كان يوماً ثقيلاً ذاك الذي واجه فيه رجب واقعةً لم يمر بمثلها من قبل. كان يجلس أمام منزله في إحدى قرى محافظة الغربية، شمال مصر، ويتلفت بعينيه يميناً ويساراً. لاحظ أن أحداً لا يمر من المكان، وأدرك أن الأمر مرتبط بشائعة إصابته بالكورونا.
رجب زرزورة، من قرية صناديد، يبلغ من العمر 26 عاماً، ويعمل في فندق سياحي في مدينة شرم الشيخ، وارتبط اسمه في قريته بفيروس كورونا، بعد إصابته أحد العاملين في الفندق.
اكتشفت حالة هذا العامل في 23 آذار/ مارس، فعملت إدارات الصحة على فحص كل العاملين في الفندق، بمَن فيهم رجب الذي كان قد عاد إلى قريته في العاشر من الشهر نفسه.
مجرد الإعلان عن خضوع رجب لفحص طبي وإجرائه التحاليل اللازمة كان سبباً في اهتزاز القرية المصرية التي لم تُسجّل أي حالة بالفيروس حتى الآن.
"كأنني فيروس يمشي على الأرض"
التزم رجب منزله كإجراء احترازي، ولم تظهر عليه أية أعراض. لكنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. ضجّت القرية بشائعة إصابته بالكورونا، بعدما وُجد اسمه ضمن قائمة مخالطين لإحدى الحالات المصابة.
جرى تداول الأمر على نظاق واسع بين أبناء القرية، ما دفع رجب للرد على ذلك بتأكيد أنه غير مصاب بالفيروس وأنّه أجرى التحليل اللازمة وعزل نفسه احترازياً.
يؤكد رجب أن للناس الحق في التخوّف من سرعة انتقال المرض، وأنّ التباعد الاجتماعي أمرٌ مهمٌ لمنع تفشي كورونا، إلا أنّه لا يرى مبرراً لتعرضه لما وصفه بـ"التنمر".
يقول لرصيف22 إنه يواجه نفوراً غير مبرر من قِبل بعض المحيطين به، على الرغم من إبلاغهم بأنه غير حامل للفيروس. ويحكي أنّه عندما يجلس أمام منزله، يوجّه له بعض المارة نظرات "غير لطيفة"، حتى أن منزله يكاد لا يشهد عبور أي شخص من أمامه.
ويضيف: "أنا ألتزم البيت ولا أغادره. أرى نظرات تقليل مني من قبل البعض. الناس ينظرون إليّ وكأنني فيروس يمشي على الأرض. سمعت بضعهم يقول: لماذا لا يلتزم بيته؟ يبدو أنّهم يتهموني بأنّني أرغب في الإضرار بهم. هل من المنطقي أن يحدث كل ذلك وأنا غير مصاب بالمرض".
تداول شائعة إصابة رجب حوّلت منزله إلى "قنبلة يخشى الناس انفجارها في أي وقت"، بحسب تعبيره. وعلى الرغم من نفيه لخبر إصابته، تعرّض لما وصفه بـ"التطاول" من قِبل بعض الأشخاص، ويقول: "اتهموني أنني أخفي المرض. هل خضوعي لتحليل عار لحِق بي؟ شرحت الأمر للجميع، لكن الناس لا تتوقّف عن التطاول عليّ".
يخشى رجب أمراً آخر، وهو إمكانية ظهور حالة في القرية، وبالتالي تحميله هو المسؤولية.
ما تعرّض له رجب أكّده شقيقه إسلام. قال لرصيف22: "تلقيت رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي فيها إهانة لنا. لم يكتفوا بما ألحقوه بنا من ضرر نفسي. كل هذا حدث بسبب شائعة".
"شعرت بأنني جرثومة"
"شعرت بأنني جرثومة". هكذا لخّص إيهاب ما تعرّض له من قِبل بعض المحيطين به لمجرد ارتباط اسمه بفيروس كورونا.
إيهاب كان يعمل على سفينة سياحية في محافظة الأقصر اكتُشفت إصابات بكورونا على متنها. من هنا بدأت رحلته مع الفيروس. نُقل إلى مستشفى العزل الصحي في محافظة مطروح مع زملاء له، وأجريت له التحاليل اللازمة، ولم يذق طعم الحياة من جديد إلا بعدما ظهر أن نتيجة التحليل سلبية.
خروج إيهاب من العزل لم يشفع له أمام المحيطين به. يصف الشاب المصري نظرات الناس له بأنها "مليئة بالاحتقار".
بدوره، يؤكد إيهاب أنّ التباعد الاجتماعي الذي تنصح به مختلف الجهات الطبية أمرٌ شديد الأهمية، لكنّ الأمر معه لم يقتصر على التباعد، بل واجه معاملة من الناس وكأنّه "جرثومة تمشي على الأرض"، وفق تعبيره.
"اتهموني أنني أخفي إصابتي بكورونا. هل خضوعي لتحليل عار لحِق بي؟ شرحت الأمر للجميع، لكن الناس لا تتوقّف عن التطاول عليّ"
بذل إيهاب جهداً كبيراً في إقناع المحيطين به بأنّه غير حامل للفيروس، وبأنّ حالته الصحية على خير ما يرام، إلا أنّه يجد صعوبة شديدة في العودة لممارسة حياته العادية بشكل طبيعي.
يحكي واقعةً جرت معه قبل أيام. كان يسير في أحد شوارع قريته، ففوجئ بالناس تجري في الشوارع من حوله، وتصرخ: "كورونا... كورونا".
تركت هذه الأحداث أثراً نفسياً سيئاً في نفسه. يقول لرصيف22: "لا أدري ماذا أفعل حتى يتعامل معي الناس بشكل طبيعي. الناس يتوجسون وينفرون مني. أنا سليم وغير مصاب بالفيروس. إذا كان الحل أن أعيش في المجتمع وحيداً سأفعل".
لا يقتصر الأمر على ذلك. كثيرون ممَّن تظهر عليهم أعراض شبيهة بأعراض "كوفيد-19" يتخوفون من الإفصاح عن الأمر، خوفاً من الوصم الذي سيرافقهم.
"عاملني بلطف"
النظرات التي لاحقت رجب وإيهاب لاحقت محمود الذي كان على متن مركب سياحي اكتُشفت فيه حالات إصابة بكورونا، فتمّ نقله مع زملائه إلى مستشفى حميات أسوان، وهناك ظهرت الفاجعة عندما أخبر بأن نتيجة فحصه "إيجابية".
عاش محمود أياماً صعبة في الحجر الصحي، لكنّ الحياة عادت إليه مرة أخرى عندما تحوّلت نتيجة تحليله إلى سلبية، وعاد إلى بيته.
رحلة محمود الصعبة مع الفيروس لم تنتهِ عند هذا الحد. على الرغم من أنّ مناعته وقفت حجر عثرة أمام "كوفيد-19"، إلا أنّه بعدما عاد إلى المنطقة التي يقطن فيها، في أقصى صعيد مصر، وجد الوصم الذي يلازم مَن يرتبط اسمه بكورونا.
يؤكّد محمود أنّ كل مَن يرتبط اسمه بكورونا يواجه أزمات نفسية كبيرة، تنبع جميعها من نظرة الناس إليه، وكأنّه السبب في نشر الموت حوله، ويقول لرصيف22: "أخاطب الجميع. أرجوك أخي. تعامل معي بلطف. أنا لست حاملاً للفيروس".
"شعرت بأنني جرثومة"، يقول شاب مصري ويحكي واقعةً جرت معه قبل أيام. كان يسير في أحد شوارع قريته، ففوجئ بالناس تجري في الشوارع من حوله، وتصرخ: "كورونا... كورونا"
انتشار ثقافة العار
يقول أستاذ علم الاجتماع الدكتور عمار علي حسن أنّ أزمة فيروس كورونا تكمن في سرعة تنقله بين البشر، وهو ما يضاعف حالات الرعب التي تصل إلى حد التنمر.
يضرب مثالاً عن قرية في محافظة الدقهلية حاولت إخفاء حقيقة ظهور الفيروس بين أحد أبنائها، خوفاً من العار الذي قد يصم القرية، فادعى أبناؤها أنّ قريتهم آمنة وعقدوا اجتماعات ومراسم للتأكيد على أن كل شيء طبيعي، إلا أنّ الفيروس تفشى بشكل واسع بينهم، ما أفضى إلى عزلها في ما بعد.
ويقول لرصيف22: "سكان هذه القرية ظنوا أنّ انتشار الفيروس هو عار يلحق بهم. الأمر لا يجب أن يكون هكذا ويجب التصدي لذلك سريعاً حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة".
يرجع الباحث التنمر ضد المصابين أو المشتبه بإصابتهم بكورونا إلى حالة جهل تسود في بعض المجتمعات، ويعتبر أن القضاء على هذه الثقافة أمرٌ منوط برجال الدين والإعلام الذين يتوجّب عليهم لعب دور توعوي من أجل منع تحويل الخوف من الإصابة بالعدوى إلى نفور مجتمعي من الأشخاص والتنمر عليهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...