في أحد مشاهد فيلم الخيال العلمي "كونغ: جزيرة الجمجمة"، تظهر طائرات مروحيّة فوق جزيرة نائية غير مأهولة في المحيط الهادئ. كانت الكاميرا تلتقط معالم الدهشة التي تعلو وجوه فريق الباحثين والعسكريين الأمريكيين، قبل أن يأمر الكولونيل باكارد (صامويل جاكسون) الجنود ببدء إلقاء القنابل فوق المساحات الخضراء الخلابة.
ما هي إلا دقائق قليلة - فيما شعلات النار التي تظهر في أماكن متفرقة من الجزيرة تتزايد - حتى خرج الوحش. أراد الكولونيل أن يختبر تربة الجزيرة وتضاريسها بقنابله، فخرج "ملكها المتوّج"، القرد العملاق "كونغ"، من سباته.
بدا "كونغ" أطول من جبال الجزيرة نفسها، وهو يمسك المروحيّة بأطراف أصابعه ويطيح بها في الهواء، ثم يلتقط بعض حطامها ليضرب به مروحيّة أخرى.
في "جزيرة الجمجمة"، استفز البشر القرد في بيئته الطبيعية. حتى حين حملوه خارج بيئته إلى نيويورك في فيلم "كينغ كونغ" الشهير، لم يسلموا من غضبه، وفي الحالتين، كما في أفلام أخرى من هذا النوع، كان استفزاز البشر للحيوانات في بيئتها الطبيعية أو تدميرهم لهذه البيئة سببه البحث عن مجد ذاتي أو عن تعويض اقتصادي أو عسكري. وفي كل الحالات، انتقم الحيوان من هؤلاء بالطريقة التي يعرفها.
عند انتشار خبر فيروس كورونا، بنسخته الجديدة، وجّه كثر أصابع الاتهام للخفافيش. وبالسرعة نفسها التي وقع فيها الإنسان ضحية الفيروس حول العالم، استسهل اتهام حيوان بري بالمسؤولية.
تقول الصحافية العلمية وصاحبة كتاب "وباء: تتبع العدوى من الكوليرا إلى الإيبولا وما وراءها"، في أحدث مقالاتها عن الموضوع في "لوموند ديبلوماتيك" لعدد مارس 2020، إن هذه التكهنات حول هوية الحيوان المسؤول تمنعنا من رؤية السبب الحقيقي وراء تتالي الهجمات الفيروسية علينا، في فترات زمنية أصبحت أكثر تقارباً.
التدمير المتسارع للبيئات الطبيعية الحاضنة لتلك الحيوانات، من خلال تخريب الإنسان للطبيعة واقتلاع الأشجار وتدمير الغابات، هو السبب الرئيسي في ما وصل إليه البشر في صراعهم مع الفيروسات.
منذ الأربعينيات، كان ظهور فيروس نقص المناعة البشرية وصولاً إلى الإيبولا وزيكا وغيرها سببها فيروسات من أصل حيواني، وإن كان مصدر بعضها الحيوانات الداجنة المعروفة، إلا أن أكثر من ثلثيها يأتي من حيوانات برية.
تعترض شاه على كل تلك المقالات التي تصوّر الحياة البرية باعتبارها منطلقاً للأوبئة المدمرة، وكما لو أن الحيوانات مصابة بأمراض فتاكة وجاهزة لنقلها لنا. الأمر عكس ذلك، فحسب شاه تعيش معظم الميكروبات في أجسام تلك الحيوانات دون أن تضر بها، المشكلة هي في مكان آخر: إزالة الغابات، توسع رقعة المناطق الحضرية والتحول الصناعي الجامح، هي التي فتحت الطريق أمام الميكروبات للوصول إلى جسم الإنسان.
خفافيش في الحديقة
تدمير البيئات الآمنة لغير البشر، كما تقول شاه، أودى ببعض الحيوانات والنباتات نحو الانقراض، أما من استطاع الصمود منها فكان من الطبيعي أن يزداد احتمال تماسه مع البشر الذين احتلوا موطنه، وفي هذا التماس الذي لم يكن من المفترض أن يتم وفق قوانين الطبيعة، تتحول الميكروبات من حميدة إلى قاتلة.
خير مثال على ذلك، يقدمه نموذج انتشار الإيبولا في القارة الأفريقية، ففي دراسة أجريت عام 2017 تبيّن أن مصدره الخفافيش، لكنه انتشر بشكل أساسي في مناطق وسط أفريقيا وغربها التي شهدت إزالة عدد كبير من الأشجار في السنوات الماضية.
"حين نقتلع غاباتها، فإننا نجبر الخفافيش على القدوم إلى أشجار حدائقنا ومزارعنا"، تكتب شاه مضيفة "بعد ذلك يمكننا تخيّل خاتمة القصة: عندما يبتلع إنسان ثمرة ما سيبتلع معها لعاب الخفاش الذي حطّ عليها، وحين يحاول أن يُبعده أو يقتله ستنتقل ميكروبات الخفاش إلى أنسجته".
هذا ما يُسمى "عبور حاجز الأنواع"، وهو إن لم يكن قاتلاً من مرة واحدة، إلا أن تكراره سيسمح للميكروبات باستيطان أجساد البشر وتطوير نفسها بشكل قاتل.
وضمن عبور الميكروبات لحاجز الأنواع، كانت الصحافية الصحية كاتارينا زيمر قد كتبت في "The Scientist" مثالاً عن ظهور الملاريا في بورنيو الماليزية عام 2002. وقتها، اعتقد الباحثون أنها الملاريا المعتادة التي ينقلها البعوض، ليتبيّن أنها طفيلي ملاري من قرود المكاك طويلة الذنب المعروفة بـ"الملاريا القردية"، وقد انتقلت للبشر نتيجة احتكاكهم المتزايد بهؤلاء القرود بعدما تمّ نزع الأشجار في المنطقة بشكل كبير.
البعوض خسر مستنقعاته
تنطبق الدينامية نفسها على البعوض الناقل للأمراض، فمع تقليص البشر لرقعة الغابات ساهموا بزيادة البؤر التي يتجمع فيها البعوض الحامل للميكروبات. على الأرض العارية من أشجارها، تتجمع المياه والرواسب بسهولة أكبر منها حين توجد الأشجار، وتشكل هبذه البؤر نقاظ جذب لتكاثر لبعوض حامل الملاريا.
وفي دراسة أُجريت على 12 بلد، فإن أنواع البعوض الحاملة لمسببات الأمراض من فيروسات وبكتيريا وطفيليات كانت الضعف في المناطق التي تمّ فيها التخلص من الأشجار منها في المناطق الخضراء التي لم يمسها الإنسان.
ومع ازدياد سخونة الغابة، ومعها الكوكب ككل، كنتيجة لكل هذا التصحر، أصبح البعوض أسعد، على ما كتب الأستاذ في كلية الطب في "هارفرد" وصاحب كتاب "نهاية الأوبئة" جوناثان كويك.
يقول كويك: "إذا كنت تعيش بالقرب من غابة في أفريقيا، وكان لديك الوقت للتركيز على ما هو أكثر من مجرد بقائك على قيد الحياة، قد تكون لاحظت أن بعض البرمئيات والطيور المعروفة بمطاردتها للبعوض قد اختفت (لأنها انقرضت). أما تلك التي لم تنقرض، فقد هاجرت إلى عوالم أكثر شمالية أصبحت أكثر جذباً بسبب تغيّر المناخ العالمي".
"حين نقتلع غاباتها، فإننا نجبر الخفافيش على القدوم إلى أشجار حدائقنا ومزارعنا... بعد ذلك يمكننا تخيّل خاتمة القصة: عندما يبتلع إنسان ثمرة ما سيبتلع معها لعاب الخفاش الذي حطّ عليها، وحين يحاول أن يُبعده أو يقتله ستنتقل ميكروبات الخفاش إلى أنسجته"
يعتبر كويك أن الإنسان المحظوظ الذي يعيش في منطقة نائية واشترى بقراً أو ماعزاً، سيكون بحاجة لمساحات للرعي، وسيستخدم الخشب لإشعال النار أو بناء المنزل، كل ذلك لا يُقارن بمتطلبات الصناعات الزراعية التي تمحو ملايين الأفدنة من الغابات الحرجية.
وبين عامي 2000 و2010 مثلاً، استهلكت هذه الصناعات حوالي 13 مليون هكتار (130 ألف كلم2)، وهنا يؤكد كويك، بدوره، على اقتلاع الأشجار كسبب الذي جعل الحيوانات البرية والخفافيش والقوارض على اتصال وثيق بالناس، وعزّز فرص مسببات الأمراض الخطيرة بدخول حياتهم.
اللقاء المخالف للطبيعة
لم يكن سبب تسارع الهجمات الفيروسية تدمير الإنسان لموائل الحيوانات وحسب، بل طريقة استغلاله لتلك المناطق. تقول شاه إن الإنسان كي يرضي شهوته كـ"آكل لحوم"، تخلّص مما يعادل مساحة أفريقيا من الأشجار، وجعلها مزارع للحيوانات المخصصة للذبح. بعض تلك الحيوانات وصلت إلى أسواق منها غير شرعي من تلك المعروفة بـ"الأسواق الرطبة" (Wet market) التي تبيع حيوانات على قيد الحياة. هناك، اختلطت ببعضها أنواع من الحيوانات لم يكن يُفترض بها - وفق قوانين الطبيعة - أن تلتقي، وهكذا انتقلت الميكروبات بأريحية في ما بينها.
ضمن هذا النوع من التغيّر الذي شهده الكوكب، وُلد ما بين 2002 و 2003 الفيروس التاجي المسؤول عن وباء متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) الذي يقف ربما وراء فيروس الكورونا الذي يحاصرنا اليوم.
وفي مخالفة أخرى للطبيعة، يمكن استحضار فيروس إنفلونزا الطيور الذي توجد مسبباته في الطيور المائية المهاجرة، وبشكل أساسي البط البري. هذه الحيوانات حين يتم تكديسها في مزارع، تطور الميكروبات إلى مسببات أمراض فتاكة. بعد ذلك، يأتي الإنسان ليحمّلها مسؤولية أمراضه، فوقت انتشار إنفلونزا الطيور، تمّ إعدام عشرات الملايين من الدواجن لوقف الانتشار.
ما ساهم في مضاعفة المشكلة كان كذلك تغيّر الثقافات الغدائية، فالحد من تناول اللحم الأحمر ضاعف لطلب على الدواجن، بحيث ازداد حوالي الأربعة أضعاف منذ السبعينيات.
توازي هذه المشكلة، الرغبة المتزايدة بالابتعاد عن اللحوم المجمدة، و"هذا يخلق ثروة من الفرص لسلالات فيروسية جديدة للانتشار والتكيف مع الطبيعة البشرية. فبدلاً من زيارة ممرات الأطعمة المجمدة المعقمة في متاجر البقالة، يحتشد المتسوقون في أسواق الدواجن ، ويعرضون أنفسهم للطيور الحية وفضلاتها المحملة بالفيروسات. ولخدمة الأسواق، يسافر المزيد من الطيور من المزارع إلى البلدات والمدن، ويبث الفيروسات على طول الطريق"، كما تقول شاه في مقال سابق لها نشرته في "نيويورك تايمز".
اكتظاظ حيواني
"في حين أن الأنظار تتركز على مخاطر الاكتظاظ السكاني، فإن ارتفاع أعداد حيوانات المزارع هو الذي يهدد كوكب الأرض"، وفق الكاتب البريطاني جورج مونبيو المعروف بنضاله البيئي الطويل.
بحسب مونبيو، ترتفع أعداد البشر بنحو 1.2٪ سنوياً بينما ترتفع أعداد الماشية بنحو 2.4٪ سنوياً، وبحلول عام 2050، سيتعيّن رفد 120 مليون من الوافدين الجدد إلى كوكب الأرض بـ400 مليون طن من حيوانات المزارع الإضافية.
ويحذر المناضل البيئي من أن الحبوب التي ستُستهلك لإطعام الحيوانات الإضافية ستزيد من جوع الفقراء الذين يعتمدون عليها (الحبوب)، وتُستكمل الحبوب بمحاصيل زيتية إضافية، لا سيما فول الصويا، ولأجل ذلك تتم إزالة الغابات والسافانا في أمريكا الجنوبية مثلاً بمعدلات مروعة.
تعيش معظم الميكروبات في أجسام تلك الحيوانات دون أن تضر بها، المشكلة هي في مكان آخر: إزالة الغابات، توسع رقعة المناطق الحضرية والتحول الصناعي الجامح، وهي ممارسات فتحت الطريق أمام الميكروبات للوصول إلى جسم الإنسان
ليست تربية المواشي هي السبب الرئيسي في تدمير موائل الحيوانات وقتل الحيوانات المفترسة فحسب، فنفاياتها تفوق قدرة العالم على استيعابها. تولّد مزارع المصانع في الولايات المتحدة مثلاً، حسب مونبيو، 13 ضعفاً مما ينتجه السكان، وعلى سبيل المثال تُنتج مزارع الألبان في مقاطعة في ولاية كاليفورنيا خمسة أضعاف ما ينتجه سكان مدينة نيويورك من فضلات.
تخلق تربية المواشي حوالي 14٪ من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، وهي انبعاثات أكثر بقليل من إنتاج السيارات والشاحنات والحافلات والقطارات والسفن والطائرات في العالم.
وفوق كل ما سبق، يهدّد التغيّر المناخي المتزايد بذوبان الثلوج في القطب الشمالي، ومن هذه الثلوج ستخرج "فيروسات فتاكة" بقيت مخزّنة فيها من حقبات سحيقة. وراء هذا التغيّر المناخي، يقف كذلك الإنسان بكل ممارساته الوحشية بحق الطبيعة.
على ما يقول عالم الأوبئة لاري بريليانت، فإن "ظهور الفيروسات أمر لا مفر منه ، لكن ليس الأوبئة"، والحد من تطور الأخيرة يتطلب جهداً مضاعفاً وعزماً يشبه ذاك الذي وضعه الإنسان حين انكب على استغلال الكوكب بثرواته الحيوانية والنباتية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...