لا يوجد ذكر لعنوان "مسجد فاطمة" على الإنترنت، ولا صور له. لكن، عند الاطّلاع على تفاصيل فعالية "صلاة الجماعة ليوم الجمعة" التي نشرتها صفحة "مشروع مسجد فاطمة" على فيسبوك، نجد ملاحظة من المنظّمين تفيد بأن على من يرغب بحضور الصلاة إرسال طلب إلى عنوان البريد الإلكتروني الخاص بهم.
أسباب التكتّم أمنية، فمسجد فاطمة واحد من مشروعين فقط (الأول انطلق في أيلول/ سبتمبر الماضي) لتأسيس مسجد فرنسي يصلّي الرجال فيه إلى جانب النساء في كل الأوقات، وتؤمّهم في الصلاة، وتؤذّن، امرأة، كما أن المسجد يفتح أبوابه للناس بغض النظر عن ميولهم الجنسية.
كما أن غياب صور المسجد سببه بسيط: لا وجود للمسجد ككيان ملموس، بسبب شحّ الأموال واعتماد المشروع على تبرعات ضئيلة يجمعونها عبر الانترنت. حال ذلك بين القائمين على المشروع وبين انطلاقته منذ زمن، وكانت البداية يوم الجمعة 28 شباط/ فبراير الماضي. أمّت الصلاة صاحبة الفكرة ومؤسسة منظمة "حدّثني عن الإسلام"، كاهنة بهلول.
أول إمامة في فرنسا
ولدت بهلول في فرنسا لأب جزائري وأم فرنسية، وجد كاثوليكي وجدة يهودية. نشأت في الجزائر، حيث تلقّت دروساً في الشريعة، قبل أن تعود إلى فرنسا وتدرس العلوم الإسلامية في الجامعة.
وعقب الهجمات الإرهابية التي تعرّضت لها باريس عام 2015، شعرت بهلول بالحاجة الماسة للتحرك لمكافحة التطرف الديني الذي يفسد صورة الإسلام في العالم، بحسب ما قالته في لقاء مع إذاعة فرانس كولتور العام الماضي.
بهلول، التي تعد رسالة دكتوراه في البُعد اللاهوتي-القانوني لفكر محيي الدين ابن عربي، تقول إن "قضية إمامة المرأة متأخر جداً في فرنسا بالمقارنة مع دول أخرى، أعتقد أن الإسلام في فرنسا لا يزال محافظاً جداً، وهو متأثر إلى حد كبير بالإسلام القنصلي، أو إسلام دول المنشأ؛ المغرب العربي ليس بعيداً جداً".
يذكر أنه في 18 شباط/ فبراير الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حربه ضد "الإسلام الانفصالي" و"الأئمة المنفصلين" الأجانب، الذين يرون الإسلام بمنظور دولهم لا بمنظور فرنسي.
صلاة الجمعة في قاعة مؤتمرات
يردّ منظّمو صلاة الجمعة على طلب المشاركة برسالة تحتوي على العنوان، التعليمات، وبعض المعلومات المهمة.
"السلام عليكم ورحمة الله، يسرّنا أن نرسل إليكم آخر المعلومات، لنمكّنكم من حضور ثاني صلاة جمعة يقيمها مسجد فاطمة، ستقام الصلاة في صالة استأجرناها لعدّة ساعات، ولذلك، لن يكون هناك داعٍ لصلاة تحية المسجد، لأن هذه الصالة ليست بالأصل مسجداً".
يوضّح المنظّمون في معرض رسالتهم أنه، رغم أن المركز مجهز بحمّامات منفصلة للرجال والنساء، إلّا أنه من غير الممكن الوضوء فيها، وأنه على المصلّين إما التوضّؤ قبل المجيء أو "التيمم بالحجر" في المركز.
"صلاة ماذا؟ هذا مركز مؤتمرات!"
تبيّن أن العنوان المحدد في الإيميل يشير إلى مركز يؤجّر قاعات لعقد مؤتمرات أو دورات تدريبية، أو للدراسة. توجب إعادة سؤال: "أين تقام صلاة الجمعة؟" عدّة مرات على مجموعة من الناس في بهو المركز، قبل أن يصدقوا آذانهم ويردّوا بأنهم لا يعلمون.
توضّأ في المنزل واجلبي سجادة الصلاة الخاصة بك واذهب/ي إلى صلاة الجمعة المختلطة في “مشروع مسجد فاطمة” في فرنسا، حيث تأمّ امرأة ومجتمع الميم مرحّب به، ولا مانع من تغيير موعد الصلاة ليلائم الجميع
بعد التجوّل في ممرات المركز، ظهر رجل وهو يخلع حذاءه قبل دخول إحدى القاعات، ما أشار إلى أنها المكان المطلوب. ذلك الرجل، الذي ارتدى بنطلون جينز وقميصاً مدنياً، تبيّن أنه إمام صلاة اليوم وخطيبها: الدكتور في الفلسفة فاكر كرشان.
كرشان، الذي ارتدى بعد دخوله حلّة الإمام، هو مؤسس جمعية نهضة المعتزلة الإسلامية. "أتحدّث دائماً عن جماعة المعتزلة فأنا أنتمي إليها،" قال الإمام الذي حافظ على ابتسامته وروح دعابته خلال الخطبة، كما قبلها وبعدها.
والمعتزلة هي إحدى أقدم مدارس الفكر اللاهوتي الإسلامي، يعود تأسيسها للقرن الثامن الميلادي، هدفها، بحسب موقع جمعية كرشان الإلكتروني، جمع المنطق والإيمان، بمعنى مقاربة الوحي في ضوء الفكر والفرقان. والمعتزلون الأوائل، بحسب الموقع، رفضوا التقليد الأعمى لأناس أخذوا تعاليم الدين حرفياً دون إعمال عقلهم.
في القاعة، كان هنالك طاولة عليها قهوة، عصير برتقال، وزجاجة مياه، بالإضافة لبعض حلويات المادلين الفرنسية. ينظر الجميع إلى كلّ وافد جديد فور دخوله ويلقون عليه التحية، دون مد اليدين للمصافحة؛ ليس لئلّا يلامس الرجال النساء، بل "تجنّباً لفايروس كورونا"، قال أحد الحضور ممازحاً. بجانب المشروبات المصفوفة على الطاولة، معقّم لليدين، مناديل ناشفة ومعطرة، بالإضافة إلى قفّازات بلاستيكية.
بيئة محافظة وشح في الموارد المالية: هل ينجو “مشروع مسجد فاطمة” الفرنسي حيث "الإمام" امرأة والصلاة مختلطة ومجتمع الميم مرحّب به؟
صلاة جمعة مسائية … لِمَ لا!
"لنأخذ مواقعنا … القبلة في هذا الاتجاه،" قالت بهلول، "من ليس لديه سجادة صلاة؟".
رغم أنه على المصلّين جلب سجّادات الصلاة معهم، بحسب الإيميل، إلا أن سجّادات إضافية كانت متوفرة، كما توفّر خيار تشارك اثنين لسجّادة واحدة توضع بالعرض.
جلس الإمام كرشان قبالة المصلّين، الذين خصصوا يمين القاعة للنساء الخمس ويسارها للرجال الأربعة، وتحدّث إليهم قليلاً عن المركز، محاولاً فتح نقاش بينه وبين الحضور قبل بدء خطبة الجمعة. بعد تلقّيه بعض الأسئلة، تقدمت الإمامة بهلول بالقول: "يشتكي بعض الناس من توقيت صلاة الجمعة، كونها أثناء ساعات العمل، هل ترغبون بتأجيلها؟".
قاد السؤال إلى نقاش حول إمكانية تغيير موعد صلاة الجمعة، التي عادة ما تكون وقت صلاة الظهر في الإسلام، ووافق الحضور على أن لا مشكلة دينية أو دنيوية في تحديد الساعة السادسة مساء، كموعد للصلوات القادمة، على أن يتمّ البت بالموضوع لاحقاً.
"حسناً، إن لم يكن هنالك أسئلة، يمكننا أن نبدأ،" قال كرشان، قبل أن تقف بهلول وتبادله الأمكنة، فيما شرعت بالآذان، بصوت منخفض.
الإيمان وطبيعة الإسلام
"اعلموا أن الإمام اليوم هو رجل"، حذّر إيميل أرسله منظّمو الصلاة، ربما لئلّا يكون الحضور مجرّد مهتمين برؤية ظاهرة إمامة، دون الاهتمام بباقي تفاصيل المشروع.
"أودّ أن تكون خطبتي الأولى عن الإيمان،" قال كرشان بعد افتتاحه الخطبة بإلقاء دعاء باللغتين العربية والفرنسية، "أود أن أتحدّث عن جوهر العقيدة الإسلامية … الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر".
وتركّز حديثه حول الآية القرآنية: "ليس البرّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين، وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل والسّائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء، وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" (البقرة 177).
ويركّز كرشان في خطبته على الترجمات المختلفة للقرآن ومصطلحاته من اللغة العربية إلى الفرنسية، مشدّداً على أن النسخة المفضلة لديه من القرآن بالفرنسية، هي التي أعدّها عالم الاجتماع الفرنسي الراحل جاك بيرك، الذي ولد في الجزائر عام 1910، كما استشهد كرشان عدة مرات بكتاب "تنوّعات التجربة الدينية"، للفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليم جيمس، الملقّب بالأب المؤسس للبراغماتية.
بعد الخطبة، أذّنت بهلول مرّة أخرى، وأقيمت الصلاة، التي فور انتهائها عاد الحضور إلى دردشتهم حول طاولة المشاريب، على أن يلتقوا الأسبوع المقبل، في مكان وزمان يحدّدان عبر البريد الالكتروني في وقت لاحق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...