبلاً وزيادة نسبة الفقراء أيضاً، كل ذلك سيضغط على الأوضاع الاقتصادية، وبالتأكيد سيؤدي إلى تشجيع فئات في المجتمع الأردني على ممارسة التسول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 18 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري