شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"حبر الأمة عبد الله بن عباس"... أب العباسيين الروحي وبديل علي بن أبي طالب في المُتخيل السنّي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 9 أغسطس 202010:17 ص

يُعَدّ الصحابي عبد الله بن العباس واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً وفاعلية في فترة الإسلام المبكر. الرجل الذي اشتهر بلقبيه "حبر الأمة" و"ترجمان القرآن" لعب أدواراً مهمة على مسرح الأحداث السياسية، كما أن مواقفه وتنظيراته دخلت في بناء وتشكيل المذاهب السياسية الأهم والأكثر انتشاراً في الإسلام.

وُلد ابن العباس في شعب بني هاشم، أثناء حصار الرسول والمسلمين، قبل الهجرة إلى يثرب بثلاث سنوات فحسب، وكان أكبر أبناء العباس بعد أخيه الفضل. ورغم عدم توافر معلومة قاطعة بخصوص توقيت إسلامه، إلا أن أكثر الآراء تؤيد كونه قد أسلم قبل فتح مكة عام 8هـ، وذلك اعتماداً على ما نُسب إليه نفسه من قوله: "كنت أنا وأمي من المستضعَفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء"، حسبما يذكر شمس الدين الذهبي (ت. 748هـ) في كتابه "سير أعلام النبلاء".

بعد فتح مكة، انتقل عبد الله مع أبيه إلى المدينة، فاستوطنها، ومكث في جوار الرسول ما يقرب من ثلاث سنوات، حتى توفي الرسول في عام ١١هـ.

الأب الروحي للعباسيين وواضع مصطلح أهل السنّة والجماعة

حظيت شخصية عبد الله بن العباس بمكانة مهمة في العقل السنّي على وجه الخصوص، إذ نُظر إليه على أنه أحد الآباء المؤسسين للتوجه السياسي السنّي، والذي ارتبط في ما بعد بتأسيس منظومة متناغمة ومتسقة من العقائد والأفكار التي تمكنت بمرور الوقت من فرض نفسها على الساحة الإسلامية.

أول تلك التأثيرات يتمثل في أن عبد الله بن العباس كان الأب الذي تحدّر من نسله الأئمة العباسيون الذين ناهضوا الدولة الأموية وتمكنوا من القضاء عليها، ومن ثم تأسيس دولتهم عام 132هـ.

فبحسب ما تتفق عليه جميع المصادر التاريخية، بدأت الدعوة العباسية مع أبي عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المتوفي عام 125هـ، والذي كان أول مَن دعا إلى حكم العباسيين، وبعد أن توفى آلت زعامة البيت العباسي لابنه إبراهيم، الذي عُرف باسم إبراهيم الإمام، ثم انتقلت زعامة البيت العباسي إلى الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح، ومن بعده أخيه أبي جعفر المنصور الذي تعاقب أبناؤه وأحفاده على كرسي الحكم والسلطة لقرون متوالية.

الدولة العباسية التي قُدّر لها أن تسيطر على مساحات شاسعة من الأقاليم الإسلامية لمدة تزيد عن خمسة قرون، وأن يمثل خلفاؤها السلطة الشرعية الأكثر تبجيلاً واحتراماً لدى أغلبية المسلمين في المشرق الإسلامي طوال تلك الفترة، وجدت أنه من اللازم العمل نحو رفع مكانة آبائها الأوائل، ولا سيما العباس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله بن العباس.

من هنا، ركزت المصادر التاريخية التي دُوّنت في العصر العباسي، والتي كُتب الكثير منها بأمر أو بدعم مباشر من السلطة العباسية، ومنها على سبيل المثال كتاب سيرة ابن إسحاق، على إظهار تفوق العباس على باقي إخوته من أعمام الرسول، ولا سيما على أبي طالب، والد الخليفة الرابع، والذي ينتسب إليه العلويون المطالبون بالحق في الحكم والخلافة.

بحسب ما ورد في سيرة ابن إسحاق وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري، تم التأكيد على كفر أبي طالب، وتم التغافل عن حقيقة دعمه غير المحدود للرسول في بدايات الدعوة الإسلامية في مكة. وعلى الجهة المقابلة، تمسكت المصادر نفسها، بإسلام العباس في فترة مبكرة، وبأنه كتم إسلامه بأمر من الرسول، ليكون عيناً له في قريش، فظل على ذلك الحال حتى فتح المسلمون مكة عام 8هـ.

أما في ما يخص عبد الله بن العباس، فقد تم تصويره على أنه الابن الأهم في البيت العباسي، وجرى إظهار تفوقه على كل من أخويه، الفضل وقُثم، كما عملت المصادر السنّية على المبالغة في إظهار علمه ونبوغه المبكرين، من خلال بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، ومنها "اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ" بحسب ما ورد في مسند أحمد بن حنبل، وأيضاً عن طريق شهادات بعض الصحابة المعاصرين له، ومن ذلك قول عبد الله بن عمر الوارد في مستدرك الحاكم النيسابوري" نَعَمْ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاس"، أو بعض الأقوال المنسوبة إلى ابن العباس نفسه، ومنها ما أورده الترمذي في سننه، من قول ابن العباس "دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُؤتيني الله الحكمة مرَّتين".

ومن هنا، لم يكن من الغريب أن تحتفي المدونات الحديثية والتفسيرية بروايات وأقوال ابن العباس، إلى الحد الذي وصل بمروياته إلى ما يزيد عن الألف وستمئة حديث.

كل تلك الإشارات رسخت من حضور عبد الله بن العباس في المِخيال السنّي الجمعي بوصفه عالماً لا يُشق له غبار، ومفسراً لا يُبارى في تفسير القرآن، حتى اشتهر بأنه "حبر الأمة" و"ترجمان القرآن"، وأصبحت متون التفاسير تمتلئ بالأقوال المنسوبة إليه، أو بالتي نُسبت إلى مَن تتلمذوا على يديه ونهلوا من فيض معارفه وعلومه.

تمكن العباسيون إذن من التقعيد والتأصيل لسلطتهم في مواجهة أعدائهم العلويين، من خلال رفع مقام العباس عن أبي طالب من جهة، وتعظيم علم عبد الله بن العباس بكل وسيلة ممكنة، ليصبح بديلاً ومكافئاً موضوعياً لصورة علي بن أبي طالب في المخيال الشيعي التقليدي، من جهة أخرى.

وإذا كان كل ما سبق يؤيد تأثير الشخصية المُتخيلة لعبد الله بن العباس، وأبيه، في المُتخيل السنّي السياسي، فإننا لا نعدم أن نجد مجموعة أخرى من التأثيرات المهمة لابن العباس، والتي ظهرت فعاليتها في ميدان الفكر السياسي في الإسلام، ومنها أن المصطلح الأشهر الذي صار يُطلق على السواد الأعظم من المسلمين، ممن آثروا الاستكانة للسلطة الحاكمة -بغض النظر عن طريقة تعيينها- وهو مصطلح أهل السنّة والجماعة، جرى اقتباسه بالأساس من إحدى الروايات المنسوبة لابن عباس، وهي تلك التي ينقلها عنه كل من أبي القاسم هبة الله اللالكائي المتوفي 418هـ في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة"، وابن كثير في كتابه "تفسير القرآن العظيم"، من تفسير ابن عباس للآية 106 من سورة آل عمران "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، بقوله: "يعني يومَ القيامة حين تبيضُّ وجوه أهل السنّة والجماعة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفرقة". وهكذا، نُقل هذا المصطلح من كتب التفاسير إلى المتون السياسية والعقائدية.

أبرز المواقف السياسية لابن عباس

إذا ما تركنا تأثير شخصية ابن العباس على المخيال السنّي الجمعي، وعملنا على قراءة علاقته بالسلطة طوال حياته، سنجد أن تلك العلاقة مرّت بعدد من محطات مفصلية تباينت فيها مواقفه بحسب الظروف والسياقات العامة التي عايشها.

نلاحظ تغيرا واضحاً في مواقف عبد الله بن العباس السياسية بعد اغتيال علي بن أبي طالب، إذ يبدو أنه تراجع عن تأييده المُعلن للمعسكر العلوي، ورضخ لحكم الأمر الواقع الذي تأسس بعد تنازل الحسن عن منصب الخلافة لمعاوية

تبدأ علاقة ابن العباس بالسلطة بالتزامن مع وصول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى سدة الحكم في ١٣هـ. عمر كان قد انتهج سياسة جديدة، تعتمد بالمقام الأول على تقريب العباس وأولاده، في محاولة لرأب الصدع بين أهل الرسول والخلافة، ومن هنا أعلى من شأن بني العباس وزاد في أُعطياتهم، واتخذ من عبد الله بن العباس- رغم حداثة سنه- مستشاراً وناصحاً، وقد فسر ذلك لمجموعة من الصحابة بقوله إن عبد الله هو "فتى الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول"، كما تحدث سعد بن أبي وقاص عن قوة العلاقة المنعقدة بين عمر وابن عباس فقال: "لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر"، وذلك بحسب ما يذكر الذهبي.

العلاقة بين عمر وابن العباس، تؤكد على اعتقاد الثاني بشرعية السلطة الحاكمة وتأييده لها، ولكن مع ذلك تُظْهر بعض النقاشات التي دارت بين الرجلين، أن الثاني كان يعتقد بأحقية أهل الرسول في ولاية الأمر، وذلك بحسب ما يذكر ابن عبد ربه الأندلسي المتوفي عام 328هـ في كتابه "العقد الفريد"، وأيضاً ما ذكره ابن عبد البر القرطبي المتوفي عام 463هـ، في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب"، من أن ابن عباس أشار على الخليفة الثاني قُبيل وفاته باستخلاف علي بن أبي طالب من بعده.

بعد وصول عثمان بن عفان عام 23هـ إلى كرسي الخلافة، حافظ ابن العباس على مكانه المميز من السلطة، فمارس الإفتاء على نطاق أكثر اتساعاً، وأضحى واحداً من أهم الفقهاء وعلماء الدين، كما أنه التحق بجيش المسلمين الذي قاده والي مصر عبد الله بن أبي السرح في عام 26هـ لغزو إفريقية، وكان هو الذي تولى مهمة توزيع الغنائم بين المسلمين عقب انتصارهم على جيش الوالي الروماني جرجيريوس في موقعة سُبيطلة، بحسب ما يذكر أبو زيد عبد الرحمن الدباغ المتوفي عام 696هـ، في كتابه "معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان".

ورغم أن الكثيرين من الصحابة أعلنوا انتقادهم للسياسات المالية والإدارية التي انتهجها الخليفة الثالث في الشطر الثاني من خلافته، إلا أن المصادر لا تحدثنا عن موقف واضح لابن عباس من تلك المسائل، ومن المرجح أنه وقف على الحياد، وآثر البقاء على مسافة واحدة من كل من معسكري السلطة والثورة.

ومما يدل على ذلك سعيه للخروج من المدينة في أواخر عام 35هـ، عندما حضر الثوار من الأمصار وضيقوا الخناق على الخليفة. يذكر الذهبي أن ابن عباس طلب من عثمان أن يوليه إمارة الحج في هذا العام، فرحل إلى مكة ولم يرجع إلى المدينة إلا بعد مقتل عثمان واعتلاء علي بن أبي طالب لكرسي الخلافة.

في عهد علي، حانت لحظة التوهج السياسي الأكثر بروزاً لابن العباس، إذ تولى عدداً من المناصب السياسية الرسمية للمرة الأولى، فقد كان من قادة جيش الخليفة الرابع في معارك الجمل وصفين، ويذكر ابن كثير المتوفي عام 774هـ، في كتابه" البداية والنهاية"، أن ابن عباس كان على ميسرة جيش علي يوم صفين، كما أن الخليفة الرابع عهد إليه بولاية البصرة.

روي أن معاوية بعد خلافته سأله سؤالاً مباشراً وصريحاً "أنت على ملة علي؟" فرد نافياً: "ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله"... عبد الله بن العباس

تتفق المصادر التاريخية على أن ابن العباس كان من أهم أركان دولة علي بن أبي طالب، وعلى أنه لعب دوراً مهماً في المجادلات السياسية التي خاضها مع رؤساء وزعماء الفرق المنشقة على سلطة الخليفة الهاشمي. فعلى سبيل المثال، يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني المتوفي عام 728هـ، في كتابه "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية"، أن عبد الله بن العباس تمكن من إقناع ألفين من الخوارج الذين تركوا معسكر علي بن أبي طالب، بالرجوع للمعسكر والانضواء تحت راية الخليفة الرابع، بعدما ناظرهم في عدد من المسائل التي عابوها على علي وأقنعهم بصحة موقفه فيها جميعاً.

ونستطيع أن نلاحظ تغيرا واضحاً في مواقف ابن العباس السياسية بعد اغتيال علي بن أبي طالب عام 40هـ، إذ يبدو أنه تراجع عن تأييده المُعلن للمعسكر العلوي، ورضخ لحكم الأمر الواقع الذي تأسس بعد تنازل الحسن بن علي عن منصب الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في 41هـ، في ما عُرف واشتهر بعام الجماعة.

ابن العباس الذي صار وقتها كهلاً في الرابعة والأربعين من عمره، ارتضى أن يبتعد عن ساحة العمل السياسي، واكتفى بممارسة العمل الدعوي والعلمي، ويتضح ذلك مما ذكره الذهبي، من أن معاوية بعد خلافته سأل ابن العباس سؤالاً مباشراً وصريحاً "أنت على ملة علي؟" فرد ابن عباس نافياً "ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله".

هذا التعامل الحذر مع السلطة سيبقى علامة مميزة لعلاقة ابن العباس مع يزيد بن معاوية، والذي تم تنصيبه خليفة عام 60هـ، حتى اشتهر عنه رفضه القاطع لخروج الحسين بن علي إلى الكوفة للثورة على يزيد، ووضح رأي ابن العباس في هذا الموقف، في ما نقله عنه ابن كثير، إذ ذكر على لسانه "استشارني الحسين بن علي في الخروج فقلت: لولا أن يزري بي وبك لشبثت يدي في رأسك".

ابن العباس أرسل إلى يزيد مؤنباً ومعاتباً بعد مقتل الحسين في كربلاء، بحسب ما أورد اليعقوبي في تاريخه، ولما دعا عبد الله بن الزبير الناس لخلافته في 64هـ في مكة بعد وفاة يزيد، رفض عبد الله بن العباس مبايعته مع نفر من رجال بني هاشم، فقالوا له" لا نبايعك حتى تجتمع الأمة عليك"، بحسب ما يذكر ابن سعد المتوفي عام 230هـ، في كتابه الطبقات الكبرى.

وسرعان ما تطور العداء بين الفريقين -الزبيريين والهاشميين- حتى كاد ابن الزبير أن يحرق عبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية ومن شايعهم، بعد أن حاصرهم في شعب بني هاشم بمكة، لولا أن وصل بعض الرجال من أنصار العلويين من الكوفة فحرروا ابن عباس ومن معه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image