يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
أنتم وسط العاصمة الجزائر؟ لا مفرّ إذاً من التسكّع في شارع "دِيدوش مُراد", والتمتع بصخبِه والضوضاء التي يصنعها فيه يومياً جزائريون وأجانب عابرون, ومحلّاته المرصوفة إلى جانب بعضها بعضاً، والجلوس تحت أشجار النخيل الشاهقة الموزعة على طرفيه.
لم أكن أستغني إطلاقاً عن المشي في الشارع صباحاً لأتلذذ بهدوئه، قبل أن ألتحق بعملي الكائن مقرّه في إحدى العمارات العتيقة بحيّ "ميسوني"، وسطه, والتقاط روائح القهوة المنبعثة من المقاهي المتميزة الموزعة على أطرافه والخبز الطازج والمأكولات الصادرة عن المحالّ والمطاعم المنتشرة في جوانبه.
للشارع طابع مميز
سُمّي شارع "دِيدوش مراد", بهذا الاسم نسبة إلى الشّهيد ديدوش مراد, أحد الأبطال الذين استُشهدوا خلال معركة الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي في فترة الاحتلال التي عاشتها الجزائر. وللشارع طابع مميز, فهو ليس بالحديث؛ عمرانه يتآكل يوماً بعد يوم بمرور الزّمن والرّطوبة, فمعظم عماراتها يعود بناؤها إلى الفترة الاستعمارية, فهي عبارة عن بيوت وشقق سكنية اهترأت شرفاتُها وجدرانها, غير أنها تفتن المارّين وتجذبهم لمشاهدة التماثيل المنحوتة عند مداخلها ومصاعدها المعتمة والغريبة الشّكل, حيث ينتابكم شعور مخيف وأنتم تصعدونها لأنّ معظمهما أصبحت مهترئة.
ويمتدّ شارع ديدوش مُراد بين كنيسة "القلب المُقدّس" ومبنى البريد المركزي, ويمرّ على مبنى الجامعة المركزية، وساحة "موريس أودان", ومن تحته يمرّ مترو الأنفاق.
من الشارع تلوحُ دارُ الولاية ومبنى البريد وحديقة "صوفيا" وكورنيش البحر ومحطّة القطار والميناء. ومن هناك ترون البحر مفتوحاً إلى آخر المدى. كما يمكنكم مشاهدة كيف ينسدل الجبل وجذور أشجاره تلامس قاعَ البحر. ومن هناك تتراءى لكم عظمة المكان وسطوة التاريخ.
ارتبط شارع ديدوش مراد بالحِراك الشعبي الذي شهدته البلاد منذ 22 فبراير/شباط 2019, حيث احتضن العشرات من التجمعات والوقفات الاحتجاجية منذ انطلاق الحراك, بالنظر إلى موقفه الإستراتيجي القريب من مختلف محطاّت النقل
وحفاظاً على العمق التاريخي والهوية الجزائرية, خَصّصت السّلطات المحلية لولاية الجزائر 500 مليون دينار جزائري، ما يعادل 4 ملايين و 553 ألف دولار أمريكي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وترميم العمارات القديمة التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية.
وجهة للعشاق
غالباً ما يكون الجوُّ معتدلاً في "ديدوش مراد". نسمات البحر المتوسط تنعش المكان, قبل أن تسدل الشمسُ خيوطها عند منتصف النهار لترتفع درجة الحرارة. ولا يخلو الشارع الذي تنتشر على طوله مجموعة من الأشجار المتلاصقة, من المارّين، بينهم عشاق هاربون من ضغط الجامعة, يقطعون الشارع ذهاباً وإياباً، يتبادلون أطراف الحديث سوية عن الزّمن الحاضر والمستقبل, ويستمتعون بما تعرضه متاجر الصناعات التقليدية والمحلّات الفاخرة المضاءة بالمصابيح الملونة, من ملابس وحلي وأشياء للزينة قادمة من مختلف أنحاء البلاد, خصوصا من الصحراء, كألبسة مصنوعة من الشّاش والوبر، والحلي وأدوات التزيين. فلا يُمكنكم الخروج من هذه المحلات دون أن تشتروا تذكاراً.
ويستمرّ المارّة في الصعود إلى غاية مقهى "سيغافريدو"، قرب كنيسة "القلب المقدس", يستمتعون بشرب القهوة وتذوّق أشهى الحلويات، بعيداً عن الصّخب والضوضاء.
وتُصنّف كنيسة "القلب المُقدّس" المبنية على يد المهندس الفرنسي لو كوربيزييه Le Corbusier بين عامي 1958-1962، من أهمّ الكنائس في الجزائر العاصمة. تتميّز هذه الكنيسة بشكلها الذي يُشبه مِدخنة كبيرة ومعمارها الوظيفي، لكنها لا تتمتع برؤية خارجية خلاّبة كما كنيسة "السّيدة الإفريقية"، المطلّة على غرب المدينة، وحيّ "باب الواد" المشهور، ومن تحته البحر.
متحف من الأماكن والمشاهد
وخلال تجوالكم في الشارع, ستُصادفكم العديد من المقرات والمعالم التاريخية المهمة التي تستحق التوقّف عندها، وأخرى تجذبكم لزيارتها؛ أولها مكتبة "النجمة الذهبية"، وهي أقدم مكتبة لبيع وتأجير الكتب في الجزائر. وبالقرب منها يُصادفكم أقدم مقهى فسلطيني واتحاد الكتاب الجزائريين، إضافة إلى حديقة "غالان" المعروفة بأشجارها الشاهقة، ومتحف باردو والمتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية.
من الشارع تلوحُ دارُ الولاية ومبنى البريد وحديقة "صوفيا" وكورنيش البحر ومحطّة القطار والميناء. ومن هناك ترون البحر مفتوحاً إلى آخر المدى، وتتراءى لكم عظمة المكان وسطوة التاريخ
ومن أشهر الأماكن لدى سكان الجزائر, في شارع ديدوش مراد، هو السينما الجزائرية, بمبناها العتيق والمميز, والذي يقبع فوقه رسم كبير مزركش باللّونين الذهبي والأحمر, يحوم حوله الحمامُ باحثاً عن مأوى له.
ومن هذا الشارع بإمكانكم رؤية مبنى البريد المركزي الذي تتوسط شارعين مهمّين يحملان اسمين من أسماء شهداء الثورة التحريرية الجزائرية، شارع الشهيد العربي بن مهيدي، وشارع الشهيد ديدوش مراد، وهما رمزان خالدان من رموز ثورة الجزائر التحريرية,.
ترون في هذا الشارع دار الولاية وحديقة صوفيا وكورنيش البحر الأبيض المتوسط، والسفن التي ترسو في الميناء ومحطة القطار. وبإمكانكم أن تروا أيضاً الكتلة الجبلية التي يتربع عليه حيّ "باب الواد" في أعالي الجزائر العاصمة.
شاهد على الحِراك
ارتبط شارع ديدوش مراد بالحِراك الشعبي الذي شهدته البلاد منذ 22 فبراير/شباط 2019, حيث احتضن العشرات من التجمعات والوقفات الاحتجاجية منذ انطلاق الحراك, بالنظر إلى موقفه الإستراتيجي القريب من مختلف محطاّت النقل، كمحطة ميترو الأنفاق، ومحطة الحافلات بـ "تافورة" بقلب العاصمة الجزائرية, فتحوّل إلى مُلهم للآلاف، ومنبر للمطالبين بتحسين الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...