شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
العيش تحت

العيش تحت "خط الفقر"... مشاهد من الحياة اليومية لأبناء بيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 6 مارس 202002:22 م

قبل الأزمة الاقتصادية التي يعيش لبنان تحت وطأتها، كانت الأرقام عن "الأحوال المعيشية للأسر في لبنان" تشير إلى أن ثلثها "أسر محرومة"، أي فقيرة أو فقيرة جداً.

هذه الأرقام صدرت عن "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق" واستندت إلى مسح جرى بين عامي 2014 و2015، وبيّنت أن الحال في بيروت أفضل بقليل منه في الأطراف إذ بلغت نسبة الأسر المحرومة أو المحرومة جداً فيها 27.4%.

تقريباً، كان هذا الرقم هو المؤشر عن أوضاع اللبنانيين. ولكن جميع الاقتصاديين يجمعون على أن الوضع تفاقم في الأشهر الأخيرة، ومعرفة حدود اتساع الفقر اليوم تحتاج إلى دراسات أخرى جدية. البنك الدولي كان قد حذّر من ارتفاع نسبة الفقر إلى 50% "إذا تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً".

هناك دراسات عن الفقر، وهناك "خط" للفقر، كما تقول الدراسات العلمية، رغم أن المصطلح يبقى مستفزاً. هذا التقرير ليس عن نسب الفقر بل مجرد مشاهدات من مدينة تنزلق تحت "الخط".

أوراق اللوتو الخاسرة

عادةً، تُعرف الشوارع بالباعة المتجوّلين. يصيرون، كما يُقال، جزءاً من ذاكرة المدينة. لا بديل من هذا التعبير "الكليشيه". أخيراً، انضم إلى الباعة المتجوّلين زملاء جدد، هم أشبه بـ"مضاربين"، يبيعون أشياء لا أحد يهتم بها، كالمناديل الورقية، العلكة، الوقت والكلام المعسول الذي لا يجد آذاناً تكترث.

في الأشرفية، أحد أحياء بيروت، هناك طفرة في عدد بائعي أوراق اللوتو واليانصيب.

واحد منهم يشير إلى صليب عملاق فوق صدره.

تسأله السيدة التي تداعب كلبها: أنت روم أو كاثوليك؟

يشير إلى الصليب.

تكرر السيدة السؤال وهي تُخرج ألف ليرة لبنانية من حقيبتها السوداء.

الناس حالياً تتململ من أوراق الحظ، وليس من الطائفية. ليس موقفاً ضدّ الباعة، بل لأنهم، حتى وإنْ فازوا، لن يمكنهم سحب الجائزة من المصارف. بعضهم يمزح. بعضهم يقول: هذه هي الحقيقة. بعضهم يصرف الوقت وهو يسحب، لأنه لا يملك شيئاً.

أمام مقهى "روسا"

ـ بونجور (صباح الخير)

لحظة لحظة يا أستاذ، أنا لبنانية

يتمتم الشاب كلمات غير مفهومة، يحاول الهرب من يدها الممدودة.

تتابع السيدة: والله أنا لبنانية.

هذا مشهد من أمام مقهى "روسا"، في شارع الحمرا البيروتي. هو مشهد يتكرر.

في "ستاربكس"

اقتحمت سيدة المقهى الواقع في شارع الحمرا نفسه. ليست من جماعة مقاطعة المحل. تحمل روزنامة، من تلك الروزنامات الوديعة التي لم تعد دارجة اليوم. تحاول إقناع الجالسين برفع وجوههم عن هواتفهم النقالة، والنظر إلى صورة السيدة العذراء، على الغلاف، وهي تبتسم.

يبالغون في التجاهل، وتبالغ في الإصرار. يزداد الموقف صعوبة عندما يحاول أحد العاملين في المقهى إقناعها بالخروج.

تقول: أنا لا أتسول.

يجيبها العامل بخجل: أعرف، أعرف.

تعرض عليه الروزنامة هو أيضاً.

داخل الطابق العلوي في أحد المقاهي

الرجل الذي يتحدث الإنكليزية بلكنة متكسرة يتظاهر بأنه تفاجأ بوجود شخص يتحدث إليه بالعربية. أمامه رجل في منتصف الأربعينيات من العمر، يرتدي بنطلون جينز، ويضع معطفاً رياضياً فوق كنزة صوفية كحلية. يشير إلى فنجان القهوة الكبير. عندما يجد أن المقدمات غير نافعة، يطلب أن يأخذه. الصبية الشقراء الجالسة إلى الطاولة تسمح له بذلك. الثانية تعترض، لكنها سرعان ما توافق. عندما توافق، يطلب منها أن تعطيه "خمسة آلاف ليرة". تبدو وكأنها خافت منه. يصل الموظف، ويبدو وكأنه صار يعرفه، وأن المتسول تسلل على غفلة منه.

يأخذ الفنجان ويغادر.

هناك دراسات عن الفقر، وهناك "خط" للفقر، كما تقول الدراسات العلمية، رغم أن المصطلح يبقى مستفزاً. هذا التقرير ليس عن نسب الفقر بل مجرد مشاهدات من مدينة بيروت تنزلق تحت "الخط"

قرب "مسرح المدينة"

لا ترغب المتسولة بالأخذ والرد. زميلتها مثلها، رغم أنها تبدو أقل خبرة منها. السيدة الأولى تركت الأطفال يبتعدون باتجاه محل "كببجي"، بينما تلتصق بالثانية طفلة صغيرة، على نحو يسمح لكثيرين من المارة بالافتراض أنها تفتعل، وهم يبحثون عما يعزز هذا الافتراض، لكي يتنصلوا من مهمة النظر إليها. السيدة الأولى تمسك عيون المارة بعينيها، ولا تزيح عنها شبراً واحداً. تنصب لهم فخاً. على الضفة المقابلة، في شارع الحمرا، قرب المحل الذي يبيع الساندويش بستة دولارات، تبدو المتسولة الثانية أكثر عاطفة مع المارة، من عاطفتهم أنفسهم تجاهها. تنتظر نهاية النهار من دون أن تسرف في الحديث. تستسلم للوقت. وقت بلا أي نكهة، يمضي لمجرد أن يمضي، مثل عيون المارة التي تنظر إليها، لمجرد أنها تنظر، وتمضي في طريقها.

تاكسي بيروت

يتجول جعفر باناهي في طهران، داخل سيارة تاكسي، لكي يلتقط الصور، لكي يقول إنه قادر على صناعة الأفلام حتى ولو منعوه. فيلم باناهي عبقري. يجعلك تشعر بحزن شديد لأجل صاحبه، من دون أن تعتبر الحزن موقفاً سياسياً بالضرورة. رحلة إلى مكان مزدحم بواسطة سجن متنقل، هذا هو فيلم باناهي.

أما في بيروت، فالفكرة ليست بحاجة إلى مُخرِج. في سيارة الأجرة، المتوجهة من البسطة، غرب بيروت، إلى الشرق نحو ساحة ساسين في الأشرفية، لا يكف السائق عن التذمر:

ـ من الركاب الذين يستقلون الحافلات لكي يوفّروا ألف ليرة لبنانية (أقل من نصف دولار)؛

ـ من شرطي المرور الذي يعتقد أنه سيقبض في النهاية تعويضاً يفوق المئة ألف دولار؛

ـ من العمال الأجانب الذين يعملون في كل شيء؛

ـ من النساء اللواتي يقدن السيارات؛

ـ من المذيعة في الراديو التي تمدح سياسياً مشهوراً؛

ـ من راكبة تقول له "شكراً" وتدير وجهها؛

ـ من الحُفَر؛

ـ من تحويلة السير قرب محلة السوديكو؛

ـ من صورة ممزقة على جدار لرئيس حكومة سابق؛

ـ من أولاده ومن مدارسهم؛

ـ من البلد؛

في النهاية يطلب ضعف القيمة التي يأخذها عادةً، ويذهب إلى حوار شاق:

- لماذا؟

- الدولار أصبح بـ2700 ليرة.

- وما علاقتي بذلك؟

- ما علاقتي أنا أيضاً بذلك؟

- السرفيس بألفين.

- كان الدولار بـ1500.

- السرفيس باللبناني وليس بالدولار.

- البنزين بالدولار.

- سعر النبزين لم يرتفع بعد.

- لكن ثمن الأكل ارتفع.

- (...)

"ما تبقى من خضار"

في شارع متفرع من جادة هادي نصر الله، وهو الشارع الرئيسي الذي يربط ضواحي بيروت الجنوبية ببعضها البعض، يترك "أبو حسن" محله مفتوحاً بعد التاسعة ليلاً. يجمع غلة النهار، ويترك المكان مفتوحاً للفقراء، لكي يأخذوا أجزاء مما تبقى. يجب أن نستعمل الكلمات المناسبة، لكي يأخذوا ما تبقى قبل أن يضطر إلى رميه في النفايات. ورغم أن ما تبقى لا يكون كثيراً، إلا أن الذين يأتون كثر. وقد لاحظ جار المحل، أن العدد في ارتفاع.

"ليس صحيحاً أن الفقر دائماً عبارة عن أرقام ومعدلات. أحياناً يكون مجرد شعور: ذلك التعب في عيون الجالسين أمام دور العبادة، وهم ينفقون ساعاتهم في التضرع إلى الله في الداخل، والتضرع إلى الذين تضرعوا إليه بدورهم في الخارج"

كما في المدن التي تحمل أثقال الماضي

قلما تجد أحداً يبتسم في وارسو، بولندا، أو في باريس، ذات يوم بارد. الناس مزدحمة ببعضها في انتظار وصول مترو الأنفاق. وإذا قرأت ميلان كونديرا في سن مبكرة، لشدة موهبته ستكاد تصدّق أن الناس لم تكن تضحك في تشيكيا لأكثر من خمسين عاماً خلت.

هناك أسباب للدعاية، وهناك جوانب من الصحة فيها، وهناك هوامش خطأ كبيرة. لكن في بيروت الفرضيات مختلفة قليلاً. المدينة صغيرة. لا دعاية. العبوس يزداد، وهناك الذين يقيسون "العرض والطلب"، على الابتسام.

ـ بائع عرانيس الذرة، على الكورنيش، يحفظ وجوهاً كثيرة، وينسى وجوهاً أخرى. يتذكر الذين يأتون للرياضة قبل مغيب الشمس بقليل، لأن هذا الموعد هو موعد الذروة بالنسبة إليه. قلة مَن لا تزال تشتري العرانيس التي تُباع بسعر مرتفع لا يقلّ عن دولارين... "حتى الأجانب"، لم يعودوا يشترونها يقول، ويعقّب: "ما حدا عم يقول مرحبا، الناس تعبانة".

ـ سائق "الفان رقم 4" (حافلة ركاب صغيرة) عابس دائماً. ينطلق من موقف الجامعة اللبنانية على تخوم ضواحي بيروت الجنوبية الفقيرة، ثم يشق طريقه عبرها ويتابع باتجاه وسط بيروت، قبل أن ينتهي في الحمرا، تحديداً على مقربة من الجامعة الأمريكية في بيروت. في رحلته الطويلة، من جامعة الطبقات الفقيرة وصولاً إلى جامعة الطلاب الميسورين، يلاحظ أن جميع الركاب "خائفون": "خوف، وليس حزناً، أو تعباً، أو حتى مجرد عبوس"، يؤكد. لديه تحليله للأسباب.

ـ ناطور البناية في منطقة مار الياس الراقية في بيروت لاحظ أن الناس لم تعد سعيدة أيضاً، وأن جلوسه على الكرسي، أمام المبنى، لم يعد مسلياً كما كان من قبل. يعرف أن أحوال البلد الاقتصادية سيئة "من زمان"، ولكن كانت الناس تضحك وتمزح. يفكّر بالعودة إلى سوريا. المفارقة أنه من إدلب.

هناك مظاهر كثيرة للفقر في بيروت، لكن العاملين في المنظمات التي تسمّي نفسها "إنسانية"، ينسون أن رواتبهم تحميهم من معالم يعتبرونها "إكزوتيكية"، كأن يمشي رجل بظهر محنٍ لكيلومترات، لكي يستقل الحافلة، لأن الحافلة لا تصل إلى كل مكان، فلا نقل عام في لبنان. ينسون أن الكهرباء مقطوعة دائماً، وأن الفقراء ليسوا الذين يعيشون تحت "أرقام" يضعها "خبراء" ومحاسبون، بل هم الذين يرقّعون ملابسهم وملابس أطفالهم، لأن اقتصاد بلادهم لا ينتج ملابس، ولأن محال البالة خضعت لمعايير "حديثي النعمة".

مظاهر الفقر في بيروت تتسع. يصعب المشي في شارع الحمرا، دون مصادفة متسول كل عشرة أمتار، والعدد في ارتفاع. يصعب أيضاً التصديق بأن القصابين والذين يبيعون الدجاج يقولون إن هناك مَن يأتي في آخر النهار، ويطلب بقايا النهار.

ليس صحيحاً أن الفقر دائماً عبارة عن أرقام ومعدلات. سيحتاج قياسه إلى أدوات علمية دائماً، لكنه أحياناً يكون مجرد شعور. ذلك التعب في عيون الجالسين أمام دور العبادة، وهم ينفقون ساعاتهم في التضرع إلى الله في الداخل، والتضرع إلى الذين تضرعوا إليه بدورهم في الخارج. ستلاحظ أن أغلبية المارة العاديين، كما قال سائق الحافلة، "خائفون".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image