يحيي العديد من الناس في مختلف بلدان العالم اليوم "الجمعة العظيمة"، التي تعرف أيضاً بـ"جمعة الآلام" و"الجمعة الحزينة" وهو يوم الجمعة السابق لعيد الفصح.
تعتبر "الجمعة العظيمة" من أبرز المناسبات الدينية المسيحية التي يطغى عليها طابع الحزن، لكونها تعيد إحياء ذكرى صلب يسوع المسيح وموته، بعد أن تعرض لمجموعة من العذابات، منها الجلد ودقّ المسامير في يديه وقدميه ووضع إكليل من الشوك على رأسه.
وفي وقت مبكر من القرن الأول، خصصت الكنيسة هذا اليوم للصلاة والصوم، وكانت الكنيسة اليونانية هي أول من أطلقت عليه اسم "الجمعة المقدسة"، أما الكنيسة الرومانية فقد أسمته "الجمعة العظيمة" وذلك في القرن السادس تقريباً.
الفصح... أعظم عيد مسيحي
ما هو أهم عيد بالنسبة للطائفة المسيحية؟ قد يجيب الكثير من الناس بأنه عيد الميلاد بحيث يتم الاحتفال فيه بولادة المسيح، ولكن هناك فئة كبيرة من المؤمنين تعتبر أن أعظم عيد في الرزنامة المسيحية هو عيد الفصح، لكونه يجسد آلام المسيح وقيامته من الموت لخلاص نفوس البشر.
لماذا أسبوع الآلام بهذه الأهمية؟
بحسب المعتقد المسيحي، فإن خطيئة آدم الأولى تكمن بأنه خالف وصية الله، فاستوجب عقوبة الطرد من الجنة وورث ذلك كل البشر، وأمام هذا الذنب كان لا بد من إصلاح خطأ آدم، "قرر الله أن يرسل كلمته لتتجسّد من خلال السيد المسيح، وتأخذ هيئة إنسان ليمسح خطأ آدم الذي ورثه أبناؤه، ويعيدهم مرة أخرى للفردوس"، ومن هنا تكمن أهمية هذا الأسبوع، لأنه أساس الإيمان المسيحي وهو أقدس أيام السنة وأكثرها روحانية.
تعتبر "الجمعة العظيمة" من أبرز المناسبات الدينية المسيحية التي يطغى عليها طابع الحزن، لكونها تعيد إحياء ذكرى صلب يسوع المسيح وموته
يرتكز الإيمان المسيحي على مفهوم صلب المسيح الذي يشمل العديد من المراحل، ويتميز أسبوع الآلام بالعديد من القصص الروحية حيث يُعد أسبوعاً يحتفل فيه المسيحيون بدخول يسوع القدس، إنشاء سر الإفخارستيا وبداية آلام المسيح الّتي أدت في نهاية المطاف لصلبه، ثم القيامة من الأموات في يوم أحد القيامة، وقد اختارت الكنيسة لهذا الأسبوع قراءات معينة من العهدين القديم والجديد، بالإضافة إلى مجموعة من التأملات والتفاسير الروحية.
تبدأ احتفالات أسبوع الآلام يوم أحد الشعانين، يوم دخول يسوع إلى أورشليم. تُرتّب أحداث أسبوع الآلام بحسب سير خطوات المسيح في آخر أسبوع له على الأرض: يوم الاثنين، مرّ المسيح ببلدة بيت عنيا ولعن شجرة التين غير المثمرة وطرد الباعة من الهيكل. يوم الثلاثاء يوم استضافة يسوع في بيت الفرّيسي وتكفين مريم له بالطيب الغالي الثمن. يوم الأربعاء يوم مؤامرة يهوذا والاتفاق على بيع المسيح بثلاثين من الفضة. ويُسمّى هذا اليوم "أربعاء أيوب" وفيه رتبة تبريك الزيت لشفاء المرضى. يوم الخميس، تمّ القبض على يسوع في جبل الزيتون وبدأت المحاكمة والجلد. يُسمّى خميس الغسل (غسل يسوع أرجل التلاميذ) أو خميس الأسرار، نظراً لعهد الفصح وتأسيس سرّ الكهنوت وسرّ العماد وسرّ الإفخارستيا (سرّ القربان). يوم الجمعة العظيمة أو الجمعة الحزينة (عُلِّق يسوع على الصّليب). عُرف يوم السبت بسبت النور أو سبت الغفران والأحد يوم قيامة الربّ.
طقوس الجمعة العظيمة
في زمن الآلام والفصح، يعيش المسيحيون حالة خاصة من التعبد والصلاة، وتعيش الكنيسة في حالة نسك شديد، فالكهنة لا يمارسون سرّ المعمودية وسرّ الزواج ولا يرفعون البخور ولا تقام القداديس إلا يوم خميس العهد، أما يوم الجمعة العظيمة فتتشح الكنائس بالسواد والحداد، علامة الحزن والكآبة.
وفي العادة تقام الصلوات يوم الجمعة العظيمة في فترة ما بعد الظهر، من الثانية عشر وحتى الساعة 3 بعد الظهر، واللافت أن العديد من الكنائس من حول العالم تقوم في هذا اليوم بإعادة تمثيل مراحل الصلب التي تصور الساعات الأخيرة من حياة يسوع.
يرتدي الكهنة لباسهم الأسود ويسيرون بشكل متتال، أمّا رئيسهم فيحمل فوق كتفه صليباً خشبياً، ويسير أمام الصليب الشخص الذي يحمل البخور، ويتبع الكهنة رئيسهم من ورائهم وهو يحمل مروحتين حتى الوصول إلى باب المذبح الأوسط، ويبدأون دورة من الصلوات يتلون فيها ترانيم خاصة بالمناسبة، ويتمُ تجهيز بعض الأواني ومواد أخرى للتحنيط، فيها بخور وعطور في صينية يتمّ وضعها على المذبح، ويأتي المؤمنون أيضاً ببعض الزهورِ.
ويحمل المصلون نعشاً مزيّناً يطوفون به في الشوارع ومن ثم يضعونه أمام مدخل الكنيسة، ليبارك كل من يمرّ تحته، وبعدها يوضع في القبر استعداداً للاحتفال بقيامته فجر الأحد المقبل.
وفي القدس مثلاً، يجسد مسيحيو فلسطين درب آلام المسيح في يوم "الجمعة العظيمة" كل عام، من خلال المشي على الطريق الذي يعتقد أنه سلكه المسيح وهو يحمل صليبه، في المدينة القديمة، بدءاً من قلعة أنطونيا وحتى كنيسة القيامة.
وفي حين أن العادات الاجتماعية تختلف من بلد إلى آخر، إلا أنه في العادة يبتعد المؤمنون يوم الجمعة العظيمة عن كل مظاهر الفرح، وترتدي النساء ثياباً سوداء علامة الحداد، والغالبية العظمى تصوم عن الطعام، مع العلم أن بعض الأفراد يطوون الأسبوع كله أو يطوون ثلاثة أيام ويأكلون أكلة واحدة، ثمّ يطوون الثلاثة أيام الباقية، والكثير من المؤمنين لا يأكلون شيئاً من الخميس مساءً حتى قداس العيد.
وترتبط "الجمعة العظيمة" في بعض البلدان بتناول مأكولات معيّنة، حيث يعد طبق "الحر والمر" في سوريا ولبنان، وهو عبارة عن سلطة خضار، يضاف إليها الزيتون لإضفاء نكهة من المرارة، تيمناً بالمسيح الذي ذاق المر على صليبه وفق رواية العهد الجديد، في حين يتناول المصريون على الإفطار طبقاً من الفول، من دون زيت، مع القليل من الخل.
الصوت الملائكي "يوم الآلام"
طوال يوم "الجمعة العظيمة"، تبثّ مكبرات الصوت ترانيم خاصة بالمناسبة مثل "اليوم علّق على خشبة" و"أنا الأم الحزينة"...
وفي لبنان جرت العادة أن يصدح صوت فيروز الملائكي في إحدى الكنائس التي تختارها، حيث ترتل مجموعة من التراتيل الحزينة، بعضها مستوحى من التراث البيزنطي.
وتماشياً مع إجراءات الحجر المنزلي، ظهرت فيروز هذه السنة في مقطع فيديو نادر من بيتها وهي تقرأ آيات من سفر المزامير.
واللافت أن الفيديو الذي نشرته قناة فيروز الرسمية في "يوتيوب"، انتشر بشكل واسع في مواقع التواصل، وبدت فيه فيروز وهي تصلي لخلاص العالم: "يا رب لماذا تقف بعيداً، لماذا تختفي في أزمنة الضيق، لكلماتي اصغ يا رب، تأمّل صراخي، استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي، لأني إليك أصلي. أوجّه صلاتي نحوك وأنتظر. انت تخلص الشعب البائي، أنت تضيء سراجي. الرب إلهي ينير ظلمتي. لو لأنّ الرب معيني لسكنت نفسي سريعاً أرض السكوت..."، وختمت قراءتها بالقول:" الله ملجأ لنا".
فصح 2020
لا شك أن فيروس كورونا المستجدّ أربك تحضيرات المسيحيين لعيد الفصح وحرم الجميع من بهجة العيد والاحتفال به، فيأتي يوم "الجمعة العظيمة" هذا العام مختلفاً عن جميع الأعوام التي سبقت، وذلك نتيجة إجراءات التباعد الاجتماعي، فالتزاماً بقرار غلق الكنائس منعاً للتجمعات للوقاية من انتشار فيروس كورونا باتت المشاركة في الصلوات تقتصر على الصفحات الإلكترونية التابعة للكنائس، وهكذا تحولت البيوت جميعها إلى "كنائس صغيرة"، وقد أغلقت كنيسة القيامة في القدس أبوابها أمام الحجاج المسيحيين للاحتفال بعيد الفصح، بسبب الإجراءات المتبعة للحد من تفشي فيروس كورونا، فيما أكد المؤرخ الفلسطيني جوني منصور لوكالة الأنباء الفرنسية أن هذه هي المرة الأولى التي تغلق فيها الكنيسة التاريخية أبوابها خلال عيد الفصح منذ 100 عام.
وبالتالي يمكن القول إن مشهد الفصح هذا العام "إستثنائي" ولم تشهده الكنيسة المسيحية من قبل: لن يكون هناك سجود أمام القربان، كما أن الشوارع ستخلو من المسيرات التي ينظمها في العادة المؤمنون لتلاوة مراحل درب الآلام، فلن يتم حمل نعش المسيح على الأكف والتطواف به لتبركة الناس، بل سيكتفي أبناء الطائفة المسيحية بالاستماع إلى التراتيل في منازلهم، والجلوس وراء شاشات التلفزة لمشاهدة البرامج الروحية وسماع الصلوات والمشاركة بها عن بعد.
التزاماً بقرار غلق الكنائس منعاً للتجمعات للوقاية من انتشار فيروس كورونا باتت المشاركة في الصلوات تقتصر على الصفحات الإلكترونية التابعة للكنائس، وهكذا تحولت البيوت جميعها إلى "كنائس صغيرة"
وفي حين أن البعض يعتبر أن فيروس كورونا، مع انتشاره السريع وما يحصده من أرواح يومياً، أفقد الأعياد نكهتها الجميلة وجعل جميع الأيام متشابهة، فإن البعض الآخر ينظر بإيجابية إلى جميع ما يحدث، ويعتبر أن هذا هو الوقت الأنسب لكي يعود الإنسان إلى ذاته وإلى جذوره ويعيد النظر في أخطائه، بهدف أن "يولد" من جديد بعد انتهاء هذه الأزمة العالمية، متسلحاً بتعاليم الكنيسة التي تشدد على أنه ما بعد الموت هناك دائماً قيامة وحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...