عبر التاريخ، تلجأ جماعات دينية إلى ممارسة طقوس معيّنة لمجابهة مخاطر متحققة، اعتقاداً منها أنها تدفع البلاء واتكالاً على ظنّ أنها تحظى باصطفاء إلهي، ولكن كثيراً ما تساهم هذه الطقوس نفسها باستجلاب البلاء بدل ردّه.
يسجل التاريخ أن المسلمين اجتمعوا في دمشق والقاهرة، للدعاء من أجل دفع طاعون أصابهم، فأدى ذلك إلى ازدياد الإصابات والوفيات، بسبب اختلاطهم، إذ انتقلت العدوى بينهم ومات منهم الآلاف، ولم يعرف الطاعون لا معجزة ولا كرامة، ولم يفرّق بين مؤمن وكافر.
هذه الأحداث يوثّقها ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون". يتحدث عن طاعون وقع في دمشق سنة 764هـ (1362م) ويكتب: "خرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر، وكان قبل دعائهم أخف".
ويروي قصة طاعون وقع في القاهرة، في 27 ربيع الثاني، سنة 833هـ (1429)، ويقول: "كان عدد مَن يموت بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء، في الرابع من جمادي الأولى، بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيام، كما في الاستسقاء، واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعة ورجعوا. فما انسلخ الشهر حتى صار عدد مَن يموت في كل يوم بالقاهرة فوق الألف ثم تزايد".
بعد أربعة قرون، وتحديداً في تموز/ يوليو 1830، علمت بغداد بتفشي الطاعون في مدينة تبريز الإيرانية، وبعد شهرين وردت الأخبار بوصوله إلى كركوك، "فطلب داوود باشا من طبيب القنصلية البريطانية إعداد منهج للحجر الصحي بغية منع الوباء من التقدم نحو بغداد. وقد أعد الطبيب المنهج ولكن المتزمتين من رجال الدين في بغداد أفتوا بأن الحجر الصحي مخالف للشريعة الإسلامية، ومنعوا داوود باشا من اتخاذ أي عمل لصد سير الوباء"، كما يروي علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث".
ويكمل الوردي سرد القصة ويقول: "لهذا كانت القوافل الواردة من إيران وكردستان تدخل إلى بغداد بكل حرية... وقد ذكر سليمان فائق الذي كان في بغداد يوم ذاك: ‘إن عدد الجنائز التي أخرجت من أبواب المدينة في أواخر شهر آذار (مارس) بلغ الألف، وفي أواسط شهر نيسان (أبريل) بلغ العدد ثلاثة آلاف جنازة يومياً حسب ما ضبط في سجلات الموظفين، ثم لم يبقَ من الموظفين بعد إذ مَن يقوم بالتسجيل’".
هذا المسلك خالفه الأوروبيون الذين كانوا في بغداد، و"المسيحيون المتصلون بهم"، إذ عمدوا "إلى حجر أنفسهم في بيوتهم لا يخرجون منها... ولهذا كانت الإصابات بينهم قليلة نسبياً... أما سائر السكان فقد استسلموا للقدر وأخذ الطاعون يحصدهم حصداً، حتى قيل إن عدد الموتى في اليوم الواحد بلغ أخيراً تسعة آلاف".
في 24 نيسان/ أبريل خرج المبشر البروتستانتي الإنكليزي أنتوني نوريس غروفز من داره لزيارة القنصلية البريطانية، فلم يصادف في طريقه أحداً عدا الذين يحملون الجثث. وبينما كان يسير في الشوارع بملابسه الكهنوتية شاهدته نساء "فأبدين إيماءات غريبة تلفت النظر، وكأنهن كن يخاطبن الله متعجبات من بقاء الإفرنج والكفار مثله على قيد الحياة، بينما كان يموت ذلك العدد الكبير من المسلمين"، حسبما كتب الوردي.
وسنة 1904، ضربت موجة كوليرا إيران، وحاولت السلطة فرض حجر صحي جزئي، لكن رجال الدين عارضوا هذه الإجراءات. في مقال نشره في مجلة "فورين أفيرز"، كتب أستاذ علم النفس والصحة العالمية والتاريخ في جامعة جورج واشنطن، أمير أفخمي عن موجة كوليرا وصلت إلى إيران عام 1904، وعن معارضة رجال الدين لوقف زيارة الأضرحة المقدسة، واتهامهم المسؤولين بتعزيز هدف "الكفار الغربيين"، فكان أن تفشى الوباء.
وكثيراً ما ضربت أوبئة مدينتي كربلاء والنجف، نتيجة قصدها من زائرين شيعة من داخل العراق وخارجه، ونتيجة نقل جثامين لدفنها فيها، بسبب طابعها الديني. وكثيراً ما كان يصعب احتواء هذه الأوبئة بسبب عناد رجال الدين وعموم الشيعة واعتقادهم بأن قداستها تمنع العدوى وتحمي من الوباء.
عام 1362، وقع طاعون في دمشق، وبدل الحجر "خرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر، وكان قبل دعائهم أخف"
تاريخ المدن التي تضم أماكن دينية مقدسة مع انتشار الأوبئة طويل. يسجل لنا التاريخ أن أوبئة وجوائح ضربت مكة والمدينة، في أيام الحج، وقتلت الآلاف.
وعرف المغرب المشهور بانتشار الزوايا والطرق الصوفية، أوبئة وجوائح كثيرة، كانت تحصد المئات في اليوم الواحد في المدينة الواحدة. ويساعد في فهم أسباب ذلك معرفة أن "المتصوّف يعتمد في حياته على العلاج بالريق، أو اللمس، أو المسح، أو الرقى، أو الدعاء، أو الصدقة، أو ماء الوضوء".
بطبيعة الحال، ساهمت "التفسيرات الخرافية" للأمراض والتي كانت سائدة قديماً، ولا زالت رغم تقدّم الطب، في صعوبة حصر الأوبئة. فنرى الطبيب الأندلسي الشهير ابن زهر الإشبيلي (1072 – 1162) يقول: "قد يكون هناك وباء من غير سبب معلوم عندنا، قال من غضب الله، وهذا إذا وقع ليس للطبيب فيه مجال".
ابن زهر الإشبيلي
ماذا عن الحال الآن؟
ربما نتفهم هيمنة هذه المعتقدات الغيبية في عصور وأزمنة ماضية، لكن حتى الآن، تستمر الكثير من الجماعات الدينية في اعتماد نفس المنطق.
الآن، مع تفشي فيروس كورونا وتحوّله إلى جائحة، دعت السلطات إلى تقييد الحركة والحجر في المنازل، وأيّدها عدد كبير من الفقهاء، ولكن بعض الأصوات الغارقة في الغيبيات أبى.
ففي المغرب، عارض الشيخان عبد الحميد أبو النعيم، وعمر الحدوشي قرار غلق المساجد، مدّعين أنها الملجأ في مثل هذه الحالات، ومتهمين السلطة بمحاربة الدين والمؤمنين. نفس الأمر ذهب إليه مصطفى العدوي في مصر، وحاكم المطيري في الكويت، ومحمد الحسن ولد الددو في موريتانيا، وعبد الله جاب الله في الجزائر...
كما خرج رجل الدين العراقي قاسم الطائي ليدعو إلى الاستمرار في زيارة الأماكن الدينية وإقامة صلوات الجماعة والجمعة، مدعياً أن "الفيروس لا يصيب المؤمنين". كذلك، استنكر ممثل المرشد الإيراني في خراسان وإمام الجمعة في مشهد، أحمد علم الهدى، قرار السلطات بإلغاء صلاة الجمعة بسبب تفشي الكورونا، معتبراً أنه "أمر من الله".
وفي الحقيقة، لو كان الأمر والسلطة والقوة بيد هؤلاء لأهلكوا شعوباً عن بكرة أبيها.
عام 1830، رفض رجال الدين في بغداد تطبيق منهج للحجر الصحي لمنع طاعون ظهر في إيران من التقدم نحو المدينة، فكانت النتيجة أن وصل الطاعون وراح في مرحلة تفاقمه يحصد آلاف الأرواح يومياً... أما الأوروبيون الذين كانوا هناك فقد حجروا على أنفسهم ونجوا
ففي ماليزيا، عقدت جماعة الدعوة والتبليغ اجتماعاً حضره نحو 15 ألف مشارك، في مسجد "سري بيتالنغ" في إحدى ضواحي كوالالمبور، بين 27 شباط/ فبراير والأول من آذار/ مارس، ما أدى إلى "تسارع وتيرة انتشار الوباء"، حسبما أعلن وزير الصحة الماليزي أدهم بابا مؤكداً "أن التحقيقات الأولية قد أشارت إلى أن معظم حالات فيروس كورونا الأخيرة كانت مرتبطة بهؤلاء المشاركين".
وعقدت الجماعة نفسها اجتماعاً آخر، في محافظة غوا جنوب جزيرة سولاويسي الإندونيسية، في 18 آذار/ مارس الجاري، وأجاب أحد المنظمين، موستار بحر الدين، على سؤال عن الخوف من انتشار الفيروس بسبب التجمع بالقول: "الخوف من الله أكبر".
هذا العناد لا يظهر فقط عند جماعات إسلامية. ففي مدينة روتينغ الإندونيسية، رفضت الكنيسة الكاثوليكية، رغم مناشدات كثيرة، تأجيل قداس كبير لها، لتنصيب أحد أساقفتها، فأقامته وحضره 7000 شخص.
وفي كوريا الجنوبية، تسببت كنيسة "مجتمع نهر النعم" بإصابة 46 شخصاً بفيروس كورونا عن طريق رش محلول ملحي في أفواه روادها لوقايتهم من الكورونا، باستخدام عبوة واحدة.
بعد ذلك، اضطرت السلطات إلى عزل نحو 260 ألف شخص من المترددين على هذه الكنيسة، ليتبين في ما بعد أنها تسببت في إصابة نصف العدد المعلن عنه في البلاد.
وفي مصر، تحدى الأنبا يؤانس كل التحذيرات، وقدم عظته الأسبوعية داخل كنيسة في أسيوط، في 18 آذار/ مارس، وسط جماهير غفيرة، وقال لأتباعه: إذا صليتم بإخلاص لن تصيبكم كورونا.
وفي إسرائيل، طلبت الحكومة إغلاق المدارس والتوقف عن الاحتفال بعقود الزواج بحضور عدد كبير، غير أن الكثيرين من المتدينين والمتشددين، ومختلف تيارات الحريديم، ترفض ذلك. وبحسب الحاخام إلياهو كوفمان، يرفض الحريديم "المبادئ الصهيونية التي تتنافى مع تعاليم التوراة والديانة اليهودية التي تحرّم الإغلاق الجارف للكنس أو حظر تدريس التوراة أو التأثير على العلاقة الروحانية ما بين الفرد والخالق". وكان حاخامات آخرون قد ربطوا ظهور الفيروس بالمثليين أو بقرب مجيء المسيح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين