في مؤتمرها التاسع والأربعين الذي عقد في فيلاديلفيا في شهر مارس من العام الحالي، خصصت أكاديمية دراسة القرون الوسطى في أمريكا
عام 2019 للإضاءة على "التحول العالمي" في دراسات القرون الوسطى وتناولته كظاهرة تاريخية وثقافية لا تشمل كامل أوروبا فقط، بل تمتد لتتضمن الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشرقها إضافة إلى أفريقيا والأمريكيتين.
ويذكر باتريك دبروس، باحث دكتورا في التاريخ ومدرس لتاريخ العصور الوسطى في جامعة فوردهام، في مدونته أن هذا ما دفعه للالتفات إلى تاريخ الشرق الأوسط وتراثه في خطته التدريسية ولا سيما أصول الإسلام، خاصة بعد أن أشار خبراء العصور الوسطى في العالم إلى أن التركيز على تاريخ أوروبا في الخطط التدريسية للعصور الوسطى يؤدي إلى تحيز الطلاب للأوروبيين مقابل نظرة معادية أو مشوهة للشعوب غير الأوربية. وكخطوة أولى قرر اختيار مرجع رئيسي يعبر عن النواحي المتعددة للحقبة التاريخية التي يتناولها في منهاجه وهي بدايات الإسلام.
وعلى حد قوله فقد قادته الصدفة البحتة إلى كتاب من إصدارات مكتبة الأدب العربي بعنوان قصائد الحرب: لعنترة ابن شداد الذي وجده "يربط فترات عديدة من التاريخ الإسلامي فهو روي قبل الإسلام ودوّن في العصر العباسي.."
ألف الكتاب وجمعه وأعده البروفيسور جيمس مونتغمري، أستاذ الأدب العربي في جامعة كامبريدج، بالتعاون مع ريتشارد سيبورث، أستاذ الأدب المقارن في جامعة نيويورك، والشاعر والمترجم بيتر كول، الحاصل على جائزة الأكاديمي الأمريكية في الآداب.
يندرج الكتاب ضمن مشروع المكتبة العربية Library of Arabic Literature، التابعة لمعهد جامعة نيويورك أبو ظبي، في سياق تقديم الأدبي العربي للقارئ المعاصر، وإيحاء التراث واستعادته من منظور تفاعلي مبتكر. وتأتي هذه المقالة ضمن سلسلة من المواد نقدمها للإضاءة على فعاليات هذا المشروع.
كيف نجح مونتغمري بالتعاون مع فريقه، في تقديم قراءة متعمقة وغنية عن هذا العالم الشعري الجزل والجميل، ووضع شاعراً جاهلياً، دونت أشعاره في العصر العباسي، في متناول الدارسين خارج العالم العربي؟
عن الأصمعي وابن ميمون والبطليوسي والسيرة الشعبية
يحتوي الكتاب على 43 قصيدة تنسب إلى عنترة بن شداد، جمعت من ثلاثة مراجع من التراث، إضافة إلى ثماني قصائد من القصة الشعبية "سيرة عنتر بن شداد" التي تروي قصته وتصف مآثره وبطولاته.
تشير الوثائق التي يرفقها مونتغمري بالكتاب إلى أنه اعتمد في إثبات النص على صور فوتوغرافية لمخطوطات من المكتبة الوطنية في باريس، والمكتبة السليمانية في استنبول، والخزانة الملكية في الرباط، إضافة إلى صور من المخطوطات الموجودة في كل من المكتبات الوطنية في لندن وفيينا ونوربيرغ.
يقسم المؤلف كتابه إلى أربعة فصول ويعنونها بحسب أسماء الرواة الذين تناولوا سيرة وشعر عنترة، في الفصل الأول يستعين برواية الأعلم الشنتمري عن الأصمعي، والثاني من رواية ابن ميمون، والثالث من رواية البطليوسي، والرابع من سيرة عنترة الشعبية.
ويسبق ترجمته الشعرية بمقدمة تغني الكتاب بمعلومات عن حياة عنترة، ويضيف إلى ترجمته في فصول الكتاب شرحاً مختزلاً قبل كل قصيدة يذكر فيه موضوعها ومناسبتها، ويستعين بالهوامش ليشير للصعوبات التي واجهته في ترجمة هذه القصائد، مقدماً في ملاحظاته الختامية احتمالات عدة للمعاني.
التركيز على التاريخ الأوروبي في الخطط التدريسية للعصور الوسطى يؤدي إلى تحيز الطلاب للأوروبيين مقابل نظرة مشوهة للشعوب غير الأوربية. من هنا تأتي أهمية تدريس الأدب العربي الكلاسيكي لفتح المجال لمقاربة للتاريخ تحتضن التعددية والوعي الثقافي
عنترة بن شدّاد... شُبّه بــ"الملك آرثر" وبـ"بيولف" و"أخيل"، واستمرت شعبيته عبر العصور، حيث تم إعادة سرد سيرته في رواية ومسلسل وفيلم، ونضيف إلى ذلك اليوم، دراسة وترجمة رائدة لمختارات من قصائده إلى اللغة الإنكليزية
عنترة بعيني مونتغمري
تذكر مقدمة الكتاب ما هو مشهور شعبياً عن عنترة، أنه كان فارساً ومحارباً وشاعراً من جزيرة العرب ما قبل الإسلام، من أم حبشية وأب عربي من أسياد قبيلة عبس، بقي يعامله كعبد ولم يعترف بنسبه إليه حتى أعتقه حين دافع عن قبيلة عبس في حرب داحس والغبراء. كما كان عاشقاً لعبلة يسعى لخطبتها فحظيت بحصة كبيرة من شعره. ولكن مونتغمري يضيف لقرّائه معلومات تاريخية عن أحوال المنطقة في القرن السادس الميلادي والحروب التي دارت بين القبائل العربية، وكيف عمد شعراء الفروسية إلى تضمين تجاربهم في الأشعار التي تحولت إلى معلقات على جدران الكعبة.
في مقدمة الكتاب نتعرف للرحلة الطويلة التي استغرقها إعداد الكتاب، والوقت والجهد الذي كرسه فريق البحث ليصلنا العمل بشكله النهائي، فيحدثنا مونتغمري عن ورشات العمل العديدة التي أقامها مع فريقه، والمراجعات الطويلة للترجمة مع كل من سيبورث وكول، لصياغة نص مفهوم ومستساغ للقراء باللغة الإنكليزية، عن النص التراثي المكتوب باللغة العربية الكلاسيكية، مع الحفاظ على شعرية النصوص الأصلية في آن معاً، وتوخي الأمانة في نقل معناها.
عن الشعراء الفرسان في تلك الفترة، يقول مونتغمري في مقدمته: "لقد اختار الشعراء المحاربون في صحراء نجد في القرن السادس أن يعبروا عن آرائهم عن العالم، وفلسفتهم الحربية وينقلوا الروح الشعبية للمنطقة في قصائد الشعر التي ألفوها باللغة العربية الفصحى، في أعمال تتراوح في الطول والتعقيد من القصائد البسيطة وحتى القصائد الغنائية متعددة الأجزاء".
القصائد
يستهل المؤلف كتابه بـقصيدة طويلة من خمسة وثمانين بيتاً، وهي معلقة عنترة الشهيرة التي تعبر عن أجواء الحرب الطويلة التي سادت في تلك الفترة، طوال أربعين سنة، بين قبيلتي عبس وذبيان، يذكر فيها عنترة ما شهده من آثار الحرب وخلو الأرض من ساكنيها وحنينه للدار والمحبوبة، "مصوراً بهذا عوالم الحرب"، على حد تعبير مونتغمري:
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
أعياك رسم الدار لم يتكلم حتى تكلم كالأصم الأعجمِ
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
دار لآنسة غضيض طرفها طوع العناق لذيذة المتبسّم
فَوَقَفتُ فيها ناقَتي وَكَأَنَّها فَدَنٌ لِأَقضِيَ حاجَةَ المُتَلَوِّمِ
وَتَحُلُّ عَبلَةُ بِالجَواءِ وَأَهلُنا بِالحَزنِ فَالصَمّانِ فَالمُتَثَلَّمِ
حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهدُهُ أَقوى وَأَقفَرَ بَعدَ أُمِّ الهَيثَمِ
شطت مزار العاشقينَ فَأَصبَحَت عَسِراً عَلَيَّ طِلابُكِ اِبنَةَ مَخرَمِ
عُلِّقتُها عَرَضاً وَأَقتُلُ قَومَه زَعماً وربّ البيت لَيسَ بِمَزعَمِ
يشير الكاتب إلى أهمية خوض المعارك بقوله "لقد كانت الحرب ديناً حقيقياً"، يتفاخر فيها فرسان كعنترة بسيوفهم ورماحهم وخيولهم، في قصائد تمجد وتحيي ذكرى معاركهم وبطولات قبائلهم، كما يصف عنترة في ختام قصيدته مهارته في تجنب رماح الأعداء، ويتباهى بمقدرته الحربية وشجاعته واستعداده للموت في المعركة:
يَدعونَ عَنتَرَ وَالرِماحُ كَأَنَّها أَشطانُ بِئرٍ في لَبانِ الأَدهَمِ
وَالخَيلُ تَقتَحِمُ الخَبارَ عَوابِس مِن بَينِ شَيظَمَةٍ وَآخَرَ شَيظَمِ
حالت رماح بني بغيضٍ دونكم وزوت جواني الحرب من لم يجرم
وَلَقَد خَشيتُ بِأَن أَموتَ وَلَم تَدُر لِلحَربِ دائِرَةٌ عَلى اِبنَي ضَمضَمِ
الملك آرثر، وبيوولف وأخيل وعنترة
يشير كيفن بلانكينشيب، الباحث في الأدب العربي الكلاسيكي، بأن مونتغمري يشبه شخصية عنترة بشخصية السير آرثر كاميلوت الفارس الذي يلهم الأساطير والروايات الشعبية لغياب التفاصيل والأدلة عن حياته، ليربط بين شعره وشخصية شعبية مألوفة في أذهان قرائه، ويضعه بيتر كول في صف واحد مع أبطال الملاحم الشعرية القديمة، مثل أخيل وبيوولف، حين يعبر عن خلود مجده البطولي عبر شعره في القصيدة الرابعة عشر بقوله:
سَيَأتيكُمُ عَنّي وَإِن كُنتُ نائِياً دُخانُ العَلَندي دونَ بَيتِيَ مِذوَدُ
قَصائِدُ مِن قيلِ اِمرِئٍ يَحتَديكُمُ بَني العُشَراءِ فَاِرتَدوا وَتَقَلَّدوا
في مقابلة إذاعية لمونتغمري على قناة بي بي سي (BBC)، يقول إن دراسته لشعر عنترة جعلته يلاحظ ما يتضمنه من انعكاس لعلاقة الفرد بمحيطه "قبيلته"، و"استسلامه للقوة الغامضة للقدر" فيما يتعلق بالذود عنها والدفاع عن شرفها، فلا يكون "الموت أو الردى أو المنية أمراً يخشاه"، إذا توجب عليه دفع حياته ثمناً لحماية هذا الشرف، وربما هذا الاستهزاء بالموت هو الذي جعل عنترة يتغنى بشجاعته ويباهي بها في شعره، "فالموت بالنسبة له لا يحمل معناه النبيل إلا في ساح المعارك".
بالرغم من أن الكتاب حاول تقريب صورة عنترة إلى أذهان القراء بتشبيهها بشخوص تاريخية وأسطورية معروفة في العالم الغربي في تعليقات الكاتب، إلا أنه يحتفي بهوية الفارس العربي وخصوصية الشعر العربي القديم على لسان أولئك الفرسان. فعنترة كما يصرح مونتغمري، ليس نموذجاً عن شعراء وأبطال زمنه فحسب بل "هو عنصر من قوى الطبيعة"، وهذا برأيه ما شكل التحدي الأكبر في الكتاب "لإيصال صوت عنترة الجلي والفخور الذي لا يعرف الخوف ولا الاستسلام".
إن ما يميز عنترة كفارس هو خرقه لكل التقاليد التي ربطت الفروسية والشرف بالنسب الأصيل، وما يجعله "أشعر الفرسان" في العصر الجاهلي، برأي مونتغمري، وإدراكه المتطور عن معاصريه لتفاصيل الصورة الشعرية، سواء كان في شعره الغزلي أو في قصائده الحربية".
شهرة عنترة عبر القرون
حظيت شخصية عنترة باهتمام كبير منذ نهاية القرن الماضي في العالم العربي والغربي، كما يشير بلانكنشيب.
ففي عام 1996، يضيف، نشر كتاب السيف العطش: للكاتب الأمريكي بيتر هيث في محاولة منه للإضاءة على نموذج من أدب السيرة، وفي 2007 تم إنتاج مسلسل عن سيرته الذاتية من إخراج الفنان السوري رامي حنا ومشاركة نخبة من الممثلين السوريين مثل سلوم حداد ومحمد حداقي وسلاف فواخرجي. كما شهد عام 2018 إضافة لكتاب مونتغمري، رواية الفارس الأسود المصورة للكاتبة الأميركية من أصل نيجيري نندي أوكورافور بالتعاون مع الرسام إيريك باتل، ورواية أخرى مصورة باللغة العربية للكاتب المصري مؤمن حلمي بعنوان عنترة والتي رسمها الفنان الهندي أشرف غوري وترجمها للإنكليزية عماد الدين عائشة.
وكأن هذه الأعمال تحاول إعادة خلق البطل الشعبي من الصحراء العربية لدى الجمهور الغربي الذي ألف مغامرات سوبرمان في شوارع نيويورك. ويبدو أن عنترة، الفارس الأسود القادم من القرن السادس الميلادي الذي عانى من العنصرية وتحرر من قبضة العبودية بفروسيته، يلائم المبادئ التي يتبناها المتابعون الغربيون اليوم أو بالحد الأدنى يوافق الصورة الفانتازية التي تحملها أذهانهم عن الفارس العربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.