خلف الباب الزجاجي كان واقفاً وعلى وجهه ابتسامة العائد من الموت، هو وحده كان يعرف معنى أن تخسر كليتيك... في الطب يسمّون ما مرَّ به "الفشل الكلوي"، وفي النفس معناه أن يخذلك جسمك.
عاد والدي من الموت بكلية أخيه، وبعشرين حبة دواء يومياً، و
جرعة عالية من مثبطات المناعة، خوفاً من رفض الجسم للعضو الجديد، كان ممنوعاً من لمسي، يومها رأيت عينيه فقط، وعرفت الكمامة للمرة الأولى في حياتي: قناع أخضر يخفي عنّا وجوه من نحب، ويتزامن وضعها مع حرماننا من لمسهم.
والحب وسط هذا الخراب أن أغيّر عاداتي وأكتب عنه بدلاً مني، وأكتشف أن هنا لا الفرق، فالاثنان سواء.
حينها عرفت معنى الحجر الصحي، دخل الديتول والكحول والمعقمات بيتنا وخرجنا أنا وأخي لبيت جدي، لا أحد سيدخل بعدها غرفة أبي لمدة ثلاثة أشهر، سوى أمي والكحول الممدد.
نفس المشهد بمأساويته تكرر بعد أربعة عشر عاماً، الخوف نفسه، معقمات، كمامات وحجر صحي، مع فارق صغير: الهلع عام هذه المرة، الخوف يسيطر على العالم والتباعد الاجتماعي يكسر قلوب العاشقين، وبالرغم من ذلك، بقي الحب الملجأ الوحيد الذي نحجر أنفسنا فيه بعيداً عن كل هذا الهراء.
حين التزمت وعائلتي الحجر، كانت الحكومة السورية لم تتخذ بعد أي إجراء تجاه وحش كورونا الذي أخذ يهدد العالم، ولم تُعلن بعد أية إصابات، لكن وبفضل ثقافة الثقة بالحكومات التي أورثنا إياها أجدادنا، أغلقنا الأبواب والنوافذ على أنفسنا، زوّدنا مطبخنا بكل ما سنحتاجه، وبكل ما سنكتشف لاحقاً ألا نفع له، لا في الحرب ولا في السلم.
وبمعزل عن الصدق البشري والثقة بالحكومات، حين تنجو من الموت مرّة تتمسك بالحياة وكأنك تسعى للخلود، وحقاً لقد كنا من الناجين بنجاة أبي.
يُقال إن زراعة الأعضاء قد تطورت بشكل ملحوظ في دمشق، والحقيقة أن السبب وراء النجاة كان تطابق الأنسجة بين أبي وعمي، ودقة ومهارة الطبيب الذي أجرى له العمل الجراحي، لكن الخرافة التي أحبّ أن أصدقها، صوته حين قال لأمي: ساعات خمس وسأعود، المحب لا يرحل، وأنت كل ما أحب
النجاة بين العلم والحب
يُقال إن زراعة الأعضاء قد تطورت بشكل ملحوظ في دمشق، والحقيقة أن السبب وراء النجاة كان تطابق الأنسجة بين أبي وعمي، ودقة ومهارة الطبيب الذي أجرى له العمل الجراحي، لكن الخرافة التي أحبّ أن أصدقها، صوته حين قال لأمي: ساعات خمس وسأعود، المحب لا يرحل، وأنت كل ما أحب.
وبعودته أصبح والدي بنظري الصادق الذي لا ينكث العهود، والبطل القوي الذي يعود من الموت من أجل محبوبته.
الحب في الكيمياء الحيوية
هو الإدمان ببساطة، وبكلام أكثر تعقيداً، يبدأ الحب في الرغبة، وهنا التستوستيرون والاستروجين يرتفعان، يسيطران ويتحكمان بأجسادنا، لتحاول العاشقة مس أطراف أصابع المحبوب بيد ترتجف، أو ليسرق عاشقها قبلة على درج معتم، أو ليطلب منها أن تطهو له مثلاً، وهنا يكون قد رمى الشيفرة السرية لممارسة الحب.
المرحلة الثانية هي التعاطي، يصبح للمحبوب تأثير كما الكوكايين والنيكوتين في إفراز الدوبامين والأدرينالين والسيروتينين وغيرها من الهرمونات، وهذا ما يفسّر تغيّب بعض مهووسي كرة القدم عن نهائي اليورو أو المونديال حين يكونون في أوج العشق، فها هو العاشق يحصل على جرعة الأدرينالين ذاتها مصحوبة بعناقات النصر.
والحب في أقصاه هو الارتباط، وبالطبع لا أقصد الزواج أو ورقة ثبوتية من المحكمة تسمح للعاشقين بممارسة الحب تحت الأضواء.
الحب في أقصاه حين يفرز الجسم الأوكسيتوسين، الهرمون الذي يساعد المرأة في المخاض على الولادة، وكأنه يمهّد الطريق لطفلها لعناق وحنان لا ينضب، ليكون للحب في رقته وجه الأمومة، وحنانها.
الرائحة لن تختفي حتماً، سيتوقف عداد الموتى، وستنتهي الجائحة بطفرة مثلاً، بحظنا من الطبيعة، وبالتأكيد بعلم يطوّر لقاحاً أو علاجاً، لكننا حينها سنقف أمام خيارين: إما أن نهرع للطبيب النفسي أو لأحضان من نحب
الحب وسط كل هذا الخوف
هو النجاة... ثلاثون يوماً في الحجر كانت كافية لتصبح شاشة الموبايل الشباك الوحيد في الزنزانة الانفرادية، ليصبح لوجه المحبوب تأثير شعاع النور حين يمس الجسد، ليصير صوته وهج الحرية وأمل البقاء.
ليغفو من نحبّ خلف الشاشة، تحاول أن تلامس خده، لكن الشاشة مسطحة للحد المخيب للآمال.
والحب وسط هذا الخراب أن أغيّر عاداتي وأكتب عنه بدلاً مني، وأكتشف أن هنا لا الفرق، فالاثنان سواء.
والحب وسط هذا الموت كلّه جعل المشهد يتكرر بمأساويته بعد أربعة عشر عاماً، مع فارق الهلع العام هذه المرة، ووجود عائلة أخاف عليها ورجل أحبه مثل أهلي.
معقمات، كمامات، حجر صحيّ، وتباعد يُفرض علينا، لنهلوس في جملة "مسافة متر على الأقل"، "متر على الأقل".
قبل فرض الحكومة لحظر التجول الجزئي بيومين، كان بيني وبينه عشر دقائق، فيروس كورونا، مناعة أبي شبه المعدومة والخوف، كلها أسباب حالت دون عناقنا.
فيروس جديد منعني من لمسة أحبها مرتين، مرة من عناق الرجل الذي له الفضل في حياتي، ومرة أبعدني عن الرجل الذي أنجو به من الخراب الذي حولي.
اليوم بيننا مئات الكيلومترات، تُقربنا التكنولوجيا، يضغط على زر الاتصال فيكون وجهي بين يديه، ليكفر بتطور يعجز عن إرسال رائحة من نحبّ، فالصوت والصورة محض وهم طالما لا تباركهما الرائحة.
الرائحة لن تختفي حتماً، سيتوقف عداد الموتى، وستنتهي الجائحة بطفرة مثلاً، بحظنا من الطبيعة، وبالتأكيد بعلم يطوّر لقاحاً أو علاجاً، لكننا حينها سنقف أمام خيارين: إما أن نهرع للطبيب النفسي أو لأحضان من نحب، وهنا قصص الحب الناجية من افتراس الحجر، من نوبات الملل والغضب والحزن، تشبه تماماً الجينات التي تطورت ونجت من كل عوامل الطبيعة التي كادت تخفيها، لندرك حينها أننا بالحب الصالح وحده ننجو من خوفنا، من الحزن الذي ابتلع صدورنا ومن الألم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...