يقدّم لنا القرآن الكريم عبر قصصه، وقائع حياة النبي إبراهيم الذي مرّ بأحداثٍ جسامٍ بدّلت حياته بالمطلق، لكن أكثرها إثارة للتساؤل، هو قضية المنام الذي رأى فيه أنّه يذبح ابنه البكر اسماعيل، ولقد أثار هذا المنام الكثير من الجدل والأسئلة حوله! ويعود السبب إلى أنّ التفاسير المعتمدة للمنام الإبراهيمي، ترى أنّ الله قد أمره بأن يذبح ابنه، لكي يختبر إيمانه.
قادت تلك التفاسير للمنام الإبراهيمي إلى نتيجة مفادها أنّ الله إله دموي، كالآلهة القديمة التي كانت تطلب تضحيات دموية لا حدّ لقسوتها، فهل هذا التشابه موجود أم أنّه مجرد خطأ في التفسير من الضرورة إصلاحه.
الآيات التي تخصّ منام النبي إبراهيم: (101) "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ".
في التحليل: لا بدّ من العودة إلى سيرة حياة النبي إبراهيم، كي نؤسس لنتائجنا التي نهدف إليها، بشكل صحيح. لقد حطّم النبي إبراهيم أصنام قومه، بعد أن تساءل عن خالق الكون، وبحث عنه في كلّ مكان، ليكتشف أنّ النجوم والقمر والشمس مجرد أجرام في هذا الكون الفسيح على الرغم من نفعها وضررها الواضح لكلِّ ذي عقل، وأنّ هذه الأجرام أكبر وأعظم بشكلٍ لا يقاس مع الأصنام التي يتعبّدها قومه، والتي لا تضرّ ولا تنفع، فرفضها النبي إبراهيم بعد محاججة عقلية، وصل من خلالها إلى عبادة الله خالق الكون.
وهذا الجدل العقلي الذي دار بين النبي إبراهيم وقومه وأبيه ونفسه، تعرضه الآيات الكريمة التالية: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)".
لقد خاض النبي إبراهيم الجدل العقلي بجرأة كبيرة، بعد أن تم توجيهه من السماء كي يصبح موقناً، بما يسعى إليه، فنلحظ أقواله في الآيات التالية: (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، إذاً، النبي إبراهيم إلى جانب الهداية السماوية أعمل عقله كي يكتشف أنّ الله هو خالق الكون، وهو من يستحق العبادة، لا الأصنام.
حصلت للنبي إبراهيم حادثة أخرى كان لها وقعٌ عظيمٌ في نفسه، ولقد ثبّتت إيمانه كالجبال الرواسي في الأرض وهي إلقاؤه في النار من قبل قومه الذين يترأسهم نمرود، فكانت النار برداً وسلاماً عليه: ((67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ). لا ريب أنّ أي شخص يُرمى في النار، وتكون النار له برداً وسلاماً لن يدخل الشك قلبه أبداً!، فكيف بالنبي إبراهيم الذي أصبح خليل الله، بعد تلك الحادثة إضافة إلى المعجزة التي رافقتها. بالتأكيد لن يستطيع الشيطان بذاته، أن يغيّر ولو ذرّة من إيمان النبي إبراهيم.
يظلّ الموت اللغز الأكبر الذي واجه الإنسان والنبي إبراهيم بشريّ كغيره من البشر، لابدّ أن الخوف من الموت قد قضّ مضجعه، فها هو يطلب من الله أن يريه إحياء الموتى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
الآن نستطيع أن نقول: إنّ النبي إبراهيم، قد حصّن نفسه تجاه كل ما يعتري الإنسان من شكوك خلال وجوده على هذه الأرض. لقد وصل بالعقل إلى أنّ الله خالق السماوات والأرض. ونجا من السلطة الأرضية التي تجبره على عبادة الأصنام بمعجزة النار التي تحوّلت إلى بردٍ وسلامٍ عليه. وأخيرًا كسر الخوف الأكبر من الموت بأن أراه الله كيف يحيي الموتى. فما الذي بقي حتى يصبح النبي إبراهيم كالملائكة تنفذ أوامر الله من دون أدنى اعتراض ولا تسويف!؟ بالتأكيد لم يعد من شيء أبداً، لكنّ المنام الذي رآه يدحض ما توصلنا إليه من نتيجة! كيف ذلك؟
نستنتج أن التفاسير السابقة التي اعتبرت استفتاء النبي إبراهيم ابنه اسماعيل بموضوع الرؤية، ليست لإثبات إيمان النبي اسماعيل بل لأنّ إبراهيم لديه شكّ في طبيعة هذه الرؤية، فالله الرحمن الرحيم لا يمكن أن يطلب من أبٍ أن يذبح ابنه على عادة الشعوب الكافرة، فما القصة إذاً؟ وخاصة أنّ الآية التالية تضيء طرف خيطٍ، يجب أن نتتبّعه حتّى نعرف الأسس اللاشعورية لمنام النبي إبراهيم والآية المقصودة هي: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
الفداء سداد لدين ما، لجزاء ما، لعقوبة ما! ما الدين؟ ما الجزاء؟ ما العقوبة التي ترتبت -وفق الروايات التراثية- على طفل لم يبلغ النضج بعد، حتّى يكون الذبح العظيم فداء له؟ أو ما الذي يخصّ النبي اسماعيل برؤية أبيه، حتّى يكون هو موضوع الرؤية؟ والقاعدة السماوية تقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وما معنى أن تأتي الآية التالية التي تتوّج محنة الذبح على نهج يؤكد أن منام النبي إبراهيم كان رؤية من الله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)؟
قبل أن نبدأ بالإجابة علينا العودة بالزمن إلى المعصية الأساسية لنرى كيف احتنك الشيطان ذريّة آدم وزرع فيها بذور الشك. إنّ المعصية الأصلية، هي تناسلية مرتبطة بإنجاب الأبناء، فالخلود بالتناسل هو حصان طروادة الذي دخل به الشيطان إلى هواجس آدم وحواء، والذي كان عبر تذكيرهم بمنبتهم الأول الذي منعوا عنه على اعتبار (الشجرة) التي منعا من الاقتراب منها، هي الجنس البشري الذي حذرت منه الملائكة، لأنّها رأت ما يفعله من سفك للدماء وإفساد في الأرض.
وحيث أنّ آدم وحواء تم اصطفاؤهما كي يصبحا على قدر منصب الخلافة، فظلّا في الجنة بعد طرد الشيطان بعد حادثة السجود لآدم، لكنّهما أدركا بأنّهما ليسا من الملائكة، وليسا من الخالدين، بالإضافة إلى أنّهما يعرفان أصولهما السابقة والتي تؤدي إلى أنّ مصير الكائن البشري هو الموت، فكيف سيخلد ذكرهما من دون التناسل؟ وليس التناسل ممنوعاً عليهما، لكن على ما يبدو أنّه كان في مرحلة تالية تعدّ لها السماء وآدم استعجلها: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ).
لقد تم إغواء آدم وحواء، لكن آدم كان مندفعاً جداً، فاضطجع مع أنثى بشرية من تلك الشجرة التي منع عنها وكان له منها ابنه قابيل وبعد أن اجتباه الله وتاب عليه، أنجب من حواء هابيل، فقام قابيل بقتل هابيل إلّا أن الله عوض آدم بابنه شيث. للاستزادة في هذا الموضوع، يُرجى مراجعة: (أمنّا حواء بريئة من المعصية، إلاّ أنّ أبانا آدم لم يكن سعيداً في الحبّ!).
قادت التفاسير للمنام الإبراهيمي إلى نتيجة مفادها أنّ الله إله دموي، كالآلهة القديمة التي كانت تطلب تضحيات دموية لا حدّ لقسوتها، فهل هذا التشابه موجود أم أنّه مجرد خطأ في التفسير من الضرورة إصلاحه؟
وهذا الجدل العقلي الذي دار بين النبي إبراهيم وقومه وأبيه ونفسه، تعرضه الآيات الكريمة التالية: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)".
لقد خاض النبي إبراهيم الجدل العقلي بجرأة كبيرة، بعد أن تم توجيهه من السماء كي يصبح موقناً، بما يسعى إليه، فنلحظ أقواله في الآيات التالية: (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، إذاً، النبي إبراهيم إلى جانب الهداية السماوية أعمل عقله كي يكتشف أنّ الله هو خالق الكون، وهو من يستحق العبادة، لا الأصنام.
حصلت للنبي إبراهيم حادثة أخرى كان لها وقعٌ عظيمٌ في نفسه، ولقد ثبّتت إيمانه كالجبال الرواسي في الأرض وهي إلقاؤه في النار من قبل قومه الذين يترأسهم نمرود، فكانت النار برداً وسلاماً عليه: ((67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ). لا ريب أنّ أي شخص يُرمى في النار، وتكون النار له برداً وسلاماً لن يدخل الشك قلبه أبداً!، فكيف بالنبي إبراهيم الذي أصبح خليل الله، بعد تلك الحادثة إضافة إلى المعجزة التي رافقتها. بالتأكيد لن يستطيع الشيطان بذاته، أن يغيّر ولو ذرّة من إيمان النبي إبراهيم.
"إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا"، إلى جانب الهداية السماوية، أعمل النبي إبراهيم عقله كي يكتشف أنّ الله هو خالق الكون، وهو من يستحق العبادة، لا الأصنام.
يظلّ الموت اللغز الأكبر الذي واجه الإنسان والنبي إبراهيم بشريّ كغيره من البشر، لابدّ أن الخوف من الموت قد قضّ مضجعه، فها هو يطلب من الله أن يريه إحياء الموتى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
الآن نستطيع أن نقول: إنّ النبي إبراهيم، قد حصّن نفسه تجاه كل ما يعتري الإنسان من شكوك خلال وجوده على هذه الأرض. لقد وصل بالعقل إلى أنّ الله خالق السماوات والأرض. ونجا من السلطة الأرضية التي تجبره على عبادة الأصنام بمعجزة النار التي تحوّلت إلى بردٍ وسلامٍ عليه. وأخيرًا كسر الخوف الأكبر من الموت بأن أراه الله كيف يحيي الموتى. فما الذي بقي حتى يصبح النبي إبراهيم كالملائكة تنفذ أوامر الله من دون أدنى اعتراض ولا تسويف!؟ بالتأكيد لم يعد من شيء أبداً، لكنّ المنام الذي رآه يدحض ما توصلنا إليه من نتيجة! كيف ذلك؟
فلنبدأ بتحليل آيات المنام:
تقول التفاسير: إنّ منام النبي إبراهيم هو رؤية مقدّسة والرؤية يجب تنفيذها من دون قيد أو شرط! وبالطبع ليس من أحد أكثر خبرة بكلام السماء من النبي إبراهيم، فلماذا يطلب رأي ابنه إذًا؟ هل لأنّ المنام ليس برؤية، فيستشيره بها لعلّ لدى الطفل تفسيراً آخر؟ أم أنّ النبي إبراهيم يريد أن يتأكّد من إيمان ابنه وخاصة أنّ نتائج المنام من القسوة بمكان لأن تجعل الحليم يفقد عقله، فكيف بطفل لم يرشد بعد؟ كلها استفسارات مشروعة، لكنّ صيغةَ فعلٍ يتلفّظ بها النبي اسماعيل تردّنا على أعقابنا: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، الفعل (تُؤْمَر) مبني للمجهول وكأنّ الطفل/ النبي اسماعيل يخبر أباه بجهله بمصدر الرؤية التي جاءت أباه/ النبي إبراهيم ومع ذلك يقول بأنه: (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).هل يمكن لله العادل أنْ يطلب من أبٍ أن يذبح ابنه على عادة الشعوب الكافرة؟ إذاً كيف يمكن إعادة تفسير الرؤية الإبراهيمية؟
نستنتج أن التفاسير السابقة التي اعتبرت استفتاء النبي إبراهيم ابنه اسماعيل بموضوع الرؤية، ليست لإثبات إيمان النبي اسماعيل بل لأنّ إبراهيم لديه شكّ في طبيعة هذه الرؤية، فالله الرحمن الرحيم لا يمكن أن يطلب من أبٍ أن يذبح ابنه على عادة الشعوب الكافرة، فما القصة إذاً؟ وخاصة أنّ الآية التالية تضيء طرف خيطٍ، يجب أن نتتبّعه حتّى نعرف الأسس اللاشعورية لمنام النبي إبراهيم والآية المقصودة هي: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
الفداء سداد لدين ما، لجزاء ما، لعقوبة ما! ما الدين؟ ما الجزاء؟ ما العقوبة التي ترتبت -وفق الروايات التراثية- على طفل لم يبلغ النضج بعد، حتّى يكون الذبح العظيم فداء له؟ أو ما الذي يخصّ النبي اسماعيل برؤية أبيه، حتّى يكون هو موضوع الرؤية؟ والقاعدة السماوية تقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وما معنى أن تأتي الآية التالية التي تتوّج محنة الذبح على نهج يؤكد أن منام النبي إبراهيم كان رؤية من الله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)؟
قبل أن نبدأ بالإجابة علينا العودة بالزمن إلى المعصية الأساسية لنرى كيف احتنك الشيطان ذريّة آدم وزرع فيها بذور الشك. إنّ المعصية الأصلية، هي تناسلية مرتبطة بإنجاب الأبناء، فالخلود بالتناسل هو حصان طروادة الذي دخل به الشيطان إلى هواجس آدم وحواء، والذي كان عبر تذكيرهم بمنبتهم الأول الذي منعوا عنه على اعتبار (الشجرة) التي منعا من الاقتراب منها، هي الجنس البشري الذي حذرت منه الملائكة، لأنّها رأت ما يفعله من سفك للدماء وإفساد في الأرض.
وحيث أنّ آدم وحواء تم اصطفاؤهما كي يصبحا على قدر منصب الخلافة، فظلّا في الجنة بعد طرد الشيطان بعد حادثة السجود لآدم، لكنّهما أدركا بأنّهما ليسا من الملائكة، وليسا من الخالدين، بالإضافة إلى أنّهما يعرفان أصولهما السابقة والتي تؤدي إلى أنّ مصير الكائن البشري هو الموت، فكيف سيخلد ذكرهما من دون التناسل؟ وليس التناسل ممنوعاً عليهما، لكن على ما يبدو أنّه كان في مرحلة تالية تعدّ لها السماء وآدم استعجلها: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ).
لقد تم إغواء آدم وحواء، لكن آدم كان مندفعاً جداً، فاضطجع مع أنثى بشرية من تلك الشجرة التي منع عنها وكان له منها ابنه قابيل وبعد أن اجتباه الله وتاب عليه، أنجب من حواء هابيل، فقام قابيل بقتل هابيل إلّا أن الله عوض آدم بابنه شيث. للاستزادة في هذا الموضوع، يُرجى مراجعة: (أمنّا حواء بريئة من المعصية، إلاّ أنّ أبانا آدم لم يكن سعيداً في الحبّ!).النبي إبراهيم وابنه اسماعيل، كلاهما سيضحيان بدنياهما لأجل الله ولأجل ذلك يستحقان الخلافة
كيف نقرأ رغبة النبي إبراهيم بنسل يخلفه؟ وهو يعلم أنّ الدنيا دار عبور وليست مستقراً، وأنّ الآخرة خير وأبقى، وأكثر من ذلك، لم ينل أحدٌ من قبله لقب خليل الله بالإضافة إلى معجزة النجاة من نار النمرود ورؤية الطيور الميتة تعود للحياة أمام ناظريه!تكاثر نسل قابيل وورث عن أمه جيناته الهمجية، واختلط النسل المصطفى من شيث مع نسل قابيل إلى أن فسد البشر من جديد في زمن النبي نوح، ومن ثمّ كان الطوفان وصولًا إلى الزمن الذي ظهر فيه النبي إبراهيم. وكان النبي إبراهيم قد تقدّم في العمر حتى أصبح شيخاً وامرأته عجوزاً، فنجده يتوسل إلى الله كي يهبه ابناً: (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). كيف نقرأ رغبة النبي إبراهيم بنسل يخلفه؟ وهو يعلم أنّ الدنيا دار عبور وليست مستقراً، وأنّ الآخرة خير وأبقى، وأكثر من ذلك، لم ينل أحدٌ من قبله لقب خليل الله بالإضافة إلى معجزة النجاة من نار النمرود ورؤية الطيور الميتة تعود للحياة أمام ناظريه! إنّ رغبة النبي إبراهيم غريبة عن طبعه، فالثائر على قومه لعبادتهم الأصنام، والذي لم يتراجع رغم تهديده بالتحريق بالنار ومن ثمّ رميه فيها، والذي رأى أنّ الموت لا يثبت أمام وجه الله، فهل بعد كل ذلك يطلب نسلاً يخلفه!؟ إنّه لأمر عجيب! يذكّرنا بالمعصية التي ارتكبها آدم، فآدم أصبح سميعاً بصيراً، وقد أعدّه الله ليكون خليفته على الأرض، ومن ثمّ عاد إلى أسفل السافلين فيخلد إلى الأرض، ويستعجل خلافته فيها من خلال التناسل، حتّى لو كان على غير النهج الصحيح! قامت الملائكة بإيصال البشارة السماوية إلى إبراهيم، لكن ردّه يظهر كم كان ملهوفاً وراغباً بابنٍ يحفظ ذكره، ولنلاحظ العتاب على لسان إبراهيم: "قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ"، وفي هذه المعاتبة نتبيّن المضمر في كلام النبي إبراهيم وكأنّه يقول لهم: أنا من تركت عبادة الأصنام وواجهت النار بقلب ثابت الجنان وأراني الله إحياء الموتى وجعلني خليلاً له، ثم يضنّ عليّ بابن يرثني ويحيي ذكري!، فتردّ الملائكة عليه: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ )، فيتنبه إبراهيم للنكران الذي أبداه على من منّ عليه بكل تلك المكرمات، فيتدارك نفسه ويقول: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). يذكّرنا الحوار الذي جرى بين النبي إبراهيم والملائكة بالحوار الذي جرى بين آدم والله، بأنّه قد ظلم نفسه وإن لم يرحمه الله سيكون آدم من الذين ظلموا أنفسهم، ونتيجة لذلك سيستبعد من الخلافة التي وعده الله بها!
الابن الأضحية
لدينا الآن نبيّ وأبو البشرية وكلّ منهما، خضع بنسبة ما إلى إغواء الشيطان. آدم خضع بشكل مباشر، أمّا النبي إبراهيم فخضع للإغواء بطريقة غير مباشرة! لقد تم اختبار النبي إبراهيم وأثبت إيمانه المطلق بالله، لكن لماذا ُختبر بأن حُرم من الأبناء؟ أليس الأمر ذاته هو إعادة لذات المعصية التي ارتكبها آدم!؟ الشيطان يجادل الله ويقسم به بأنّه سيغويهم أجمعين، إلّا عباد الله الصالحين، وبالتالي النبي إبراهيم سيكون هدفاً لغواية الشيطان وبنفس الوقت السماء ستثبت للشيطان أنّه غير قادر على غواية عباد الله الصالحين. نستطيع أن نضع أنفسنا مكان النبي إبراهيم، بعدما رزقه الله بابنه اسماعيل، ولقد نما الولد أمام عينيه، وقد فرح قلبه بذلك كثيراً، إلّا أنّ إبراهيم الذي استخدم عقله بمعرفة خالق الكون، لن يفوته المضمر برغبته بالأبناء، ولن ينسى المعصية التي أودت بالجنس البشري إلى الهبوط من الجنّة والتي سببتها غواية الشيطان لآدم بالخلود بالتناسل. يستيقظ عقل إبراهيم، ويرى نفسه شبيهاً لأبيه آدم غير حصين، فمن يستبدل الجنّة وأن يكون خليلاً لله بالأبناء إلّا الأحمق!؟ بعد الصحوة العقلية يأتي الضمير مؤنباً إبراهيم باستبدال الثريا بالثرى، ولأنّ تقديم ابنه أضحية لله كما كان يحصل من تقديم أبكار الحيوانات وأوائل المحاصيل الزراعية عربون شكراً لله، سيكون الردّ المناسب على غواية الشيطان، كان التفكير بتقديم ابنه اسماعيل أضحية لله. لا ريب أنّ النبي إبراهيم قد قضّ مضجعه هذا الهاجس، وذهبت سكينته بسبب ما يعتمل في نفسه من جدل، وكيف لا يحدث ذلك، وهو يريد أن يضحي بفلذة كبده، والذي لأجله عاتب الملائكة على تأخرهم بالبشارة، لأنّه أصبح شيخاً ولن يكون قادراً على الإنجاب، أو لأنّه لن يرى ابنه يكبر أمام عينيه بسبب قربه من حافة الموت، وهنا يأتي الحلّ عبر المنام، الذي سيشتكل مع الرؤية التي عادة ما تصاحب الأنبياء، ومن له الجرأة على رفضها، إلّا أنّ إبراهيم يعرف دواخل نفسه وأنّ الله الرحمن الرحيم لن يطلب منه فعل ذلك ولهذا قال لابنه: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ) ومن ثمّ تحدث المعجزة التي سترفع المعصية الأصلية عن الجنس البشري عبر ردّ النبي اسماعيل بقوله: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). بعد هذا التأكيد من النبي اسماعيل على خضوعه التام لمشيئة أبيه واتكاله على الله كي يصبّره على تلك المحنة، تتفتت الغواية الشيطانية، فها هو طفل يقدم على الموت متوكلاً على الله غير طامع في شيء منتصراً على الطين والشجرة التي منع عنها آدم. يأتي قبول النبي اسماعيل لمنام أبيه كإشارة على صدق الرؤيا، فيتجهّز النبي إبراهيم لذبح ابنه وفي هذه اللحظة بعد أن تلّه للجبين يُفدى النبي اسماعيل بالذبح العظيم، وتُفدى معه البشرية من الغواية والمعصية الأساسية، فنحن –الآن- أمام العقل البشري وقد ارتقى إلى درجة الروح التي جعلت آدم سميعًا بصيرًا، فيندحر الشيطان بصدق الرؤية والرؤية هنا قسمان قسم يعود إلى قول الله (إنّي جاعل في الأرض خليفة) وقد حدث ذلك عبر النبي إبراهيم ومن بعده النبي اسماعيل ومن تلاهم وصولًا إلى النبي محمد خاتم الأنبياء، ومن بعدهم الكائن البشري الذي ترقى وأصبح إنساناً يقود سفينة إعمار الأرض بنفسه. القسم الثاني في الرؤية يرجع إلى النبي إبراهيم وابنه، فكلاهما سيضحيان بدنياهما لأجل الله ولأجل ذلك يستحقان الخلافة. من هنا يمكن إعادة فهم الأضحية الإبراهيمة على أنها تكرار وتمثيل لمعصية أبينا آدم وكيف نستطيع أن ننجو من غواية الشيطان، فلا نقع فيها من جديد. وهي دليل على إبعاد ميول المعصية الأصلية عن نسل الإنسان وأنّه أصبح خليفة الله في أرضه. صورة المقال من مخطوطة تركية، تعود للعام 1386م، من مقتنيات Getty (الرابط).رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...