نشأت عشرات الأديان منذ فجر التاريخ حتى الآن، قيض لثلاثة منها أن تنتشر وتستمرّ، وهي الأديان التوحيدية الثلاثة الكبرى، واسترعى التشابه الواضح في أساطيرها وسردها المتعارف عليه انتباه العديد، لدرجة أن مؤرخاً فرنسياً كـروجيه أرنالديز، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة السوربون سابقاً، كتب أنهم ثلاثة رسل لإله واحد.
المعتقدات المتشابهة
تجتمع الأديان الثلاثة على تقديس مدينة القدس، كما تقديس العديد من الشخصيات الأخرى التي يرد ذكرها بطرق متشابهة، الملاك جبريل، داوود، موسى، سليمان يوسف إسحاق وإبراهيم، وأيضاً لن ننسى بالتأكيد الشخصية المحورية الأخرى، الشيطان، كما تجتمع الأديان الثلاثة على بعض السرديات المتشابهة من حيث الجوهر: طوفان نوح، آدم وحواء وأبناؤهما، هجرة النبي يوسف وحكايته في مصر، كما تشترك الأديان الثلاثة في تقديس كتب تظن أنها تحمل المعرفة الكلية للعالم، أي التفسير الإلهي لحكمة خلق العالم.
يقول الباحث الشهير روجيه أرنالدز أن الأديان الثلاثة تشابهت حتى في طقوسها، من ناحية الصوم على سبيل المثال كطقس متشابه وإن اختلفت تفاصيله ومواقيته، ومن ناحية استخدام الأضاحي أيضاً، حيث ينفخ اليهود في قرون الأكباش في عيد روش هاشاناه (بداية العام بالعبرية، نهاية سبتمبر وبداية أكتوبر) ويوم كيبور (عيد الغفران)، ويأكل المسيحيون الحملان في عيد الفصح، ويضحي المسلمون به في عيد الأضحى.
ولقصة التضحية بكبش مرجعية واحدة في الأديان الثلاثة هي قصة إبراهيم، وطلب الله منه التضحية بابنه (في اليهودية والمسيحية هو إسحاق، أما عند المسلمين فهو إسماعيل) ثم قبل أن يمتثل إبراهيم لفعل التضحية يكافئه الرب على إيمانه ويفتدي الابن بكبش.
تتناول المؤرخة المختصة بالتاريخ اليهودي المسيحي لأوروبا، سونيا فيلوس Sonia Fellous، في دراستها "إبراهيم أيقونة الأديان الثلاثة" "Abraham dans l’iconographie des trois religions monothéistes" حياة إبراهيم وتقلباتها المختلفة، ما يهمنا منها كيف نظر الإسلام إلى "والد الأديان الثلاثة" ومن أين استقى نظرته.
لقصة التضحية بكبش مرجعية واحدة في الأديان الإبراهيمية الثلاثة هي قصة إبراهيم، وطلب الله منه التضحية بابنه (في اليهودية والمسيحية هو إسحاق، أما عند المسلمين فهو إسماعيل) ثم قبل أن يمتثل إبراهيم لفعل التضحية يكافئه الرب على إيمانه ويفتدي الابن بكبش
التسمية الدين الإبراهيمي
تذكر "ملة إبراهيم" في الثقافة العربية المكتوبة والمتناقلة شعبياً بكثرة حتى اليوم. أما الاستخدام المصطلح "الدين الإبراهيمي" للإشارة إلى الإٍسلام، فله تاريخ حديث نسبياً. يقترح الباحث لويس ماسينيون أن عبارة الدين الإبراهيمي تعني أن هذه الأديان تمتلك مصدراً روحياً واحداً، وهناك مصطلح قرآني مستخدم لوصف الإسلام بأنه "دين إبراهيم"، إذ تدعي الديانات الإبراهيمية الرئيسية الثلاث نسباً مباشراً لإبراهيم، بالرغم من أن هذا النسب يتخذ في المسيحية طابعاً روحياً فحسب.
ظهر مصطلح الدين الإبراهيمي في الخمسينيات من القرن الماضي، وانتشر استخدامه تدريجياً ومن بين المنشورات الأولى التي نشرها الكاهن اللاهوتي يواكيم مبارك، تلميذ ماسينيون، حيث تحدث عن الدين الإبراهيمي بصيغة المفرد ليشير إلى الإسلام، بعدها بين عامي 1930-1970 انتشر المصطلح بصيغة الجمع ليدل على الأديان الثلاثة التوحيدية، ولينظر من خلال التسمية إلى إبراهيم على أنه الشخص الأول الذي بدء بمعرفة الله دون تلقي أي وحي خاص منه، ولا زالت التسمية تستخدم اليوم ولكن لغايات براغماتية أكثر منها تاريخية، وذلك لتأكيد الروابط العميقة بين الأديان الثلاثة وكذلك في سياق الحوار بين الأديان.
يركز المفهوم الإسلامي لدين إبراهيم على شرط التوحيد وعدم الشرك بالله، وبالتالي جاء الإسلام ليعيد "الصواب" إلى دين إبراهيم، لكن إبراهيم الإسلام ليس إبراهيم اليهودية والمسيحية، ففي الإسلام يتم المطابقة بين دين التوحيد ودين إبراهيم، بينما يتفسر الأمر في اليهودية على أنه والد اليهود، وكلهم جاؤوا من نسله، وفي المسيحية هو مجرد شخص مؤمن نموذجي من حيث طاعته ولإيمانه، إلا أنه ليس "موحداً" أبداً.
إبراهيم الإسلام ليس إبراهيم اليهودية والمسيحية، ففي الإسلام يتم المطابقة بين دين التوحيد ودين إبراهيم، بين يتفسر الأمر في اليهودية على أنه والد اليهود، وكلهم جاؤوا من نسله، وفي المسيحية هو مجرد شخص مؤمن نموذجي من حيث طاعته ولإيمانه، إلا أنه ليس "موحداً" أبداً
التشابه الحاصل في الطقوس المتوارثة للعبادات كما الانحدار من ابنين، إسماعيل وإسحاق، لأب واحد في الديانتين اليهودية والإسلام، يدفع بالعديد من اللاهوتيين وعلماء الأديان إلى اعتبارهما فرعين لدين لواحد. ولكن بالمقابل، نجد أن هناك من انتقد استخدام "الديانات الإبراهيمية". كتب ألان بيرغر، أستاذ الدراسات اليهودية، في مقدمة كتابه "المسيحية واليهودية والإسلام بعد 11 سبتمبر": "هناك اختلافات جوهرية بين التقاليد الإبراهيمية تاريخياً ولاهوتياً أيضاً، فبالرغم من أن المسيحية والإسلام اعترفا باليهودية، على حد سواء، إلا أن كل دين اتخذ طريقاً منفصلاً عن الآخر"، إذ أن كل دين منها "يفهم دور إبراهيم بطريقة مختلفة"، والعلاقات بين اليهودية والمسيحية وبين اليهودية والإسلام "غير متكافئة"، كما أن تقاليد الأديان الثلاثة غير متوازنة ديموغرافياً ومتنوعة ايديولوجياً.
لماذا يشيع استخدام تسمية "الديانات الإبراهيمية" للإشارة إلى الأديان السماوية؟
الشخصية الإبراهيمية في القرآن
في كتاب عن الإسلام واليهودية، بعنوان The Convergence of Judaism and Islam: Religious, Scientific, and Cultural Dimensions، قدمت الباحثة مقالاً عن صورة إبراهيم في ضوء التوراة والمدراش، عنوانها "The Quran’s Depiction of Abraham in Light of the Hebrew Bible and Midrash". وفيها بينت أنّ صورة إبراهيم وبالتالي اليهود أيضاً قد خضعت لتبدلات وتعديلات في القرآن نفسه، حيث ظهر إبراهيم في البدء كنبي عادي ثم أخذ موقعه كأبي الأنبياء ومصدرهم الأول، لكن عندما أدرك محمد صعوبة تحوّل اليهود إلى الإسلام، غير نهجه وكفّ عن تقديم دين الإسلام كدين مواز لليهودية لكنه أكثر تطوراً و"مكمل"، إلى أنه الدين الأقدم، حتى أنه قبل اليهودية، بشدّ شخصية إبراهيم المحورية في الدين اليهودي إلى الإسلام واعتباره "المسلم النموذجي الأول"، فعندما سئل محمد من قبل اليهود ما الدين الذي تتبعه أجاب دين إبراهيم، لكن تم لاحقاً اعتبار دين إبراهيم مشوهاً من قبل اليهود وجاء محمد ليعيد الدين إلى صوابه عبر الإسلام.
وتتابع المؤلفة أن الأمر لم يقتصر على نسب شخصية بأكملها، باسمها وتاريخها وأفعالها إلى الإسلام بل يقوم القرآن بــ"إحياء" شخصية إبراهيم نفسها، وتشبيه الرسول بها، فعندما يشير إلى إبراهيم غالباً ما يخرج عن الموضوع ويتحدث بأمور تخص دين محمد الجديد، على سبيل المثال عندما جاء في الآية القرآنية كيف بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم."
وتشير المؤلفة مرة أخرى إلى التشابه في تحطيم الأصنام، وأيضاً إلى تشابه خروج إبراهيم ونفيه من قبيلته وخروج محمد من مكة أيضاً، كلاهما تم نفيه مع وعدٍ إلهي بأنهما سينصران لاحقاً من ربهما ويستحقان بركة الله.
الوظيفة الأكثر أهمية
وضعت الأديان الثلاثة تقوى إبراهيم، رفضه عبادة الأصنام، قربه من الله وتضحيته بالقرابين الأساسات المثلى للأديان، وبالرغم من أن الرب لم يعد إبراهيم الإسلام بأرض محددة، كما تخبرنا كتب التوراة، عن إبراهيم اليهود، إلا أنه كان أكثر كرماً معهم بوعده بـ"العالم ككل".
وبنفس المعنى يورد دانيال سيبوني Daniel Sibony، وهو مؤرخ ومحلل نفسي يهودي مغربي، نصاً فيه إيماءة كبرى لمعنى الوعد الإلهي بالأرض: أراد إبراهيم قبراً لزوجته سارة التي ماتت للتو، فقال له الحثيون الذين عاش بينهم: "اسمعنا، أنت رئيس من الله بيننا، في أفضل قبورنا ادفن ميتك"، فقبل إبراهيم إلا أنه وضع في نفسه أن يدفع ثمن القبر.
يقول سيبوني: إن شراء المغارة أو القبر بحد ذاته رمز، هي مسألة تمييز الأرض بحيازة، لأنها تحتوي على الرمز الأول للبشرية وهو الدفن، أي الحد الفاصل بين الموتى والأحياء، بالإضافة إلى ذلك، يفضل إبراهيم قانون البيع والشراء على قانون الهبات أو الهدايا، حيث تبدو هذه العلامة الأولى على الغزو اليهودي لأرض كنعان، أو شرائها بمعنى امتلاكها، فقام إبراهيم بالخطوة الأولى، وتكررت الحكاية عدة مرات بعدها/ حيث دفن إبراهيم واسحاق ويعقوب في نفس المكان، لذلك ، فإن الأعمال الرمزية التي قام بها إبراهيم اكتسبت أهمية معينة بمرور الوقت، حتى نكاد نقول، للأبد.
كما تضيف سونيا فيلوس ملاحظة لطريقة نظر الدينين، اليهودية والإسلام، لطبيعة الملائكة من خلال الزيارة التي قامت بها ثلاثة ملائكة لابراهيم، حيث ترد القصة في السرديتين اليهودية والإسلامية، لكن في الإسلام خاف إبراهيم من الملائكة، ربما لتتطابق مع خوف محمد من نزول جبريل، أما في المدراش فقد خاف الملائكة من إبراهيم، وفي الروايتين قام إبراهيم بتقديم الطعام والشراب للملائكة، لكنهم لم يمسوه في الرواية المدراشية، بينما قاموا بالرواية القرآنية بتناول الطعام، حيث تؤكد الرواية اليهودية على الطبيعة النورانية للملائكة، بينما لا يهتم القرآن بإظهارهم كذلك.
تختتم سونيا كتابها بالقول إن دور ووظيفة إبراهيم في تاريخ الأديان الثلاثة هو دور مؤسس، ومثالي لخادم الله المطيع والمؤمن النموذجي، كما يتضح من تفانيه في تدمير الأصنام، في الدخول عبر النار أو امتثاله للأمر الإلهي بالتضحية بابنه، إرسال الله لجبريل له، كما أنه سلف الأنبياء العظام إسحاق ،إسماعيل، يعقوب، موسى، عيسى، محمد، كما أن محاكمة حياته المديدة تظهر مجموعة من الإشارات التي استخدمتها الأديان الثلاثة في بناء سردياتها الجوهرية، التبشير، التضحية، التوحيد، تهديم الأصنام وبناء المعبد الجديد (الكعبة في الإسلام) هذا الخيط المشترك للروايات الثلاث تظهر قرب تلك الديانات من بعضها كما تظهر بعدها الجدلي والاختلافي من خلال الجدل حول اسم النبي المضحى به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم