مع تفشي الأمراض والأوبئة والفقر والمجاعة في اليمن، خصوصاً بعد مضي خمسة أعوام على الحرب، تزداد المشكلات الاجتماعية والأسرية حدة، فالأوضاع الاقتصادية تجعل الأب لا يطيق أبناءه، والأم في حالة غضب دائم.
عندما تبيت الأسرة بلا طعام، وتقف عاجزة عن إيجاده، يتحوَّل المنزل إلى غابة، فكل شخص يستبد بالآخر.
العشرات من الشباب والأطفال التحقوا بجبهات القتال، إما مع الحوثيين، أو مع قوات عبد ربه منصور هادي المدعوم من قبل التحالف العربي، ليس كما يصورهم الإعلام بأنهم "حماة الوطن"، بل بسبب مشكلات أسرية وضغوطات نفسية دفعتهم إلى الصفوف الأمامية في الجبهات.
"لا تعليم ولا عمل"
نجم عبد الرحيم، طالب في السنة الثانية من الثانوية العامة، حاول عدة مرات الالتحاق بجبهات القتال مع الحوثيين لأنه عاطل عن العمل، وأيضاً لم يكمل دراسته بسبب ضعف المنظومة التعليمية وغياب المعلمين، ظلّ نجم في صراع مع أسرته حول مستقبله وماذا سيعمل؟
"ضايع، أنت مش حق دراسة، إخرج دور لك عمل"، هذه العبارات التي يسمعها نجم من أسرته تجعله يؤنب نفسه، وتدفعه للتفكير بين الحين والآخر بالالتحاق بجبهات القتال.
يقول نجم (20عاماً)، الذي يسكن في محافظة تعز لرصيف22: "يريدون مني أن أشتغل، وأعتمد على نفسي، لكني بحثت عن عمل ولم أجد، وحتى إذا وجدت عملاً في الغالب يكون مرهقاً وبراتب بسيط، أشتغل فترة وأتوقف بسبب صعوبة العمل".
"حتى التعليم لا يوجد، أذهب إلى المدرسة، نجلس بالفصل لا يوجد معلمين، في الغالب نأخذ ثلاث حصص في اليوم، ونكون محظوظين بذلك، على الرغم من أن المقرر سبع حصص".
"بعد أن ضربه أبي وسط السوق العام الماضي، حتى أسال دمه على وجهه، لم يعد معاذ إلى المنزل وانضم للقوات الحكومية".
"أي ضغوطات يواجهها الشاب تجعله يتجه نحو جبهات الحرب، فمع روائح الموت المنتشرة في كل مكان، وألوان الدماء التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التلفاز، تجعل القتال هو الخيار الأول المتاح لهم"
يكمل نجم، كأنه يتحدث إلى نفسه: "تكون كلماتهم أقسى من الرصاص على قلبي، فعندما لا أكون أنا السبب في الظروف التي أعيشها، فأفكر بأن الموت سيجعلني أرتاح من هذا العذاب".
"ضربني والدي فالتحقت بالحرب"
وفّرت جبهات الصراع وجهة للشباب الفارين من آبائهم وأسرهم، فمن قبل لم تكن المشكلات حاضرة في أوساط المجتمع كما هي الآن، وكان الشباب يتوجهون إلى المدن الأخرى بحثاً عن العمل، ثم يعودون لإصلاح علاقتهم مع أسرهم.
معاذ حمود الذي ينتمي لمحافظة "إب"، التحق بجبهات القتال مع القوات التابعة لهادي، بمحافظة مأرب شرقي اليمن، بسبب قسوة والده عليه، وضربه، وشتمه أمام الناس.
معاذ ذو الأربعة والعشرين ربيعاً، كان يعمل على متن دراجة نارية، تعرَّض لضرب مبرح من والده أمام الناس، ما اضطره إلى ترك منزله وأسرته والالتحاق بالقوات الحكومية.
أصيب الشاب أربع مرات خلال المشاركة في القتال مع الحوثيين، لكنه لم يتوقف حتى اخترقت الطلقة الخامسة رأسه، وما زال نائماً في المشفى، شاخصاً بصره إلى السماء دون حراك، بين الحياة والموت، بحسب رواية أخيه عبد الله لرصيف22.
يقول عبد الله: "لم يكن أخي يرغب في القتال، وكان يكره جميع الأطراف ويعتبر الحرب عبثية، لكن والدي أجبره على ذلك من خلال قسوة تربيته".
يضيف عبد الله: "بعد أن ضربه أبي وسط السوق العام الماضي، حتى أسال دمه على وجهه، لم يعد معاذ إلى المنزل وانضم للقوات الحكومية".
عبد الله هو الآخر، فرَّ من ظلم والده والتحق بأخيه في مأرب، بعد أن تعرض للضرب المبرح من والده والإهانات امام الناس.
"لا يقيم أبي وزناً لمشاعرنا وكرامتنا، المهم ينفذ رغباته، ضربني بسبب وشاية خاطئة، ولم يعطني الوقت لأعرف سبب ضربه لي، أو أدافع عن نفسي".
أشتاق لأبي وأمي ومنزلي ولا أرغب في القتال، لكن كلما تذكرت ظلم والدي فضلت الموت على العودة، يضيف عبد الله في حديثه لرصيف22.
ثقافة الموت
"اضرب ابنك وأحسن أدبُهُ ما يموت إلا لـما يجيء أجلُهُ"، يُتداوَل هذا المثل بين اليمنيين بشكل كبير، للتشديد على ضرورة تربية الأبناء حتى لا ينحرفون، فالمهم أن يتربى الأطفال والشباب على القيم التي يريدها الآباء دون مراعاة نفسيتهم ورغباتهم، وينفذون طلبات الأسرة، تقول الناشطة الاجتماعية خلود عبد الله.
لكن الأمر اختلف الآن عن سابقه، فأي ضغوطات يواجهها الشاب تجعله يتجه نحو جبهات القتال، فمع روائح الموت المنتشرة في كل مكان، وألوان الدماء التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التلفاز، تجعل القتال هو الخيار الأول المتاح لهم، لعدم توفر الأعمال، وضيق الحالة الاقتصادية، تضيف خلود.
وتشير خلود إلى أنَّ المشكلات الاجتماعية زادت خلال الفترة الأخيرة بسبب النزوح، وتفشّي ثقافة الموت، وغياب التعليم، بالإضافة إلى البطالة.
"انتحاري بلا هدف"
محمد فرحان الذي يسكن العاصمة المؤقتة عدن، طالب في الصف التاسع، ترك المدرسة بعد رسوبه، وفضَّل المكوث في المنزل، لكنه لم يطق الجلوس فيه بسبب ضغوطات والديه لإجباره على العودة إلى المدرسة، فيصرف معظم وقته في الشارع مع أصدقائه.
تأثر محمد (16 عاماً)، بالزوامل المحرضة على القتال التي كان يسمعها، والتي أصبحت اللون الفني السائد، والمرتبط بالقتال في اليمن خلال الفترة الحالية، فالتحق بجبهة القتال مع القوات الجنوبية دون علم أسرته.
لم تكن أسرته تعلم مع من ذهب وإلى أي منطقة، لكن والده وبفضل معرفته تمكن من إعادته إلى المنزل بعد نصف شهر من غيابه، لكن محمد الذي بات معقداً نفسياً من المنزل، والذي يتعرض فيه للضرب وللضغط من قبل والده أيضاً، لم يعد يطيق العيش فيه، وعاد يقضي معظم وقته إما في الشارع أو في منزل خاله في الحي المجاور.
"يضربني والدي بسبب مرافقتي لأصدقاء، يراهم غير جيدين، ويريدني ملتزماً ومثالياً"
"يضربني والدي بسبب مرافقتي لأصدقاء، يراهم غير جيدين، وأيضاً لمضغي شجرة القات، حيث يريد مني أن أكون مثالياً وملتزماً، لكنني لا أحتمل الإهانة كل يوم"، يقول محمد لرصيف22.
وبعد فترة التحق محمد بشرطة الأمن بعدن، والذي ما زال يعمل معها، ويزور أسرته بين الحين والآخر.
يعلق المحامي والناشط الحقوقي عبد الرحمن الزبيب، أنَّ انضمام الشباب لجبهات القتال دون اقتناع خطأ جسيم جداً، لأن ذلك يعتبر إقحاماً لأشخاص في القتال دون اقتناع، ما يتسبب ذلك في الاندفاع العنيف للقتال، وارتكاب تجاوزات، وعدم الالتزام بالاحتياطات للحفاظ على الحياة، حيث يتحول الشاب إلى انتحاري يقاتل بلا هدف سوى الهروب إلى الأمام لتجاوز المشاكل التي يعاني منها، بحسب الزبيب.
ويضيف الزبيب لرصيف22: "حتى متى يستوعب هؤلاء الشباب، لأنهم قد يتسببون في فشل الجبهة القتالية، لعدم اقتناعهم بالقتال وإنما هروب وانتحار، فسقوط الكثير من هؤلاء الشباب يؤثر بشكل كبير على معنويات الآخرين القتالية".
وتعتبر مشاركة الأطفال في جبهات القتال جريمة ومخالفة للقانون الدولي والوطني، الذي يحظر ويحرِّم إشراك الأطفال في القتال، ويؤثر هذا على الأطفال المشاركين وعلى تكوينهم النفسي مستقبلاً، ويحولهم لوحوش ومرضى نفسيين.
ويؤكد عبد الرحمن أن إشراك الشباب في جبهات القتال بالإجبار أو بالضغط، بسبب الظروف الاقتصادية أو بإجبار عائلاتهم لهم، يعد جريمة اختطاف كاملة الأركان.
وللحد من تلك الظاهرة، يدعو عبد الرحمن إلى نشر تعاميم منع تجنيد الأطفال، وفتح ملف تحقيق جنائي والتحقيق مع المتورطين، بالإضافة الى رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية عدم إجبار الشباب على الانخراط في جبهات القتال المختلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.