حين كتب الروائي الألماني غونتر غراس، مشهداً لاستمناء رجل في إحدى رواياته، أحدث انقساماً في الرأي، فالبعض رأى أن ذلك يندرج تحت بند حرية التعبير، ورأى البعض أنها وقاحة، أما الدولة الألمانية فرفضت المطالبات بمصادرة الكتاب، قائلة: "إن كان سيئاً فلن يشتريه أحد، وإن اشتراه الناس فذلك ما يريدونه"، بحسب ما يرويه المترجم المصري سمير جريس.
أكاد أجزم أن جونتر غراس لو عاش في مصر، لتم سجنه بتهمة خدش الحياء العام، أو منعه من حضور أي ندوات ثقافية، وبالطبع القائمة لن تشمله وحده لأن شرطة الأخلاق لا ترحم!
و"شرطة الأخلاق" مصطلح ساخر، أطلقه المصريون على عدد كبير من المسؤولين الذين لم يكتفوا بتكميم الحياة السياسية، فتجاوزوا ذلك لتحديد ماذا يسمع المواطن، ماذا يرتدي، أي أفكار يعتنق وأي عمل فني يشاهد، في تجسيد للدولة المركزية التي تريد "مواطناً تفصيلياً" على كل المستويات، تحت شعارات حفظ الذوق العام والاصطفاف.
مواصفات المواطن الذي تريده الدولة يمكن معرفتها على أكثر من مستوى، ففنياً، تريد الدولة مواطناً لا يستمع للأغاني الشعبية التي يطلق عليها "المهرجانات"، لأن ذلك يُفسد الأخلاق، بصرف النظر عن رأي المواطن نفسه، وتم ترجمة تلك الرغبة عملياً بإصدار هاني شاكر، نقيب المهن الموسيقية، قراراً بمنع مطربي المهرجانات من إحياء حفلات أو الظهور إعلامياً، كخطة أولى للقضاء على هذا النوع من الغناء.
وقبل هاني شاكر طالب ياسر رزق، رئيس مؤسسة أخبار اليوم والمُقرّب من الرئيس، بتشكيل حركة "3 يوليو" لينضم إليها كافة الطلاب في المدارس، حتى المرحلة الثانوية، وتغذيتهم بما أسماه "الأفكار الوطنية"، التي قامت على أساسها مظاهرات 30 يونيو.
هذا المطلب غير بعيد عن التنفيذ، فمعظم ما كتبه رزق تحول لواقع حذّر منه كثيرون، لا لأنه استعادة واضحة لمعسكرات النازية التي أخضع فيه هتلر الأطفال لتعليم مبادئه، بل لأنها تعني أن الدولة لم تكتفِ فقط بقمع أي معارضة، بل تريد أن يكون مواطنها الجديد مقتنعاً تماماً بمبادئها، حتى لو تم ذلك من خلال عمليات "غسل أدمغة" للأطفال.
وإن كان عدد من أعضاء "شرطة الأخلاق" يتولون مناصب تمكنهم من تنفيذ ما يريدون، فإن آخرين لا يتولون مناصب، لكنهم يقومون بنفس الدور من خلال المطالبات اليومية بمزيد من التكميم، فهم أيضاً يريدون مواطناً "على مزاجهم"
أما في المجال الدرامي، ودون الرجوع لأحد كالمعتاد، قررت الدولة أن المواطن لا يجب أن يرى "مشاهد مسيئة" أو يسمع ألفاظاً "بذيئة"، لأن في ذلك إفساداً له، وأوكلت المهمة للجنة الدراما بالمجلس الأعلى للإعلام، التي وضعت ضوابط كثيرة زادت من قيود الفن، وأصبح المطلوب أعمال على شاكلة "كلبش".
في الصحافة، كان للدولة مطالب أيضاً من مواطنها الذي ينوي العمل صحفياً، واستطاعت خلال السنوات الماضية فرض ما تريد، من خلال دخولها المجال الإعلامي بعملية تشبه التأميم، ومنع المسؤولين من التصريحات الخاصة، وبات عمل الصحفيين مقتصراً على البيانات الرسمية، وظهر ذلك بعد إعلان نقابة الصحفيين منذ أيام، بخصوص المرشحين لجوائز الصحافة المصرية، والتي كشفت فيه حجب جائزة السبق الصحفي، أحد فروع المسابقة، لأن كل الموضوعات "تغطية خبرية وليس بها سبق".
بالنسبة للملبس، لم تقتنع الدولة أيضاً أنه حرية شخصية، فبشكل مستمر يُصدر رؤساء الجامعات قرارات بمنع دخول الطلاب بـ"ملابس مقطعة " أو "قصيرة"، لأن ذلك يتعارض مع هيبة الجامعة.
وإن كان عدد من أعضاء "شرطة الأخلاق" يتولون مناصب تمكنهم من تنفيذ ما يريدون، فإن آخرين لا يتولون مناصب، لكنهم يقومون بنفس الدور من خلال المطالبات اليومية بمزيد من التكميم، فهم أيضاً يريدون مواطناً "على مزاجهم".
ولكن هل تنجح الدولة في ذلك؟ فرغم تلك السلوكيات التي تتشبّه بها الدولة بالديكتاتوريات العتيقة، كالاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية، لتأكيد قوّتها وأنها قادرة على فرض ذلك، أقول، رغم ذلك هي أضعف مما نتخيل، بل وأحياناً تستحق الشفقة… كيف؟
حتى 2011 تعاملت الدولة مع المواطنين على أنها تعرفهم جيداً، فاكتفت بذلك ولم تتدخل كثيراً في حياتهم الشخصية، إلا ببعض الإجراءات لإرضاء التيار الديني، لكن هذا الوهم تبخر بقيام ثورة 25 يناير، حين وجد نظام مبارك نفسه أمام جيل مختلف تماماً، له أدواته وشعاراته وأساليبه في التعبير عن غضبه بطرق مختلفة عمن سبقه، ولتبرير جهلهم بالشعب الذي يحكمونه، سرعان ما أشاعوا أن هؤلاء ليسوا إلا شباباً تم تدريبهم في الخارج من أجل إسقاط الدولة!
حالة الإنكار كان المفترض أن تنتهي، لكنها استمرت، وبدلاً من أن تدرس الدولة آليات الجيل الجديد لتعرف كيف تتعامل معهم، وبدلاً من أن تعرف أنها أمام جيل لن يقبل الوصاية، خاصة بوجود آليات تمكّنه من ذلك، لجأت بعقليتها وإرثها الديكتاتوري إلى محاولة تطويق هذا الجيل، وفرض "كتالوج" حياة على الأفراد.
متى ستفهم الدولة المصرية أننا في زمن لا يُجدي فيه المنع، وأنها أمام جيل لا يرى الصواب والخطأ والعيب والحرام إلا مفاهيم نسبية تختلف من شخص لآخر، وبالتالي لا يجوز أن يتم مصادرة رأي أحد؟
ولأن محاولات الدولة تشبه محاولات انتصار السيف على البندقية، شاهدنا كيف لجأت الدولة إلى حجب المواقع الإخبارية، فاستخدم المواطنون مواقع فك الحجب، تمنع الدولة شخصيات من الظهور إعلامياً فيلجأ هؤلاء إلى فيسبوك ليتحدثوا بما يريدون، تصدر الدولة قراراً بمنع مطربي المهرجانات من الغناء فيلجأ مطربو هذا النوع من الأغاني إلى اليوتيوب، ويجنون ملايين الدولارات، يتم منع الانتقاد السياسي فيلجأ المواطنون إلى الـ"كوميكس"، وهلم جرّاً، ما إن تتخذ الدولة إجراء إلا ويتغلب عليه الجيل الحالي بوسائله الجديدة غير القابلة للسيطرة من قبل أي دولة، بل أطلقوا على من يصدرون تلك القرارات "شرطة الأخلاق".
هل فهمت الدولة الرسالة؟ هل عرفت أننا في زمن لا يُجدي فيه المنع، وأنها أمام جيل لا يرى الصواب والخطأ والعيب والحرام إلا مفاهيم نسبية تختلف من شخص لآخر، وبالتالي لا يجوز أن يتم مصادرة رأي أحد؟
بل هل تريد الدولة أن تعرف كيف تُستقبل قرارات "شرطة الأخلاق" ومحاولة تكييفهم بحسب ما تريد السلطة، يكفي أن أقول إنه بعد ساعة واحدة من صدور قرار هاني شاكر بمنع مطربي المهرجانات من الغناء، تحول نقيب المهن الموسيقية نفسه إلى مادة ثرية لـ"الكوميكس" التي حولته إلى "مسخة"، وبات كوحش يكشر عن أنيابه، أمام فأر يخرج له لسانه لأنه يعرف أن هذا الوحش "فارغ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 22 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت